صفحات ثقافية

كومبيوتري المحمول وهاتفي المحمول.. أما الكتاب فالشاشة تتكفل به!

null
ليسيان سفيز
ترجمة: المبارك الغروسي
ان كنت ذاهباً الى جزيرة فأي كتاب تحمل معك؟
إن ما أعقب الثقافة التي كانت تروي المجتمع والكتاب جوهرها هو ذلك التواصل المقسم الذي بقدر ما يباح فيه كل كلام بقدر ما يكون فيه مستهانا.
هل مازال الرقم ثلاثة يمارس نفوذه السحري على العقول المعاصرة؟ إنه لا يسعنا إلا أن نسجل أن المصنفات التاريخية الفجة التي ترتب التاريخ في أطوار ثلاثة (يكون آخرها بطبيعة الحال أحسنها) تتمتع ببعض الحظوة لدى المتسرعين من الناس الذين يطمئنون بذلك على انضمامهم لعصر الفردوس الجديد.
و يُفترَض حسب هذا التصنيف النمطي المبتذل آن تكون هذه الأطوار الثلاثة هي :مجتمع شفهي (قديم إذ إنه بلا تقنية وبالتالي بلا تقدم وبلا تاريخ وبلا مساواة) يتلوه مجتمع الكتاب (الماضي على الطريق الصحيح نحو التقدم العلمي والحرية والمساواة بفضل المطبعة) ثم يأتي بعد ذلك مجتمع التواصل الإلكتروني.
ويبدو جليا لمن اهتم ولو قليلا بتاريخ الفكر أو تاريخ الحضارات، وبعلم الاجتماع أو الأناسةanthropologie أن هذا التصور شارد في محتواه بل وحتى في المنهج الذي يؤسس له؛ وهذا المنهج الذي يكمن في رسم جداول كبرى للمشهد العام يخلط فيها دون تمييز بين الابتكارات العلمية والتقنية وبين تطور العادات والتقاليد المجتمعية والسياسية من خلال إقامة روابط سببية بين هذه وتلك. إن دور ووظيفة الكتاب والقراءة ومن ثم وظيفة الكتابة لا يمكن مقاربتها بمثل هذه الطريقة المجازفة؛ ففي كل عصر بما في ذلك عصرنا تتعايش العديد من أصناف تواصل المعارف . ويجب الانتباه بالخصوص إلى الروابط المتعددة الأقطاب ذات العقليات المتعددة التي تقام بين التقنيات الحديثة والتحولات المسجلة داخل المجتمعات؛تلك الروابط التي لا تسمح بإرساء علاقة سببية أحادية الجانب بين التقنية والمجتمع.(1)
أما العلاقة بين الشفهي والكتاب فإنها تمر عبر مفهوم للقراءة هو أبعد من أن يكون أحادي المعنى؛ فلقد كانت القراءة في البدء عند اليونانيين القدماء شفهية وبصوت مرتفع(مع فصل وتمييز الحروف والمقاطع اللفظية) في حضور جمهور من المصغين [2] قبل أن تصير قراءة صامتة، أي فردية. فالانتقال من الصوت المرتفع الذي يستدعي النقد والمناقشة في فضاء عام إلى القراءة الصامتة التي لا يمكن أن تصير عامة إلا عند انتهائها يعتبر لحظة ذات معنى في تغير القيم والعادات بل وكذلك في تعريف مصطلحات مثل عام وخاص، وجماعة وفرد، وفي مناهج اكتساب المعرفة.
