سلوك سوريا “الثابت”
هوشنك بروكا
في رده على دعوة الأسد غير الرسمية له إلى دمشق، مطلع الشهر الحالي، عبرّ الرئيس الأميركي بارك أوباما في مقابلةٍ له مع شبكة “سكاي نيوز” البريطانية أمس، عن “قلقه” من سلوك سوريا، مشيراً في الوقت نفسه عن أمله، في “أن تتحسن العلاقات بين البلدين”.
في الضفة الغربية الأخرى(الضفة الأوروبية)، يعبر الفرنسيون، وعلى رأسهم الرئيس نيكولاي ساركوزي عن ارتياحهم ل”سلوك دمشق الذي بدأ يتغير”، والذي امتدح فيه هذا الأخير أكثر من مرّة، بقوله: “أن الرئيس الأسد قد وفّى بكل التزاماته تجاهه”.
عربياً، المحادثات والمفاوضات بين “دول الإعتدال”(وعلى رأسهم “السعودية المعتدلة”) و”دمشق الممانعة”، قائمةٌ على قدمٍ وساق.
وفي مؤتمرٍ صحفي مشترك مع الوزير الفرنسي برنار كوشنير، سئل وزير الخارجية السوري وليد المعلم عن “التغيير الإيجابي في اللهجة اللبنانية تجاه سوريا”، فأجاب: “إنّ قلب سوريا كبير ومن يخطو خطوة في اتجاه سوريا نخطو في اتجاهه خطوتين”، معرباً عن اعتقاد سوريا(ه) بأنّ “بعض القيادات اللبنانية بدأت تستوعب حقائق التاريخ والجغرافيا والروابط القائمة بين البلدين والشعبين، ونحن نرحب بذلك وندعو إلى زيادة فهم عمق هذه الحقائق”.
المفهوم إذن من كلام المعلم “الكبير” هذا، عن “قلب دمشق الكبير”، هو أن سوريا الثابتة، لاتزال”ثابتة”، كما هي، على موقفها، وإنما الذي تبدّل وتحوّل وتراجع عن “غيه”، و”انتحاره وغبائه السياسيّين”، هو “الآخر”، وعلى رأسهم “الآخر اللبناني” الذي بدأ “يفهم ويستوعب” دروس التاريخ والجغرافيا، فضلاً عن دروس السياسة، وذلك على الطريقة السورية الثابتة، وأهداف “بعثها الثابت”، ورئيسها “الديكتاتور الثابت”، وشعاراتها الثابتة، في “الوحدة الثابتة، والحرية الثابتة، والإشتراكية الثابتة”.
فسوريا لم تتغيّر، كما يحلو للبعض أن يمتدح في الراهن من سلوكها، بقدر ما أن الآخر هو من تبدّل، وغيّر من سلوكه تجاه دمشق “الممانعة”.
كلّ ما في الأمر، كما يقول المعلم، هو أن “قلب سوريا الكبير”، هو الذي شاء لهذا “التحول” أن يكون، وشاء لهذا “الإنفتاح السوري” على لبنان وعلى المعتدلين العرب من حوله، أن يحصل، لا لأن “سوريا تبدلت”، ولا “لأن سوريا تنازلت”، ولا لأن “سوريا أخطأت” أو “ندمت” أو “اعتذرت عما فعلت”، وإنما لأن “قلبها الكبير”، “عفى عما مضى”، من “ذنوب وخطايا الآخر”، و”حماقات الآخر”، و”سياسات الآخر”، و”تجاوزات الآخر”، و”شيطانيات ودسائس الآخر”، و”خيانات الآخر”، و”عنتريات الآخر”!
ما تغيّر، ليس سلوك سوريا، بالطبع؛ سوريا التي استعمرت لبنان، وانتدبت عليه، وسرقته، وقتلت لبنان بلبنان، واغتالته، على مدى ثلاثة عقودٍ من صناعة الفتنة، ثم حطمته أخيراً وليس آخراً، على رأس الحريري الأب، التزاماً ب”وعد ديكتاتورها الثابت”(كما تناقلته الكثير من وسائل الإعلام العربية والعالمية، آنذاك)، في آخر لقاءٍ جمعه بالحريري الراحل، الذي لا يزال مستغرقاً في رحيله الكبير، إلى مجاهيل مد وجزر السياسة، فضلاً عن رحيله إلى مجاهيل المحاكم الدولية والفوق دولية.
وإنما الذي تبدّل، هو “لبنان حريري الإبن”، الذي سيحمل معه، قريباً، كل “لبنانه الخطأ”، و”الرابع عشر من آذار الخطأ”، ليضعه على طاولة “دمشق الصحيحة”، كي يصحح له “الديكتاتور الصحيح”، التاريخ والجغرافيا، والحدود وما وراءه، فضلاً عن السياسة، وما تبقى له من لبنان، على طريقة بعثه الديكتاتور “الصحيحة”، الثابتة، التي ما تبدلت منذ أن أصبح الرئيس يساوي كل سوريا، وتحوّلت هذه الأخيرة إلى مجرد حائط لتدوين صورة الرئيس، وأخبار الرئيس، وذكريات الرئيس، و”روحات وجيات”، و”استقبالات ومغادرات” الرئيس!
ما تغيّر، ليس سلوك “دمشق الممانعة”، الذي لن يتغيّر، على ما يبدو، وليس سلوك نظامها أو ديكتاتورها، الذي “إما سيكون أو لن يكون”، و”إما أن يقوم أو لن يقوم”، وإنما الذي تغيّر هو سلوك “المعتدلين العرب”، الذين صاروا “أكثر اعتدالاً”، وأكثر طرواةً وليونةً، ربما لتفادي “شر الكسر”، مع واحدةٍ من أكبر “مصدّرات الشر” في المنطقة بعد إيران، حليفتها الإستراتيجية المختصة في شئون العيش على أزمات العرب، واللعب ضدهم بأوراقهم.
ما تغيّر ليس سلوك سوريا “المقاومات العربية” (من العراق إلى فلسطين مروراً بلبنان)، ضد “الصهيوينة العالمية وربيبتها أميركا”، وإنما ما تبدّل هو “سلوك أميركا أوباما” الذي ارتقت فيه سوريا من “دولة مارقة”، “داعمة للإرهاب”، و”مصدرة للشر”، “لا يمكن الحوار معها”(بحسب أميركا بوش)، إلى “دولة مهمة وضرورية”، “قابلة للتغيير ودعم الإستقرار والسلام في المنطقة”!
ما تغيّر، ليس سلوك سوريا مع إيران، اللتين تسبحان في فلك “سياسة واحدة”، و”مقاومة واحدة”، و”صداقة واحدة مع إرهاب دولي واحد”، وإنما الذي تغيّر، هو “الآخر”(من المتغيّر أوباما إلى المتغيّر لبنان وما بينهما من عرب متغيّرين)، عسى وعلّ أن يغيّر هؤلاء “المتغيّرون” من سلوك سوريا الثابتة، فهل ستتغيّر سوريا في القادم من لبنان وفلسطين والعراق مع القادم من إيران بالفعل، كما يريد لها المتغيّرون أن تكون، أم أن سوريا ستثبت هذه المرة أيضاً، كما في كل مرة، وكما يقول كل تاريخها الثابت، على مدى العقود الثلاثة الماضية، أنّ “لا مبدّل لسلوكها الثابت”، و”سلوك ديكتاتوريتها الثابتة”؟
ايلاف