مَنْ سابق أباه
صبحي حديدي
تأملوا هذا التشخيص ـ الحيواني، كما يجوز القول ـ للصراع العربي ـ الإسرائيلي: ‘اليهود والعرب أشبه بعنزتَيْن تواجه إحداهما الأخرى، فوق جسر ضيّق. لا مفرّ إلا أن تقفز واحدة منهما إلى النهر، وهذا يعني موتها. العنزة الأقوى سوف تجبر العنزة الأضعف على القفز، وأنا مؤمن أنّ الغلبة سوف تكون للقوّة اليهودية’. صاحب التشخيص هو البروفيسور بنصهيون نتنياهو، والد رئيس وزراء الدولة العبرية، والأستاذ السابق في جامعة برنستون، والمؤرّخ الأخصائي في تاريخ اليهود الإسبان ومحاكم التفتيش؛ وكلامه هذا جاء في حوار مطوّل مع صحيفة ‘معاريف’ الإسرائيلية، قبل أسابيع. وماذا عن قفزة العرب عن الجسر، يسأله الصحافي، فيجيب البروفيسور (الذي بلغ سنّ الـ 100 سنة): ‘إنها تعني عجزهم بعدها عن محاربتنا، وهذا يتضمن منع الغذاء عن المدن العربية، وحرمانهم من التعليم، وقطع التيار الكهربائي عنهم، وإجراءات أخرى. لن يكونوا قادرين على الوجود بعدئذ، وسيفرّون من بلادنا’.
وهكذا، من الطبيعي أن يتابع الصحافي: ‘أنت تكره العرب، وهذا أقلّ ما يُقال’، فيجيب نتنياهو الأب: ‘لا تجد التوراة صورة أسوأ من رجل الصحراء هذا. لماذا؟ لأنه لا يحترم أيّ قانون. ولأنه في الصحراء يستطيع أن يفعل ما يشاء. الميل إلى النزاع كامن في جوهر العربي، إنه عدوّ بالجوهر. شخصيته لن تسمح له بالمساومة أو الإتفاق، بصرف النظر عمّا سيواجه من مقاومة، أو يدفع من ثمن. وجوده عبارة عن حرب أبدية’. والحلّ، يسأل الصحافي، ‘لا حلّ سوى القوّة’، يجيب البروفيسور: ‘ينبغي علينا اجتياح كلّ منطقة محلّ نزاع في أرض إسرائيل. نجتاحها، ونحتفظ بها، حتى إذا جلب هذا علينا سنوات من الحرب. علينا اجتياح غزّة، واجزاء من الجليل، والجولان’. كلّ هذا على الخلفية الصهيونية العتيقة التي لاح أنّ غولدا مائير كانت آخر القائلين بها علانية: ليس في إسرائيل سوى الشعب اليهودي، ولا يوجد شعب فلسطيني، بل محض سكان عرب.
وقبل أيام أجرت القناة الثانية الإسرائيلية حواراً مع الرجل، كشف فيه النقاب عن حقيقة موقف ابنه بنيامين من مسألة حلّ الدولتين: بيبي لا يؤمن أبداً بهذا الحلّ، وقد تقصّد وضع شروط مستحيلة على الفلسطينيين وهو يعلم أنهم لن يقبلوا بها، وهذا ما سمعه الأب من الإبن مباشرة. كذلك انتهز الشيخ الفرصة، فعاد إلى تأكيد مواقفه: ‘هذه أرض يهودية، وليست أرضاً للعرب. لا مكان هنا للعرب، ولن يكون هنا مكان للعرب’. نتنياهو الإبن استشاط غضباً هذه المرّة، واصدر مكتبه بياناً يتهم فيه الصحافي والقناة باستغلال شيخ طاعن في السنّ، متناسياً أنّ الصحافي ذاته، في القناة ذاتها، كان قد حاور نتنياهو الأب قبيل انتخابات الكنيست، بناء على رجاء نتنياهو الإبن، في إطار حملته الإنتخابية!
سلوك البروفيسور لا يقتصر على مواقفه العنصرية من العرب والفلسطينيين فحسب، إذْ لعلّ أحدث مآثره كانت تلحق الأذى باليهود أنفسهم، وتصيب الفلسفة الصهيونية في بعض أهمّ ركائزها الأخلاقية المزعومة. وكان نتنياهو الأب قد ألقى محاضرة في القدس المحتلة، إحياء لذكرى أبا أخيمئير، أحد كبار قادة الحزب ‘التنقيحي’ الذي أسّسه زئيف جابوتنسكي سنة 1923. وأخيمئير هذا كان في عداد الصقور المتشددين قولاً وفعلاً، وكان الأطول لساناً في استمطار اللعنات والشتائم والاتهامات، ضدّ حاييم وايزمن و’الصهاينة الكاذبين’، من ‘اشتراكيين’ و’إنسانيين’ و’أحباب صهيون’؛ وكذلك ضدّ تسعة أعشار المنظمات الصهيونية أياً كانت وظائفها، من الـ ‘هستدروت’ وحتى أصغر المنظمات المعنية بمسائل الهجرة وشراء الأراضي وتنظيم الإستيطان.
العقيدة الفاشية كانت الأقنوم الثاني في فلسفة أخيمئير، فلم تكن تتماهى مع الأفكار الفاشية فحسب، بل كانت تتطابق على نحو صارخ مباشر مع الطبعة الإيطالية من العقيدة الفاشية، ومع شخصية موسوليني دون سواه. وأخيمئير لم يتردد في تشبيه جابوتنسكي بموسوليني، بل وأطلق عليه لقب ‘دوتشي يهودا والسامرة’. أكثر من ذلك، اعتبر أنّ صعود أدولف هتلر والنازية الألمانية يقدّمان خدمة ‘خماسية’ للحركة الصهيونية: تخليصها من ‘ميوعة’ الصهاينة الإنسانيين، أمثال آحاد هاعام؛ والبرهنة على أن انتهاك ‘روح الأمة’ سوف يطلق أفضل ما فيها: أبطالها الأشبه بالأنبياء؛ وإثبات إفلاس الذين يفضّلون تحسين أوضاع اليهود في الشتات، بدل نقلهم إلى فلسطين؛ وتقديم دليل جديد على استحالة اندماج اليهود في مجتمعاتهم ‘المضيفة’؛ وإضعاف الشيوعية السوفييتية عبر تطهير ألمانيا، أعظم الأمم في عالم ‘الأغيار’، من شبح الشيوعية الذي تنبأ به ‘اليهودي العاقّ كارل ماركس…’.
ومن اللافت حقاً أنّ هذا الطاعن في السنّ لا يقرّ وقوف عنزتين على جسر واحد، هو الذي لم يولد على ذلك الجسر بل هاجر إلى فلسطين قادماً من بولونيا، ولكنه في الآن ذاته يستلهم الفلسفة النازية ذاتها التي قادت الملايين من ابناء جلدته إلى المحرقة. البعض، في إسرائيل، افترض أنّ الأب لا يتقلّب في آرائه، ولا يتشدّد أو يتطرّف، إلا لخدمة مصالح الابن الانتخابية، وتحسين تحالفاته مع القوى الدينية واليمينية الأشدّ غلوّاً في إسرائيل. لكنّ الوقائع بيّنت أنّ هذا التفسير خاطئ تماماً، ومضحك في الواقع، لأنّ الإبن لم يكن يقتفي خطى الأب فحسب، بل كان يسبقه ويذهب أبعد.. أبعد بكثير!
خاص – صفحات سورية –