إننا نميز في اليونان القديمة- النموذج المثالي لفضائنا الديمقراطي- مواقف واضحة التباين بين معرفة تعبر عن ذاتها شفهيا ومعرفة تستدعي استناد كتابة ما. فلدى أفلاطون عديد من النصوص التي تبجل رفعة شأن المعرفة اللاكتابية ascriptural ( إذ تعتبر الكتابة أو النص المسجل عذرا للذاكرة يتسبب في الكسل الذهني)، بل أكثر من ذلك يكون القارئ في مرتبة المأمور، بحيث أنه يخضع للمكتوب الذي هو بصدد قراءته إلى حد يصير معه عبدا للناسخ scripteur، فتكون بذلك العلاقة بين القارئ والناسخ علاقة تلميذ خاضع لمعلمه. وتسمي لغة الإغريق القارئ دون أي حرج في التعبير بالمفعول فيه katapugon . ويوجد الناسخ في موضع قوة بالنسبة للآخرين في حين تعتبر الكتابة للذات فعل استبدال نسخة سيئة من الذاكرة ولعل هذا أصل النعت المحتقر الذي وجهه أفلاطون لأرسطو حين قال عنه ‘ إنه قرّاء’، وهذا النعت الذي قد نرى فيه نحن اليوم نوعا من المدح نكتشف أنه يتضمن ذما .
ويكون الفضاء العام الناشئ إذا هو الفضاء الذي تتجابه فيه حجاج شتى ضمن مناقشة يطبعها حسن النية بخصوص خطاب ملفوظ أو نص قرء جهرا (مثل فيدر الذي قرأ نص سيده ليزياس ضمن محاورة افلاطون التي تحمل اسمه).
يمكن أن تكون المناقشة شفهية أو كتابية في مسلسل النقد الذي يوجهه الكتاب الفلاسفة إلى أسلافهم أو معاصريهم.إن نقل هذا النقد في محاورات (أفلاطون) وتلبيسه في مسرح هزليات (أرسطوفان) تبينان الرباط المركب الذي يعقد بين الكتاب والكلام والمناقشة النقدية وهكذا تتراءى نصوص للقراءة متنوعة وملموسة بشكل متزامن ،و مرتبطة بالموقع الاجتماعي والحرفة وكذا بالنظام السياسي والديني. وإذا كان النص العامي la’c موضوع مناقشات عمومية، فالنص الديني يعرض الكتاب الحق الذي يتبعه بالحرف قراء خاضعون؛ فتكون القراءة صامتة أو بوشوشة في إسرار قراءة حرفية ليقفل الفضاء العام لمدة من الزمن ويكف عن تقديم مقتضيات فضاء للمناقشات النقدية.

القارئ المؤول

لم يكن الشارح (للنصوص المقدسة أو لتلك التي كانت تعتبر منيعة مثل نصوص أرسطو ذاك المنعوت بالقراء) يحيد قيد أنملة عن الخط المرسوم فوجب بذلك التمرد على هذه القراءة الخنوعة واستدعاء تصور التأويل من أجل استعادة معنى الفضاء العام. ومن أجل إسناد هذا التحرير للقارئ سنكتف بالاستشهاد بسبينوزا حيث يقول: ‘على كل واحد أن يحفظ حرية رأيه وحكمه وقدرته على تأويل الإيمان كما يفهمه’ و’يمكن بل يجب منح الحرية الفردية للجميع من طرف الجماعة العمومية’ثم’يجب على القوة السائدة أن تدع لكل واحدالحرية في اعتقاد ما يشاء وفي التعبير عن فكره'[3].إن سبينوزا يدفع بذلك كل صغار في الارتباط بالنصوص وكل إذعان للتطير أو للنبوءات…
إن التأويل قراءة ناقدة أو قراءة ثانية بل إنها ‘كتابة ثانية’ كما يحلو ذلك لبارت. فيفترض أن يكون التأويل بهذه الحال لا نهائيا إذ يستدعي كل نص تأويلا يصير هو ذاته موضوع تأويل أخر…فللكتاب سلالة تكاد تكون بلا حد من خلال جمهور القراء المؤولين المتميزين تمييزا عن أولئك المفعول فيهم. إن التأويل عنصر فاصل في الفضاء العام الحر والناقد؛ غير إن المسألة لا تنحصر مع ذلك في مهارات المؤول بل فوق ذلك يجب أن يكون الفضاء العام-فضاء الأنوار- مايزال له وجود في الواقع. والمسألة ليست بتلك البساطة؛ فإذا كان القارئ المؤول مازال موجودا باعتباره عنصرا فعالا فإن الفضاء العام قد تبدل وقد غدا بعد الآن مجزئا إلى أقصى الحدود، بل قل إنه تلاشى وذاب…
إن كل ما يوجد هو شرح، ولا وجود للنص الابتدائي المطلق الذي يُفترض فيه أن يكون الضامن القطعي لحقيقة وجب رفع الحجاب عنها. فبعدما سجل موسى وصاياه العشر التي أملاها الرب اغتاظ على هارون وعجله الذهبي فرمى بالألواح المتضمنة للوصايا وتفتت إلى ألف جزء يستحيل ضمها إلى بعضها؛ مما اضطر موسى إلى إعادة نقلها على ألواح جديدة اعتمادا على ذاكرته. والنص الذي بين أيدينا اليوم هو ذات النص المنسوخ استظهارا. فالقصة التي يرويها العهد القديم محملة بالمعنى : لا يمكننا أبدا معرفة الأصل إلا من خلال الارتجال والبناء والشرح.
