صفحات ثقافية

دمشق والترفيه في الزمن العثمانيّ

null
بيروت – رواد خيرالله
عنيت الثقافة العربية بأوجه الترفيه والتسلية، إذ وضعت المؤلفات في طبقات المغنيين وأخبار الجواري وأدواتها. ويعد المفضل بن سلمة في كتابه الموسوم بـ{رسالة في العود والملاهي وأسمائها» من بواكير الجهود في التأليف. كذلك أفرد الجاحظ رسالة «القيان» وأخرى في طبقات المغنيين عن الموضوع نفسه، أما المسعودي فجاء حديثه مقتضباً في ذكر الرقص والغناء وأنواعه في كتابه المشهور «مروج الذهب».
بلغت العناية بالترفيه والطرب والغناء وأخبار الجواري أوجّها مع أبي الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني»، إذ تحدث عن التلحين والغناء، وفيه حديث عن أخبار النساء وأدبهن وأخلاقهن وطرائفهن ونوادرهن وأمور أخرى. والحال أن «الأغاني» من أهم كتب الأدب العربي التي احتوت ذخيرة من الأخبار عن جميع مناحي حياة العرب الاجتماعية، ينقلها لنا المصنف في دقة الوصف وبساطة التعبير وكأن المرء يعيش تلك الحياة بشقيها الجاهلي والإسلامي، بأسلوب مسلٍّ ومضحك وغني بالمعلومات. أما ابن خلدون فتحدث عن الرقص وضروب الترفيه وصناعة الغناء التي يعدها «آخر ما يحصل في العمران»، وقد استند في جوانب من مقدمته إلى كتب الآخرين، وأشار إلى كتاب «الأغاني» مادحاً إياه ومسبغاً عليه شتى صفات المقبولية، وركز على جانب من المجتمع هو جانب اللهو والعبثية فيظهره وكأنه هو التاريخ. وحديثاً انتبه الباحث والسفير خالد زيادة إلى أحوال المدينة الإسلامية فأصدر كتاباً بعنوان «الخسيس والنفيس» يشير فيه الى المدينة الإسلامية التي تعبّر عن المشهد الإنساني المتنوّع والكثيف، فثمة بالإضافة الى التجار والحرفيين والمتكسبين، الشحاذون والقوالون والحواة والقرادتية والمهرجون وسواهم. السوق والمسجد ركنا حياة هذه المدينة اليومية، وأمام الصرامة التي يفرضها ارتياد المسجد من خلال القواعد التي رسمها الفقهاء، فإن السوق الذي رأى هؤلاء ضرورة ضبط معاشه وأحواله، كان موقعاً ممتداً للنشاط الإنساني من كل نوع، إذ يتضارب فيه العمل باللهو والجد بالبطالة، والخاص بالعام والنفيس بالخسيس. كان السوق مرتعاً لأنواع «الصعلكة» فضلاً عن تنوّع الناس وأصواتهم. الصعلكة علامة من علامات الحرية والتمرّد في المدينة الإسلامية والتاريخ العربي. ويلمِّح زيادة إلى أن أحد الفقهاء يتطرق الى منكرات الأسواق، وهي كثيرة، حتى يصل الى ضرورة منع «بيع آلات اللهو المحرمة والتماثيل المجسدة، وأواني الذهب والفضة وثياب الحرير». ويشير الى الألعاب المصورة والعرائس.

فقهاء
تركت هذه الموانع الفقهية آثاراً جمة على عادات اللهو والتسلية. وحتى زمن بعيد كان إظهار النرد والشطرنج من الأمور المكروهة. وقد تشدد الفقهاء وأهل الحديث في ذلك، وأثرت هذه الموانع في أهل التقوى. لكن الموانع لم تستطع دائماً لجم العامة الذين يطلقون لنفسهم العنان في المواسم والأعياد، خصوصاً في المناسبات الدينية أو السلطانية، فتعتبر هذه المناسبات مواعيد للهو والهذر والتسلية. وهذا ما يبيِّنه الباحث الأردني مهند مبيضين في كتاب «ثقافة الترفيه/ دمشق العثمانية»، ويسعى من خلال دراسته الى الكشف عن جوانب الترفيه في مجتمع مدينة دمشق إبان العصر العثماني، وذلك بالاعتماد على مصادر تاريخية متنوعة، ويبدأ بإلقاء الضوء حول الجدل الفقهي والموقف الديني من الفنون وخصوصاً الموسيقى والرقص، وتراجم المغنِّين. ويمضي إلى البحث عن أثر الفنون في عادات أهل دمشق من حيث مظاهر الفرح والفن والأعراس والعرّاضات
إلى ذلك يقدم المؤلف عرضاً للمناسبات التي تزيَّن بها دمشق، ويبحث في أنواع التسلية واللهو، ومنها التنزه والسيران وارتياد الحدائق واللهو الحرام، إذ نجد أخباراً عن بنات الهوى وما يكتنف الليل الدمشقي من حيث هو ليل للغانيات ومستودع لأسرار العشاق وسهر الأعيان وسمر الأولياء. وتشكل الحمامات التي انتشرت في أحياء دمشق وحاراتها المختلفة فضاءً مميزاً للترفيه والتسلية، وهو ما جعلها محل عناية المؤرخين والرحالة والفقهاء، ويبحث المؤلف حول بنيتها وأقسامها، وحضورها في النصوص التراثية، إلى جانب كونها للترفيه الذي تميز بوصفه عالماً ذكورياً تجد فيه الدمشقيات وقتاً خاصاً لهن، وهو ما سمح مع مرور الوقت بتراكم سرديات خاصة بالحمامات.
ترصد دراسة مبيضين أسماء بعض المغنِّين والمنشدين والناظمين، وتبين أن مثل هذه الاهتمامات لم تكن حكراً على الرجال، بل شاركت فيها المرأة أيضاً. وظهر للمؤلف مستويان من العاملين في فن الحكاية الشعبية، كذلك زاد انتشار المقاهي وتعميرها لدى الولاة والأعيان وشيِّدت في مواقع مختلفة، ومن أبرزها في الأسواق العامة أو في الأحياء الدمشقية خارج سور المدينة.

الحمامات
واذا كانت المقاهي والأسواق هي المجال المكاني الذي عبّر عن الثقافة الشفاهية لأوجه التسلية فإن الحمامات الدمشقية بدت المساحة المستورة للتسلية وقضاء أوقات الراحة في أجواء خيالية ذات حركية وحيوية تزول بها الفوارق الاجتماعية، التي ميزت الدمشقي وأفرزته في مجاميع اجتماعية تفصلها عن بعض فروق الدخل والثروة والمكانة، وهو ما عبرت عنه المصادر المحلية بمسميات مختلفة ذات دلالة فئوية منها «الأكابر» و{العال والدون»
وتعد الحارات الدمشقية مساحة اللهو والترفيه الأولى، فيها تبدو مظاهر الزينة، وعبر أزقّتها تسير مواكب الفرح، وفي مجالس قضاء الشرع تتجلى صور الاحتجاج على فساد الأخلاق، وعلى رغم توحُّد الحارات في الظروف السياسية والاقتصادية، إلا أنها افترقت في حياتها وموروثها الشفهي، وكذلك في مرافقها الخاصة بالترفيه، والذي لا تكتمل دراسته من دون الكشف عن حرفه وعن العاملين فيه وعن النظرة الثقافية للمرافق والحرف. ويبين المؤلف أن الحارات الدمشقية ذات خصوصية كبيرة، وهي وإن بدت عالماً خاصا له مكوناته الثقافية والاجتماعية والانتروبولوجية، إلا أنها تظل في تعدُّدها أحد مكونات عوالم ثقافية متباينة في إطار المدينة الكلي، وهي من ناحية جغرافية وإن وُجد بعضها داخل السور وامتد عدد منها إلى خارجه، مثّلت مساحة الترفيه الأولى، وظهرت فيها احتجاجات أعيانها على فساد الأخلاق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى