نحن والسّياسة.. من القاتل ومن القتيل؟
ماجد الشيخ
متى ننتهي من قتل السّياسة، أو متى تتوقّف السّياسة عن قتلنا؟ السؤال الأوّل يشير إلى سلبيّة التّعاطي مع السّلطة القامعة للحرّيّة السّياسيّة، وكونها العامل الأوّل الدافع إلى قتل السّياسة، والُثّاني يؤشّر إلى التّلقّي السّلبي للسياسة من جانب النّاس، ومن جانب السّلطة على حدّ سواء؛ كونها عامل القطيعة الوحيد، أو عامل التّقاطع الوحيد الرّابط بين طرفين أو أكثر، لا يجيد التّعاطي معها سوى الدّولة ـ وليس أيّ دولة ـ الدّولة هي صانعة السّياسة، وصنيعتها، أما السلطة فهي القاتلة في الكثير من الأحيان، أو على الأقل، العاملة، أو العامدة إلى تغييبها طوعا أو قسرا، ذلك أنها لا يمكن أن تتعايش ونقائض لها فوق أرض واحدة.
وقد آن للسّياسة أن تترجّل؛ من علياء أسيجتها وسجونها إلى بيداء النّاس وفضاء المجتمعات؟ آن لنا أن نتنفّس في حضرة السّياسة التي تعيش في أسر زنازين أنظمة سلطويّة وشعبويّة وقوى وتيّارات سلطويّة وشعبويّة بطريركية، لا تعاديها فقط، بل تعادي معها أيّ قضيّة مجتمعيّة و/أو فكريّة أو فلسفيّة، وهي في معاداتها للثّقافة ما عادت تُعنى إلاّ بتكريس الطّلاق مع السّياسة، أي تكريس الطّلاق مع المجتمع، الّلهم إلا مع تلك الفئات أو النخب المستفيدة من وجود النّظام نفسه، فضلا عن استفادتها من طلاقه مع السّياسة، وأولئك الهاتفين على الدّوام نشيد «بالرّوح .. بالدّم نفديك يا ..» في تكريس لروح استبدادي مقيم، لا يهتمّ بكم من الأرواح أو كم من الدّماء قد تسفح أو تسفك أو لا تسفك من أجله. أو أنّ الأمر لا يتعدّى قول أو ترديد شعارات لفظيّة ليس إلاّ.
لقد حوّلت السلطة القهريّة والأنظمة السلطانيّة والاستبداديّة وبيروقراطيات الأجهزة الأمنية والعسكريّة الحاكمة، السياسة في المجتمعات التي هيمنت أو تهيمن عليها، إلى مرتع لها ولأجهزتها، بعد إطاحتها والاستيلاء عليها وسلبها صبغتها الاجتماعيّة والمجتمعيّة، ليتمّ تحويلها إلى سلطة بصيغة المفرد الفرد؛ فردانيّة الزعيم أو الفئة الطبقيّة، كما فردانيّة النخبة أو النخب التي عاندت مواقعها وغادرتها نحو الدائرة الأشد حلقيّة ونرجسيّة وأنانيّة وزبائنية، في خدمة سلطة القهر والغلبة السياسيّة، وكذلك الدينيّة؛ سواء بسواء، فالسلطة هنا هي المشترك الأوحد الذي أمست تتّجه إليه جهود العديد من السياسيّين، ومن المثقّفين أو المشتغلين في الحقل الثقافي، وذلك حين يجرى إلحاق الثقافة، ليس بالسياسة بمفهومها السليم، وإنّما بالسلطة، التي عملت على إطاحة السياسة والاستيلاء عليها، وعمدت إلى إقصاء كلّ ما عداها, في عمليّة احتكار لها، بل اعتقالها واستمرار حشرها في الفضاء العام للسلطة القهريّة.
وإذا كان من أولى موجبات السّياسة وواجباتها الحوار، فإن من أولى موجبات الحوار وواجباته افتراض وجود السّياسة، وخلقها كلّما أمكن ذلك، استناداً إلى ضرورة مهمة من أولى مهام اشتغالها نفي النقائض والتباغض والتّباعد واللا حوار، أو معالجة «طرش الحوار» على ما درجت عاداتنا وتقاليد راسخة في «حوار طرشان منتج». وقد رأينا في السّنوات الأخيرة كيف أنّ إدارة سيّئة لأيّ حوار؛ قد تفضي إلى تقاتل أو ما يشبه الحرب الأهليّة. كما أنّ إدارة الظّهر للحوار قد لا تؤدّي إلى نتائج أقل مأساوية وكارثيّة، على أنّ عدم قيام حوار منتج حقاً، جاد وضروري إزاء موضوعات خلافيّة لا تستقيم دروب الوصول إلى التّوافق في شأنها بغير الحوار، هي بمثابة مقتلة أخرى من مقاتل النّزاعات الأهليّة والجروح المفتوحة دوماً على غرغرينا القطع من دون الوصل، والقطيعة من دون التواصل.