وإذا كانت فكرة ارتقاء مطلق يكاد يكون سماويا،أي فكرة جدة جذرية قد شكلت جزء امن أخرويات القرن العشرين-كالشيوعية أو الفاشية- فإنها غدت بعد اليوم بائدة. الأنبياء الوحيدون الباقون في عصرنا هم علماء التقنية الذين يحتفون بكل جديد تكنولوجي في مجالات الاتصال .ففي السنوات الستين سيكون التلفزيون هو من سيغير نظام العالم؛ وفي السنوات السبعين سيكون الهاتف التلفزيوني؛وفي الثمانينيات المانيتوسكوب والفيديو ؛أما في التسعينيات فهو الانترنيت.كل عقد من الزمن كان يهتز على صيحات الخلاص هذه .فها هي السعادة قادمة والمساواة والانسجام الاجتماعي ونوع من التفاهم الشفاف بين كل الناس فوق هذه الأرض. فالتقنية تقوم بواجبها بضبطها مباشرة للمشاكل الاجتماعية كما العلاقات بين الأفراد.
إن للقارئ المؤول متطلبات أخرى فهو يعي كم يلزم من الوقت ومن المسافة ومن المحاذير حتى يبلغ بعض الإثباتات؛ تماما مثل العالم الذي يعرف أن علمه وقتي بين علم الماضي الذي تمكن من دحضه وعلم المستقبل الذي سيدحض علمه هو. القارئ المؤول الحديث يقرأ على انفراد في خلوة مع النفس وربما كان في مكتب عمله بل وكذلك في الشارع وفي المقهى وعلى الشاطئ. لا يهم الضجيج وتحرك الآخرين ولا حتى إزعاج الهذر الخارجي. يكفي أن يكون هادئا ومستعدا وجاهزا. كل ذلك مرتبط طبعا باختلاف الثقافات؛ أعني العادات.فإذا كان المترو في طوكيو مكان للنوم فإنه في فرنسا مكان للقراءة كما هو الحال عند الحلاق أو في المقهى.
إن للقراء المؤولين قراءة مختلفة بحسب كونهم يكتفون بالقراءة أو أنهم يكتبون أيضا. فالكاتب سينظر أولا إن كان يُستشهد به وهو ما قد يقوده من اللامبالاة إلى العداوة، وسيتفحص الاستشهادات الأخرى والمواد المشكلة للكتاب.و بعد قراءة متنبهة للفهرس وللغلاف ولفصل أو فصلين سيستنبط توجه الكتاب. قد يقرأ المؤول الكاتب بانتباه فقرة تلو فقرة والقلم في يده ليضع خطا تحت المقاطع المهمة أو للاعتراض عليها. إنها جعل القراءة أداة في خدمة كتابته النثرية القادمة. لكن هذه القراءة التي تقدم ميزة الخطوة خطوة المتينة تقدم كذلك عيب البطء الشديد. والحضور القوي للآخر تحول دون أن يفكرالمرء بنفسه.
سيملك شخص آخر كتابا ويرفض قراءته طالما لم ينته من كتابته؛ لكن الأمر لا يهمه كثيرا لأنه يعلم أن كل شيء هو دائما شرح وأن شرحه هو سيكون بالضرورة مغايرا للنصوص التي سبقته كما يعلم أنه من الأفضل القراءة جانبا ‘lire ê c’t” بدل القراءة داخل’lire dedans’ متخلصا بذلك من دوار القراءة داخل الأشبه ما يكون بالتنويم المغناطيسي والذي ينقلك خارج ذاتك وبعيدا عما تريد فعله وما ترتبط به.
على البحث والخيال أن يبقيا على الجانب من هذين القطبين المفرطين أي التوثيق المستنفذ الذي قد نغرق داخله والقراءة جانبا التي قد تغدو نوعا من الصيد بالصنارة.
إننا لن نبجل هنا المصادفة لأننا نعلم جيدا خصوصية المكتبات ورفوفها حيث نمضي إلى بعض المكتبات ولا نمضي إلى أخرى وإلى بعض الرفوف دون غيرها وهكذا يمكن تشجيع بروز ضربة الحظ وظهور الكتاب الجيد الذي قد يوافق حتى لو لم يكن ما يفيد فيه بحق غير فقرة واحدة أو فصل واحد. لكنها وقت إذ الفرحة والسقوط في النشوة ‘هذا ما كنت أبحث عنه ولم أجده منذ ستة شهور’ نفس الأمر بالطبع على الانترنيت حيث يمكننا دوما ممارسة نوع من الترحال الغير المنتظم والذي ينتهي بنا مع ذلك إلى الاستخبار عن الموزع serveur المناسب ومن ثم الالتزام باستخدامه لوحده.
إن القراءة الاحترافية قراءة أداتية نفعية ستميل إلى إبعاد ما لن يكون مفيدا للكتابة القادمة بينما سيستقبل القارئ الأمين بحفاوة كل كتاب قابل لأن يقدم معلومة جديدة أو إدراكا حديثا أو رؤية مختلفة للعالم.
المهم هو أن كل هذه الأصناف بتشعيباتها تشكل جزءا من مناقشة داخل الفضاء العام وإن كان ذلك بصيغ متباينة. لكن هل بقي هذا الفضاء العام هو ذات الفضاء العام لعصر الأنوار؟(قد نتساءل أيضا إن وجد أصلا في يوم من الأيام الفضاء العام الموحد) لكن لنطرح هذا الافتراض:الفضاء العام كما عرفه هابرماس[4] هو مكان رمزي يشق فيه العقل العام لنفسه طريقا عبر المناقشة بعيدا عن المصالح الخاصة والمشاريع الحرفية.إنه مكان تبادل العقل العام وليس من قبيل المصادفة أن يهتم هابرماس لاحقا بهذا العقل التبادلي raison ‘changiste الذي سماه بالتواصل النشيط communication active.[5]
تعرض هذا العقل العام الموحَّد والموحِّد الذي تجسده الدولة الهيغيلية الناشئة لإصابات عديدة؛ أولا بالأفضلية الممنوحة للنجاح بالنسبة للوفاق، ثم وبخاصة لأن الفضاء العام نفسه قد تغير أو على الأقل قد عمق تقسيماته.
لا بد أن نسجل قبل كل شيء صفته التجزئة فيه فقد كان الفضاء العام هو الوصول الكل المتساوي لمصادر محدودة:القليل من الكتب ومن المسرحيات والتمثيليات الغنائية ثم في ما بعد القليل من الأفلام القيمة وقنوات تلفزية ناذرة.كان بالإمكان فتح مناقشة حول نفس المواضيع. داخل ساحات الاستراحة كان التلاميذ قد رأوا نفس الفيلم على التلفزيون وكان يتحدثون عنه ونفس الأمر بالنسبة للمدرسين في قاعات الأساتذة والعمال في ورشاتهم. أما اليوم لم يعد احد يرى نفس الفيلم أو يمتلك نفس المعلومات بسبب تعدد القنوات المبرومة والأقمار الاصطناعية والرقمية والإنترنيت.
