صفحات الناس

مقــاهي دمشق …. تســتقبل الشــباب كل بحســب إمكاناتــه و مزاجـــه

null
رشا فائق
شــباب يهربــون إلى أحضان المقـــاهي
قبل عامين كان مجرد محل صغير لا تتجاوز مساحته المترين مربع،تشغله ورشة لتركيب الزجاج المنازل.أما اليوم،فقد تحول إلى مقهى-بذات المساحة-مع امتداد يشغل حيز الرصيف الضيق المحاذي.يقدم كافة أنواع المشروبات الساخنة من شاي وقهوة وزهورات إلى جانب الأركيلة طبعا، و يعج بالزبائن الشباب الذين يشغلون طاولاته،التي لا تزيد عن عدد أصابع اليدين، ليل نهار.
فراس،شاب لم يتجاوز الثلاثين من العمر، يعتقد أن لمقهاه دور في الترويج لحي”ساروجة”،ذلك الحي الدمشقي العريق المهمل (على الأقل سياحيا)من دمشق القديمة.يقول فراس صاحب المقهى اليوم”اعتدت المرور من هذا الشارع يوميا ،وكان يسترعي انتباهي غلبة الزوار السودانيين الجالسين فيه،بحيث اعتقدت أن لفترة أن المقهى تابع للسفارة السودانية و أنه مخصص لجاليتها في دمشق.. بعد فترة أغلق المقهى أبوابه،و عندما سألت عن السبب علمت أن المقهى كان مستأجرا من قبل شخص سوداني.لم أفكر بحثت عن صاحب المقهى و استأجرته منه على الفور”.
فراس يرى في المقهى حلما تحقق،فهدفه لم يكن تجاريا بقدر ما كان حلما شخصيا، فصورة والده وجيران الحي الجالسين على كراسي القش الصغيرة،يحتسون الشاي في محل البقالة المجاور كانت الصورة الأساس التي سعى إلى إعادة رسمها في مقهاه المتواضع.يقول فراس “اعتمدت ديكوراً بسيطاً لا يخفي طبيعة المكان القديمة والشعبية في آن.لذلك قمت في الحجرات الداخلية بتغطية الجدران القديمة بالبسط و الأغطية الشرقية مستنداً على طابع مضافات بيوت دمشق التراثية، أما في الخارج فكراسي الخيزران وطاولات صغيرة عبارة عن جذع شجرة مقطوع.الخدمة التي نقدمها متواضعة ولكنها نظيفة،و أنا أسعى إلى تطويرها لذلك قمت مؤخراً بإضافة وجبة فطور شعبية بسيطة إلى قائمة الخدمة لزبائن المحل و الجوار أيضا”.
تجربة فراس شجعت صديقه على شراء المحل المقابل و تحويله أيضا إلى مقهى، بحيث أصبح في الشارع مقهيان مواجهان لبعضهما بعضاً، يتقاسمان فيه كل شي بدءاً من المطبخ الذي بالكاد يتسع لشخص واحد انتهاء بالزبائن. صباحاً يتوزع زوار المقهى بين الحجرات الصغيرة و الرصيف.معظمهم من الشباب سواء كانوا أجانبا أو سوريون.يقل العدد ظهراً، في حين تكتظ الحجرات بالزوار و تمتد الطاولات الصغيرة لتصل الرصيفين المتقابلين مساءً.
اليوم، حاله حال باقي شوارع دمشق، طالت الحفريات شارع المقهى لتقلب أحشائه خارجا.و مع موجة الصقيع      و هطول الأمطار،قل عدد المرتادين للمقهى إن لم نقل اختفوا،و انحسروا في أصحاب المحلات المجاورة.فراس يأمل أن تنتهي أعمال الحفريات قريبا بحيث يعود شباب المقهى إليه مع عودة الدفء إلى سماء دمشق.
بالطبع تشكل مقاهي ساروجة البسيطة حالة استثنائية بين مئات المقاهي التي تزخر بها العاصمة السورية اليوم،ففي الجهة الأخرى من دمشق القديمة (منطقة باب توما وتفرعاتها)، تحولت معظم البيوت إلى مقاه ومطاعم ذات صبغة تراثية سياحية.إلى جانب مقاه أخرى تنتشر في الأحياء الدمشقية الأكثر حداثة و التي تضم بدورها مقاه عصرية بأسماء أجنبية(معربة حالياً)،فهل توجد فوارق بين كل هذه المقاهي التي تعج بها مدينتنا اليوم ؟؟؟؟

بيوت دمشقية تتحول إلى مقاه بخمس نجوم:
“صبح و مسا”،”عالبال”،”وراق الزمن”،”حارتنا”،”باب الحارة”،”بيت ستي”،”بيت جدي”،”برجيس”، “ليالي الصالحية”ومؤخراً “باب الحارة”…و غيرها الكثير من التسميات التي قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها استذكار سريع لأسماء أغان و مسلسلات شهيرة، هي في الحقيقية غيض من فيض المقاهي التي انتشرت كما النيران في أحياء دمشق القديمة(باب توما و محيطها).
