النظام السياسي اللبناني وخريف ثقافة تحتضر
مسعود ضاهر
نشير، بداية، إلى المقولة العلمية التي ترى أن فساد السياسة لا يصلح إلا بالثقافة العقلانية. لكن مصدر الخلل في السياسة اللبنانية أنها بنيت على قواعد غير عقلانية حولت المواطنين إلى رعايا وأنتجت زعماء طائفيين يفتقرون إلى البرامج العلمية التي تشدد على أن بناء الوطن الحر يستوجب بناء المواطنين الأحرار لا رعايا ملحقين بزعماء الطوائف الذين يدافعون عن مصالحهم الخاصة، لا عن مصالح الوطن السيد الحر المستقل. فتحول فساد رجال السياسية في لبنان، منذ زمن بعيد، إلى فساد جماعي. أما غياب المساءلة، والمحاكمة، وتنفيذ قانون الثراء غير المشروع، أو «من أين لك هذا؟»، فقد حوّل السلطة إلى تسلط، وتمثيل الشعب إلى تمثيل عليه، ومنع كل إصلاح سياسي أو إداري أو مالي. وتتحمل الطبقة السياسية في لبنان مجتمعة مسؤولية إجهاض جميع محاولات الإصلاح في لبنان. بتعيين المسؤولين في إدارة بلغت درجة متقدمة من الجمود، والمحسوبية، بسبب غياب المحاسبة. فزادت الأزمات الداخلية حدة، وانتشرت «ثقافة الفساد»، على حد تعبير الرئيس سليم الحص، لتصبح سمة بارزة في السياسة اللبنانية منذ عقود طويلة، مما أفقد مؤسسات المجتمع المدني القدرة على التغيير بعد تعطيل أجهزة الرقابة، وحماية الفاسدين والمفسدين من أعلى الهرم السياسي.
ومع تراكم الشعور بالعجز عن الإصلاح والتغيير بالطرق الديموقراطية، ضعف الأمل لدى اللبنانيين بولادة تجمع وطني يضم القوى الحية في لبنان، ونشرت مقالات عدة تؤكد «موت السياسة في لبنان» لأن النظام الطائفي ما زال قادرا على تجديد نفسه في زمن الحرب كما في زمن السلم، وبقي صامدا في مواجهة كل محاولات التغيير التي اعتمدت الطرق الديموقراطية أو الانقلابية.
لقد نجح «اتفاق الطائف» في إيقاف الحرب الأهلية دون أن يمنع تجددها. كما نجح في تجديد النظام الطائفي لدرجة تغييب الأحزاب العلمانية أو غير الطائفية، وإضعاف جميع الأحزاب الوطنية والقومية الجامعة. لكنه لم يرسم خارطة طريق لإصلاح سياسي شامل على أساس ثقافة عقلانية تنبني عليها مؤسسات دولة لبنانية عصرية قادرة على مواجهة تحديات العولمة. فانتظر اللبنانيون طويلا إصدار قانون جديد للانتخاب على أساس التمثيل النسبي، يسمح فعلا بتجديد الحياة السياسية، وبإدخال دم جديد إلى البرلمان اللبناني. فجاءه قانون العام 1960 الذي دفع بالتحريض الطائفي والمذهبي خطوات كبيرة إلى الأمام، وبات من الصعب قيام حكومة وحدة وطنية تضم شخصيات ذات كفاءة مهنية عالية، وتتمتع بنظافة الكف، ولا تستغل إدارات الدولة وأموالها لمصالح شخصية وحزبية وطائفية.
وبما أن الإدارة هي مرآة الشعوب، فإن الإدارة اللبنانية في ظل تقاسم المغانم بين زعماء الطوائف ستبقى عاجزة عن بناء دولة التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة التي توجد فرص العمل لأجيال متعاقبة من اللبنانيين، وتستفيد من طاقات اللبنانيين المنتشرين لتعزيز ركائز الاقتصاد، والتربية، والثقافة، والخدمات الاجتماعية في لبنان. وتؤكد تجارب المرحلة الممتدة من الاستقلال السياسي عام 1943 حتى الآن، على أن النظام السياسي الطائفي في لبنان ما زال مستمرا بقوة بسبب غياب البديل الديموقراطي أو تغييبه. لكنه توقف، منذ زمن بعيد، عن تجديد نفسه بحيث يبدو الأداء السياسي للطبقة المسيطرة في تراجع مريع.
1ـ فالتمثيل الشعبي بات أكثر تشويهاً بسبب قانون الانتخاب، وتقسيم الدوائر، والمال الانتخابي والتشنج المذهبي. وقد عجزت الطبقة المسيطرة عن إجراء تعديلات جذرية على بنية النظام السياسي الطائفي نفسه لدرجة بات معها قديمه الطائفي أفضل من جديده المذهبي والميليشياوي.
2ـ والممارسة الديموقراطية في لبنان حرة من حيث الشكل فقط، لأنها تجري في حمى القانون، إلا أنها غير سليمة من حيث المضمون بل فقدت صدقية تمثيل الشعب اللبناني، فأبهرت المراقبين الدوليين، ونالت الكثير من المديح دون أن تدخل أي تغيير جذري في البرلمان الجديد.
3ـ أثبت النظام السياسي اللبناني في صيغته الراهنة أن التمثيل الطائفي والقهر الطبقي بات اليوم أكثر سوءاً عما كان عليه في مرحلة الانتداب الفرنسي. فالديموقراطية على الطريقة اللبنانية عملت، بالدرجة الأولى، للحفاظ على التقاليد الإقطاعية الموروثة مع التشدد في محاربة الأفكار الإصلاحية الجديدة لمنع القوى والأحزاب العلمانية من الوصول إلى سدة الحكم. فاستمرت القوى الطائفية والمذهبية والعائلية تجدد سيطرتها، وتجدد معها تقاليدها السياسية البالية التي بنيت على مقولات سياسية هشة، هي تعبير عن أزمة ثقافة إقطاعية تحتضر.
4ـ دافع زعماء الطوائف بشراسة عن ديموقراطية شكلية تضمن مصالحهم بصورة دائمة. فتضامنوا معا ضد كل أشكال التغيير والإصلاح، ومنعوا بناء لبنان على أسس جديدة تتجاوز الموروثين العثماني والفرنسي في البنية الطائفية.
فتحول النظام السياسي اللبناني إلى نظام مولد للأزمات الحادة، وبات كبار الساسة في لبنان مجرد زعماء طوائف ومذاهب، يفتقرون إلى الحد الأدنى من سمات الزعيم الوطني الذي يحظى باحترام اللبنانيين في جميع الطوائف والمناطق.
5ـ بقي أن نشير إلى أن التمثيل الشعبي على أسس غير ديموقراطية هدد الحريات الأساسية لجميع اللبنانيين، ومنع بناء دولة القانون والمؤسسات، وأضعف العيش المشترك، وقلص مساحة الحرية، وزاد من أمراض الطوائف الهرمة التي تعيش حالة من الأزمات الداخلية الحادة من الصراع على السلطة في لبنان، وعلى التمثيل الحصري داخل كل طائفة.
6ـ يدرك اللبنانيون جيدا خطورة السياسات المتشنجة لزعماء الطوائف المتناحرة على اقتسام المغانم. وهي تنذر بمرحلة صعبة جدا تطال مصير لبنان كدولة حرة مستقلة وذات سيادة. فهذا الشكل المتخلف من الصراع على السلطة لا يطمئن اللبنانيين إلى غد مشرق، بل يهدد السلم الأهلي في لبنان.
نخلص إلى القول إن لبنان اليوم يفتقر إلى القيادة السياسية والأحزاب الوطنية الجامعة. ومن حق اللبنانيين، لا بل من واجبهم، أن يرفضوا المقولات السياسية الطائفية المنتشرة لدى قادة الموالاة والمعارضة، لأنها تعبر عن ثقافة جامدة وغير عقلانية ما زالت تتحكم بمصير لبنان واللبنانيين. وهي تنتج على الدوام قوى طائفية تلهث وراء السلطة دون أن يكون لها برنامج الحد الأدنى من التغيير، وتضمن بقاء الامتيازات الطبقية لزعماء الطوائف ورجال المال والنفوذ، وتعيد تجديد القوى الطائفية الطبقية المسيطرة، وتمنع قيام حركة سياسية جديدة تساهم فعلا في إدخال ثقافة التغيير الجذري على بنية النظام السياسي اللبناني.
وبعد أن منع رجال السياسة في لبنان قيام الدولة المركزية القوية والعادلة، واستغلوا الدولة لمآربهم الخاصة، انتشرت المحسوبية والفساد والأمية والبطالة في صفوف اللبنانيين على نطاق واسع، وأفرزت الطائفية المتشنجة قوى سياسية تهدد السلم الأهلي الذي يشكل الملاذ الأخير، وتهدد بتجديد حرب أهلية في ظروف إقليمية متفجرة تقودها إسرائيل لتغيير موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط.
ختاماً، يعيش النظام السياسي اللبناني مأزقاً بنيوياً بعد أن جدد نفسه لعقود طويلة على أسس غير عقلانية ولم تعد تتلاءم مع التبدلات الجذرية التي شهدتها الأنظمة الديموقراطية المتطورة. وبات قادته أسرى الحفاظ على مصالحهم الشخصية. وقد رفضوا التغيير الديموقراطي التدريجي وفق برامج ثقافية طويلة الأمد تعيد صياغة السياسة اللبنانية على أسس وطنية غير طائفية، ويبتكر مثقفوها أساليب جديدة في العمل الديموقراطي للارتقاء بالتمثيل الشعبي، وبناء دولة القانون والمؤسسات القادرة على امتصاص التشنجات الطائفية والحد من تأثير العامل الإقليمي.
لكن لبنان بحاجة إلى سياسيين من نوع جديد، ولديهم الجرأة الكافية لإصلاح النظام السياسي المولد للأزمات، وانطلاقا من قانون انتخاب عصري غير طائفي يساوي بين اللبنانيين كمواطنين أحرار في دولة حرة وذات سيادة لا كرعايا في دولة الطوائف المتعايشة على أرض واحدة، وتدار سياستها من خارج لبنان.
السفير