إن الإفراط في المعلومة يقتل المعلومة. هذا الأمر ينطبق كذلك على الكتاب فباعة الكتب مثقلون بمؤلفات غير متساوية القيمة. كيف يمكن الاختيار والاهتداء بينها؟ كانت القنوات تقدم قديما برامج جيدة لنقد الكتب.ما زالت هذه البرامج إلى يومنا لكنها تأخر إلى ساعات متأخرة من الليل. إن الكتاب لا يموت من النقصان بل من الإفراط. هناك عدد أكبر من الكتاب وعدد أكبر من المؤلفات وعدد أقل من النسخ المطبوعة [6] ومن ثم أثمان مرتفعة وقراء أقل.إن الإشباع والتجزئة اللامتناهتين لأماكن المناقشة والنقد هما الخطران الذين يهددان الكتاب.

مواجهة افتراضية

لكن هناك نظاما شموليا جديدا قد انطلق وإنا لا أفكر هنا في الفتوى التي أصدرها الخميني ضد الكاتب سلمان رشدي ثمرة نزعة شمولية صلبة وقاسية totalitarisme hard بل بالأحرى أفكر في ألان دولون وفي النزعة الشمولية اللينة totalitarisme soft القصة معروفة أراد صحافي كتابة سيرة الممثل ألان دولون فسلم مخطوطته لناشره بهذه النية. علم دولون بالأمر فتوصل بالكتاب ثم طلب بأن لا ينشر الكتاب (الذي لم يوجد بعد). بالفعل ردت دعوى دولون من طرف المحكمة الإبتدائية لكنها كانت المرة الأولى التي أريد فيها منع كتاب لم يكن قد كتب. تلك فضيحة كبرى بالنسبة للقانون العام التقليدي الذي يجعل الوقاية مقابلا للقمع في مجال الحريات العامة المكونة للفضاء العام . إن النظام الشمولي نظام وقائي يمارس الرقابة على كل ما لا يسير مستقيما. تلك عودة لنموذج قانون المشبوهين في الثورة الفرنسية الذي كان بإمكانه جر أي شخص ‘مشبوه’ في خلافه مع الثورة إلى المحاكم والحكم عليه بالموت. أما النظام الليبرالي فعلى العكس من ذلك نظام قمعي يردع بعد ما تكون الجنحة قد تشكلت .ذلك دور قضاة القضايا المستعجلة الذين يوقفون على وجه العجلة كتابا قيد النشر.
وفي حال الشك يمكن لقاضي المستعجلات أن يلحق القضية بالمحكمة المختصة وانتظار أن يأخذ القاضي المختص وقته ليحلل النص المجرَّم بدقة وإحكام.إن هذا التوازن الهش لنظام الحكم هو ما يُتَّهَم من خلال محاولة هذا الممثل . إننا حين نتحدث عن الفضاء العام فإننا نتحدث عن الحرية في إطار القانون: ذلك القانون-الحرية الذي هذبته عشرات السنين والذي قد يتم اليوم تحويله عن اتجاهه.