ولأن غيبة السّياسة، أو في ظلّ غيبوبتها، تضحي المثالات واقعاً يتطاول باستمرار، فإنّ هوامش الأخطاء والخطايا في الحسابات العربيّة، والإقليميّة والدّوليّة أضحت كبيرة وكبيرة جدّا، بغض النّظر عن وجود «مؤسّسات ديموقراطيّة»، حيث المفترض أن تلعب هذه «المؤسّسات» دوراً هامّاً إلى جانب السلم الأهلي، والسلم الإقليمي والدّولي، لتقف سدّا حاجزا أمام أيّ حرب، ولا سيّما تلك الحرب التي تخدم سياسات بعض السّاسة أو المؤسّسات أو المجمّعات أو الكارتلات, بغض النّظر إن كان أولئك السّاسة من الدّكتاتوريين المستبدّين، أو ممن يزعمون أنّهم ديمقراطيّون. وأوضح مثال على ذلك أنّ مؤسّسات النّظام الأميركي التي شاركت في اتّخاذ قرار الحرب الانتقامية، أو ما أطلق عليها من توصيفات الاستباقيّة أو الوقائية ضدّ أفغانستان، ومن ثمّ العراق؛ بحجّة الحرب على الإرهاب، أثبتت أنّها لا تقلّ وحشيّة وتخلّفا عن أيّ مؤسسّة من مؤسّسات الأنظمة الديكتاتوريّة أو الشّموليّة السائدة في عالمنا المعاصر، والتي سبق أن اتخذت قرارات بالحرب أو الحروب داخلية كانت أم خارجية.
تسلّط السياسة الاستعماريّة في بلادنا، ما يني يعكس نفسه عبر تسلّط أنظمة سلطويّة واستبداديّة، طوّحت السياسة خشية الإطاحة بها قبل استفحال خطرها (السياسة) وامتداده، إلى تخوم مجتمعاتها التي أغرقت في لجج من التعصّب القبلي والعصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة والزبائنيّة، فكيف للعصبيّات والتعصّبات المتخلّفة أن تواجه ـ ولو مجتمعة ـ مشروعاً للتقدّم الغربي الحديث جرت وراثته عن الاستعمار الأوروبي القديم، ونجحت دول الغرب الإمبريالي في تحديثه، وتحفيزه مباشرة أو بالواسطة من أجل امتلاك عناصر القوّة، والاستفادة بشكل رئيس من عناصر الثروة المحميّة اليوم؛ بالقواعد والأساطيل والقوات العسكريّة الموجودة في بلادنا بشكل مباشر، ما عاد خافياً على شعوبنا والعالم أجمع.
من هنا.. أمكن القول، امتداداً من مقبرة الأرقام الإسرائيليّة في فلسطين المحتلّة، إلى مقابر الأرقام العربيّة؛ إن الحال واحدة، وواحد هو الميت في الأفنية كلها؛ هنا أو هناك. فمتى يكون لأرقامنا قيمة، القيمة المضافة إلى ذواتنا كبشر، في نظرتنا نحن إلى ذواتنا لا في نظر الساسة ومن يقاولونهم. فإذا لم نصرّ على البقاء أحياء في مقابر الأرقام العربيّة، فقد نتحوّل إلى ضحايا ميّتين في مقابر أرقام عربية أوسع. فهل نفرح لأنّ شهداءنا عادوا من رحلة أسرهم ووجودهم هناك كأرقام .. مجرّد أرقام، كي يستعيدوا أسماءهم هنا؟ فيما الأحياء هنا ما برحوا مجرّد أرقام في سجلاّت زنازين الاستبداد والأنظمة السّلطويّة؟ فإلى متى تستمر المهانة؟ مهانة حرّية قتلنا بالسّياسة وبغيرها, ومهانة قتلنا للسّياسة.. وللحرّية؟
([) كاتب من فلسطين
السفير