ولأن المكتوب يتضح من عنوانه، فإن أسماء هذه المقاهي(السياحية) تكشف أيضا عن نوعية هذه المقاهي التي اتخذت من ما تبقى من بيوت دمشق القديمة مرتعا لها.فقد قامت معظم هذه المقاهي و المطاعم على أساس ترميم بيوت دمشقية قديمة يمتد تاريخ معظمها إلى قرون ماضية(كلمة ترميم هنا مجازية)و إعادة تأهيلها كمطاعم و مقاه سياحية بفئة لا تقل عن الأربعة نجوم.
في البداية،كان الاعتقاد السائد أن السائح الأجنبي هو المستهدف من وراء إقامة مثل هذه المقاهي و المطاعم ، التي ترتكن إلى جمالية البيت الشامي ذو الباحة الكبيرة والفتحة السماوية والغرف الكثيرة و البحرة الشهيرة. ولكن في الآونة الأخيرة أصبح ملاحظا وبقوة انتشار الشباب السوري بكثافة في هذه الأماكن و على فترات زمنية تمتد طوال النهار و حتى ساعات متأخرة من الليل.بحيث بات وجود الأجانب قليلا جداً مقارنة بكثافة الحضور الشبابي السوري.
سامر، صاحب أحد هذه المطاعم المنتشرة في دمشق القديمة، يقول “فكرة تحويل البيت الشامي القديم إلى مطعم أو مقهى، فكرة ناجحة و رابحة جداً.لقد مر أقل من عام على افتتاح مطعمي الصغير هذا مقارنة بغيره من المطاعم الأكبر مساحة، ومع ذلك و الحمد لله أصبح المكان مشهور جدا بين صفوف الشباب و أبدأ باستقبالهم من العاشرة صباحا و حتى الرابعة فجراً…نقدم هنا مختلف أنواع المشروبات الباردة و الساخنة فضلا عن بعض الأطباق الخفيفة من الصاجات التي أصبحت معظم المحلات في المنطقة تقدمها”.
ولكن ما الذي يجذب هؤلاء الشباب نحو هذه المقاهي و يدفعهم لقضاء ساعات طويلة على طاولاته الخشبية؟؟؟
ثائر و سعيد صديقان اعتادا ارتياد مقاه دمشق القديمة منذ أيام الدراسة، واليوم بعد التخرج و رغم انشغال كل منهما في عمل مختلف،إلا أن سهرة الخميس لا يمكن أن تكون إلا في مقاه دمشق القديمة.يقول ثائر:”الخميس بالنسبة إلي وإلى أصدقائي مخصص للتجول في الشام القديمة والجلوس في مقاهيها،هنا اعتدنا مناقشة أمور الشلة والاحتفال بأعياد الميلاد والتخطيط للمشاريع والرحلات و لعب الورق و الطاولة أحيانا،حتى عندما نكون على خلاف فإننا نأتي إلى هنا ،ربما لأن الجلوس إلى طاولة قريبة من بركة مياه ومحاطة بطبيعية خضراء في بيت دمشقي قديم            و الاستماع لأغاني فيروز، يمنحنا راحة أعصاب ويزيل عنا التوتر”.أما سعيد فيشير إلى أن “جو الشام القديمة هو الأساس،فنحن نتنقل بين المقاهي.و نجرب كل جديد منها، باعتبار أن كل شهر تقريبا هناك مقهى جديد و لكن جميعها تتسم بجو واحدا تقريبا و خدمة متشابهة أيضا… بالطبع توجد اليوم مقاهي خمس نجوم و بأسعار خيالية نكتفي غالبا بزيارة واحدة لها كنوع من التعارف و سرعان ما نعود إلى المقاهي الأكثر شعبية”.
(ملاحظة:غالبا ما تكلف سهرة الخميس لسعيد و ثائر وسطيا حوالي الخمسمائة ليرة لكل واحد منهما بين مشروبين و أركيلة طبعاً).
وعلى الرغم من تعالي الكثير من الأصوات المعترضة على انتشار مثل هذه المقاهي في المدينة القديمة بحيث بات الطابع التجاري يستهلك و يستنزف الطابع الأثري و السياحي و حتى الخدمي في المنطقة.إلا أن تزايد عشاق مقاهي الشام القديمة يزيد من شعبية تلك المنطقة و يرفع أسهمها الاستثمارية ساعة بعد ساعة.

مقاهٍ عصرية لشباب عصري جداً:
بين باب توما و أبو رمانة (الضفة الأخرى من دمشق) مسافة لا تزيد في السيارة عن النصف ساعة في حالات الازدحام الاعتيادية اليوم في دمشق، والفارق الزمني يبدو متواضعا جداً أمام الفارق الاقتصادي و الاجتماعي بين مقاهي المنطقتين.
شاشات تلفزيونية مسطحة…كراسي فخمة واسعة و مريحة…طاولات كبيرة زجاجية أو ربما رخامية…قائمة أطعمة ومشروبات واسعة….خدمة انترنيت مجانية في معظم الأوقات و قبل أي شئ أسماء عالمية أجنبية و إن أصبحت تكتب بالعربي اليوم…هذه هي السمات العامة لمقاهي دمشق في المدينة الحديثة المتناقضة مع  أجواء المدينة القديمة،و التي تعكس بدورها اختـــلافاً في أذواق الشباب الدمشقيين عندما يتعلق الأمر بالمقهى المفـــضّل.
ففي الوقت الذي يقضي فيه جزء كبير من الشباب السوري معظم أوقاتهم في مقاهي الشام القديمة لخصوصية طابعها الأثري والسياحي،تفضل مجموعات أخرى من الشباب الذهاب إلى”مقاه أكثر حداثةً وتطوراً تحمل طابعاً أكثر عالميةً” على حد تعبير رشا(20 سنة) التي ترى في هذه الأماكن فرصة ممتازة لقضاء أوقات متميزة سواء من ناحية أجوائها العصرية أو حتى من ناحية خدماتها الأكثر رقياً و تطوراً.تقول رشا” تعتبر مقاهي الكافي شوب نوعا من التغيير عن أجواء المنزل،والبحث عن فرصة للتسلية ولقاء الأصدقاء…فضلا عن أجوائها العصرية من الموسيقى      و حتى نوعية المشروبات المقدمة،كما أن ميزة الخدمة الذاتية ممتعة وتتيح لنا فرصة للتجول في الكافيه و ربما الانتقال من طاولة إلى أخرى خاصة و أن المرتادين معظمهم باتوا يعرفون بعضهم البعض”.
أسماء (28 سنة) تدافع أيضا عن هذه المقاهي الجديدة و تؤكد على خدماتها المتميزة خاصة مع توفير خدمة الويرلس و ما تتيحه من فرصة للاستفادة من الوقت و الدخول على الانترنيت بسرعات كبيرة و هو الأمر الذي يطور أيضا جلسات نقاشها مع صديقاتها و أصدقاءها.بالرغم من ارتفاع أسعار الخدمة في هذه المقاهي و هذا طبيعي برأي أسماء لكون هذه المقاهي في الغالب “جزء من سلسلة عالمية”.
وعلى الرغم من الطابع العصري الحديث الذي يكتنف هذه النوعية من المقاهي،إلا أن الأركيلة تبرز فيها أيضا وكأنها القاسم الوحيد المشترك بين جميع  مقاهي دمشق…إلا أن هذه الأخيرة لم تسلم من إضافات بغية تميزها عن شقيقتها العاملات في مقاه الشام القديمة،بحيث يبدأ الاختلاف من الشكل (أراكيل متناهية الصغير أو الكبر)مروراً  بالمادة المصنوعة منها(المعدن الستانل ستيل،الفخار،الزجاج الملون و غيره)و انتهاء بأنواع النكهات و الخلطات الخاصة و المميزة و التي تحمل بشكل تلقائي اسما أجنبياً(كابتشينو،موكا… ).وبالطبع فإن فارق الإكسسوار         و الخدمة،يعني بدون شك فارق في السعر قد يصل إلى ثلاثمائة ليرة سورية أي قرابة الأربعة أضعاف،وإذا حسبنا قيمة مشروب واحد أو على الأقل اثنين نجد أن الزيارة لمرة واحدة لهذه النوعية من المقاهي تحتاج ما لا يقل عن ألف ليرة سورية للشخص الواحد أي ما يكفي لزيارة قهوة فراس في ساروجة لأكثر من ستة مرات!!!!

ارتياد المقاهي،هروب أم لجوء:
بين مقاهي الشام القديمة و كافيهات الشام الحديثة فروق كبيرة،سواء من حيث المظهر والخدمة أو حتى من حيث  التكلفة المالية،وبالطبع فإن هذه الفروقات تظهر بوضوح على رواد المكانين.إذ تلعب هذه الفوارق المادية بالدرجة الأولى و الشكلية بالدرجة الثانية دوراً في فرز الناس طبقياً، بين طبقة “مخملية أو ارستقراطية” كما يحلو للبعض تسميتها وبين طبقة أخرى”شعبية”إن جاز التعبير.ولعل اللافت للانتباه هو كثافة الحضور في كلا الطبقتين،فضلا عن وجود فئة أخرى واسعة أيضاً  تنتقل بين العالميين.فما الذي يدفع هؤلاء الشباب للإقامة الشبه دائمة في المقاهي على اختلاف أنواعها؟؟؟؟
يقول مروان (33 عام)”في أوقات الفراغ لا توجد أمامي خيارات فإما الدوران في السيارة لساعات أو الاسترخاء في أحد المقاهي…ولأن ارتياد مكان واحد لساعات طويلة يزيد من الملل،فالحل يكون بالتنقل من مقهى لأخر…مرة في بيوت الشام القديمة ومرة في تراسات الشام الجديدة ومرة أخرى في مقهى تابع لأحد الفنادق الحديثة وهكذا نقضي وقتاً طويلاً نتحدث وندخن فيطير وقت الفراغ والإحساس بالملل….”.
ولكن ماذا عن ممارسة الهوايات لتمضية الوقت؟؟؟ يقول مروان “و أين يمكن أن نمارس الهوايات و كيف؟؟؟أنا موظف في شركة قطاع خاص،لا ينتهي عملي يوميا قبل الساعة السابعة مساء بطبعي أحب مشاهدة الأفلام و أتمنى لو كان يوجد لدينا سينما محترمة نرتادها…و لكن بعد يوم عمل طويل فإنني لا أجد بديلا عن المقهى”….
كلام مروان يبدو منطقيا ،فالمقاهي اليوم بكل أنواعها و تصنيفات نجومها أصبحت ملاذا ومكانا للشباب.فبعد  أن كانت المقاهي في السابق مكانا لكبار السن بعد الإحالة إلى التقاعد، و قد لعبت في الماضي دوراً ثقافياً واجتماعياً إلى جانب دورها الاقتصادي،يقول نعمان قساطلي في كتابه “الروضة الغناء في دمشق الفيحاء” أن عدد المقاهي الدمشقية بلغ 110 مقهى في القرن التاسع عشر بين كبيرة وصغيرة، هي منتشرة في أنحاء المدينة”.بحيث كانت هذه المقاهي مكانا للقاء الفكري و الأدبي و السياسي أيضا نمن أشهرها قهوة السكرية بباب الجابية وقهاوي الدرويشية والعصرونية والمناخلية وقهوة جاويش في القيمرية و قهوة “اللونابارك” التي عرفت لاحقا باسم”قهوة الرشيد” واشتهرت بمسرحهاً الصيفي إضافة إلى تقديمها للأفلام السينمائية أيضاً،ومقهى “الفاروق” ومقهى “الزهور” و”الأزبكية”،وصولا إلى “الهافانا” و مقهى “الروضة”الشهير الذي ما زالت أبوابه مشرعة حتى اليوم ،ولكن أمام أرتال من الشباب و الصبايا الذين حولوا  “الروضة”لمقر دائم لجلساتهم.
تقول مرام (28 عام)”في الماضي كان المقهى حكراً على الرجال،أذكر أول مرة دخلت فيها مقهى الروضة قبل سبع سنوات،حينها بدا وجودي مع صديقاتي أمراً غريبا.اليوم،الموضوع أصبح أكثر من عادي خاصة مع كثرة الفتيات اللواتي يرتدنه…بالنسبة لي فإن للجلوس في المقهى نكهة خاصة، المقهى مكان لتمضية وقت الفراغ والتخلص من الهموم.أحب الأماكن التي تمتلئ بالناس، فأحياناً يشعر الإنسان بحاجة للنظر من حوله ومراقبة المارة، هو نوع من التغيير وقتل الروتين ، هي أوقات نهرب فيها من المحيط وربما من مشاكله أيضاً”.
ولكن إذا كان الأدب و الفن و أحوال المجتمع و السياسة قد صبغت أجواء مقاهي دمشق في الماضي،فإن الفراغ والملل والرغبة في تمضية الوقت والتسلية كلها عناوين تصلح لبحث أسباب ارتياد الشباب الدمشقي للمقاهي بكثافة اليوم. وبالطبع فإن جميع هذه الأسباب تبدو منطقية وطبيعية في ظل محدودية مجالات الأنشطة الاجتماعية والثقافية، والترويحية البديلة التي تجذب الشباب وتحتضنهم، بحيث باتت المقاهي هي الحضن الوحيد الدافئ لشباب اليوم….

مجلة زووم- أذار 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى