الحراك الحقوقي في سورية بين النقد والنقض!
رزان زيتونة
لا يمكن وصف مسار الحركة الحقوقية السورية بأقل من أنه متعثر، بل وسار أحايين كثيرة إلى الوراء بقدر أو أكثر ما خطا إلى الأمام. منظمات ذوَّت وأخرى فقدت مصداقيتها والبقية تنازع لتبقى على قيد النشاط بما يتوافر لها من إمكانات. ربما لم يكن بالإمكان أفضل كثيراً مما كان، إذا أخذنا بالاعتبار مجمل الظروف الذاتية والموضوعية التي أحاطت بنشأتها ونشاطها، من غير أن يعني ذلك أن مسؤولية بقدر محدد لا تقع على هذا الحراك بمجمله لما آلت إليه أحواله.
والواقع أن نقد تلك الأحوال والإلقاء باللائمة على أسبابها ومسببيها هو أمر شائع ما بين المنظمات نفسها والنشطاء على اختلاف مشاربهم. وهو أيضاً وفي مناسبات مختلفة، من الأمور المعتادة لدى أطراف عديدة أخرى، من الصحافة شبه الرسمية، إلى الصحافيين ‘المستقلين’، إلى نشطاء في ميادين أخرى وغيرهم.
دائماً ما ينصب هذا النقد على كون المنظمات الحقوقية السورية تحصر اهتمامها ونشاطها في ميدان واحد وحيد، وهو رصد وتوثيق حالات الاعتقال التعسفي والدفاع عن معتقلي الرأي. ويجري التخصيص أكثر من ذلك، بأنها لا تهتم إلا بأولئك الذين يعتقلون بسبب اتخاذهم موقفاً معارضاً أو ناقداً للنظام. والعبارة الأخيرة أنقلها حرفياً كما سمعتها وقرأتها مرات عديدة، وإن كان من الصعب ربما نقل كمّ الغضب الذي يرافق كتابتها أو قولها من قبل أصحابها.
بالتأكيد، إن أصحاب هذا الرأي محقون في انتقاداتهم لجهة انعزال الحركة الحقوقية عن العديد من القضايا التي من المفترض أن تكون ضمن حيز اهتمامهم، وإن كان التقصير مبرراً في بعض الحالات بسبب ظروف عمل تلك المنظمات وقلة كوادرها وما تتعرض له من ضغوط أمنية نجحت إلى حد بعيد في تحجيمها والحد من فاعليتها، فإنه في أحيان أخرى يكون تقصيراً من باب الاعتياد فقط!
لكن ما هو غير مفهوم، أن يكون محل الغضب هو تركيز تلك المنظمات على قضايا الاعتقال التعسفي على خلفية التعبير عن رأي معارض كائناً ما كانت حيثياته وخلفياته. فإن سُجّل للحراك الحقوقي على مدى سنواته القليلة الماضية نقطة لمصلحته، فإنما هي إظهار ملف الاعتقال التعسفي إلى العلن وفرضه كأحد أكثر ملفات حقوق الإنسان إلحاحاً في سورية.
طوال عقدين من الزمن، كان اعتقال واختفاء عشرات الآلاف من السوريين يجري بمعزل عن أي نشاط إعلامي أو حقوقي، إلا النزر اليسير جداً مما لا يقارن بحجم المعاناة والانتهاكات الواقعة حينها. وحين أخذت المنظمات الحقوقية على عاتقها هذا الملف، فهي فعلت ذلك ولاتزال منفردة، ولم يبادر أي من الأطراف الذين ينتقدون فيها هذا الأداء إلى تبني قضية معتقل أو الانضمام إلى المطالبة بكف يد الأجهزة الأمنية عن ممارسة الاعتقال التعسفي.
وحيث تبادر المنظمات إلى إصدار عشرات البيانات في قضية اعتقال معينة على خلفية التعبير عن ‘رأي معارض’، فلأن من خضع للاعتقال يواجه مصيراً مجهولاً، من التعذيب النفسي والجسدي، إلى الاختفاء القسري، إلى المحاكمات الصورية، إلى تدمير المستقبل العلمي والمهني، إلى ما قد يصيب الجسد من وهن ومرض، إلى ما يلحق الأسرة من معاناة تترك فيها آثاراً لا تندمل، إلخ… إلخ.
ولأن هذا ‘الرأي المعارض’ هو من حق صاحبه بل ومن أبسط حقوقه، وإن ارتأى آخرون مجالات عديدة مختلفة للتعبير عن آرائهم، فإن البعض يرغب في التعبير في هذا الميدان حصراً وقول ما لا يرغب أو يجرؤ الآخرون على قوله، أو يختلفون معه.
ولأن ‘القضايا’ الأخرى جميعها على أهميتها وحيويتها، تجد عشرات المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام غير المحجوبة أو المحاصرة لإعلانها والدفاع عنها، بينما تستقر قضايا المعتقلين وراء الحجب والتعتيم.
في المحصلة، فإن مراجعة أداء الحراك الحقوقي السوري من قبل أصحابه والمهتمين، هو أمر لا جدال على أهميته، وتنشيط هذا الحراك لنفسه بحيث يوسّع دائرة اهتماماته مما يدخل في دائرة اختصاصه، هو أمر مرغوب من جهة، ومرهون بأمور عديدة من جهة أخرى ذات صلة بالحراك نفسه والظروف التي ينشط ضمنها.
لكن في جميع الأحوال، فإن هذا الحرص على أداء أفضل لذاك الحراك، وتوجيه النقد إليه محقاً كان أم لا، يصبح غير مفهوم حين يوجه سهامه إلى الاهتمام بقضايا معتقلي ‘الرأي المعارض’ وشجونهم، فجميعنا لانزال نتنفس ‘الحرية’ بمفهومها المضاد لجدران السجن الصغير، ولانزال نتواصل بالصوت والصورة والكلمة مع مَن نريد في هذا العالم بحيث نضمن أن كثيرين يشعرون بوجودنا ويهتمون لأجلنا، أما هم، فإنهم معتقلون، وفي أغلب الأحيان، منسيون أيضاً.
* كاتبة سورية