ثم إن مفهوم الفضاء العام ذاته قد أسيئت معاملته . فإذا كان في تعريفه يعتبر فضاء شاملا وكليا مفتوحا للجميع في كل نقاطه فإنه صار على الأنترنيت مكانا خاصا وشخصيا بما أن بلوغه يتطلب الأداء والموزع الالكتروني وبما أن الناس الدردشة داخله تتم في صيغة مواجهة افتراضية.والحال أن الفضاء العام هو بعكس ذلك تماما: إنه فضاء تصاغ فيه لحقيقة المدينة أمام جمهور الشعب المجتمع Agora أو أمام جميع ممثليه (غرفة النواب) فما عمومي ليس ما هو كلي وشامل .فعمومية الوصول للانترنيت التي تتلاشى بغياب التساوي في المعارف وبالفوارق الاجتماعية ليست كلية وشمولية.[7)
لكن بالمحصلة هل يعمل الانترنيت على إنجاح الكتاب؟ الجواب لا لأن الانترنيت مكتوب- شفهي (أي مكتوب بأسلوب المحادثة) لا لأنه يساهم في تعميق تجزئة الفضاء العام إلى عشرات الملايين من الفضاءات الزمانية العالمية.لكنه يشجع الثقافة والانفتاح على الآخر وفورية الوصول إلى النصوص (بما في ذلك الكتاب) التي لم تكن لتعرف أبدا لولاه أو لربما عرفت بعد التأخر الكبير للترجمات .إن نقدنا للتكنولوجيات الجديدة (بما فيها القنوات التلفزية المتشظية) أقل من نقدنا للخطابات التوفيقية والتبريرية والكاذبة المصاحبة لها.
كل يعرف السؤال التقليدي: ‘إذا كان عليك العيش في جزيرة خالية ما هو الكتاب لذي قد تحمله معك؟’ صار هذا السؤال اليوم مختزلا ومبسطا :’ لو كان الذهاب إلى جزيرة خالية ما هي الأشياء التي قد تحملها معك؟’ سيكون الجواب:’حاسبي المحمول، وهاتفي المحمول’؟و الكتاب؟ سيكون بالتأكيد هناك كتاب، لكن أي كتاب؟ إنه لن يكونا كتاب الجار ولا كتاب الزميل أو ابن العمومة؛ بل سيكون كتابا مجهولا من بين ملايين الكتب التي أثمرتها التجزئة المفرطة للفضاء العام.

هوامش:

عن مجلةMANIRE DE VOIR الفرنسية عدد 57
** أستاذ بجامعة باريس 1 البانتيون- الصربون
[1] راجع في هذا الاتجاه كلا من مؤلف البزابيت أينستين ثورة المطبوع Elizabeth Eisenstein, La R’volution de l’imprim’ ( La D’couverte , Paris, 1991) حيث…….لما زعم من روايط سببية بسيطة بين المطبعة والمجتمع ومؤلفي جاك غودي الرائعين في الدقة العقل المخطوط والشرق في الغرب La Raison graphique, Minuit, Paris, 1993, et L’Orient en Occident, Le Seuil, Paris, 1999
[2] Jesver Svenbro, Phrasikleia, anthropologie de la lecture en Gr’ce ancienne, La D’couverte , Paris, 1988.
[3] Spinoza, Trait’ des autorit’s th’ologique et politique, ‘ La Pl’iade ‘, Gallimard, Paris, pages 614 et suivantes.
[4] J’rgen Habermas, L’Espace public, Payot, Paris, 1978. Premi’re ‘dition allemande en 1962.
[5] إن هابرماس لا يتناول أبدا بالبحث في كتابه نظرية الفعل التواصلي Th’orie de l’agir communicationnel (Fayard, Paris, 1981) لا موضوع التواصل ولا ما يشكل أساسه المعاصر أي التقنيات.إنه يتناول من خلال شروح النصوص الكلاسيكية (و القديمة) المنطق التبادلي la raison ‘changiste…. فكيف به يسمي نصه ‘تواصل’ حين لا يذكر قط الذكاء الاصطناعي ولا علم المعارف ولا يشير إلى نظريات الإعلام أو التنظيم الذاتي في الأحياء أو الفيزياء ولا يتطرق لأحدث البحوث في اللسانيات؟
[6] راجع مقال Hubert Prolongeau, ‘L”dition en ses nouveaux habits’, Le Monde diplomatique, novembre 1998.
[7] راجع حول هذا الموضوع ‘Les ambaadeurs de la communication’, Le Monde diplomatique, mars 1999
Ne gardez plus qu’une seule adree mail ! Copiez vos mails vers Yahoo! Mail

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى