منهل السراج

الحلقة السابعة لرواية “كما ينبغي لنهر”

null
منهل السراج
بعد هجوم أبو شامة وسكوت المدينة وأهل المدينة. وجّه أبو فطمة خيبته واعتلال قلبه إلى أهل بيته، من ترتيب الخزانات وقطرميزات المؤونة والأحذية عند العتبات.. إلى ضرورة الطاعة والانصياع لأي رمز قوة، ووداعاً للبطولات. كل يوم يلقي على مسامعهم محاضرة عن التيار السائد، محاولاً إقناع نفسه قبل سامعه. كان يتحدث عن التجارب التي مرت البشرية بها، وعن أولئك الذين اندفعوا، ثم رجعوا خائبين إلى واقعهم، ليكونوا أكثر تعصباً، ممن لم يرح ولم يجيء. كان إحساسه بالذل الذي تجرعه أثناء الأحداث وكان الجميع شاهداً بل ومشاركاً بتجرع نفس الكأس، لايغادر ذاكرته شديدة الحساسية.
كان يرسم دبابة ومدفعاً على ورقة، ويقرّبها من وجه فطمة قائلاً:
ـ سوف نقتنع جميعاً. هذه هي وسيلة الإقناع، وسيلة العصر.

قرع باب البيت بقوة، أطلّ وجه جارتها النشطة العانس التي تتابع أخبار الجيران، تعرف ما يأكلون من مراقبة أكياس قمامتهم، وتعرف أوقات نومهم من موعد إطفاء مصابيحهم .
ـ أتدرين، جارنا الأستاذ عاصم، أخذوه، قالت وهي تلهث.
ـ من أخذه؟.
ـ يعني من سيكون؟ رجال أبو شامة، أبو تالولة.
ـ لماذا؟.
ـ لا أحد يعرف، “هو غميق”، ربما لأنه استمر بمحاضرته برغم مناسبة التجديد. أمه تركض مثل المجنونة، مسكينة “ما لها غيره”، حتى امرأته تركته على فقره، ثم استأنفت بخجل وبصوت خفيض:
ـ وحق النبي يا فطمة زعلت عليه، الزلمة ما بيستاهل، كل العالم ضده؟.

كان عاصم يطفئ الأنوار كلها فيسود الظلام، يشعل بطارية، ويسلّطها على مساحة الجدار الفارغة، ثم يبدأ بتحريك أصابع كفيه، فيظهر منقارا بطتين تتحدثان. تتعالى ضحكات أطفاله، ويتقافزون أمام بقعة الضوء، فتتقافز أخيلتهم، يغني لهم إحدى أغاني التراث فيناموا. يعود إلى غرفته، يشعل مصباحاً وحيداً ينقله بين طاولته وسريره، يمرر شريطه فوق حقيبة قديمة وفوق كتلة ضخمة من اللحف والفرش مغطاة بقماش ملون بالأسود والأبيض. يستلقي، فتصدر نوابض السرير الخالي من الفراش صوتاً، يتزامن مع آه يرددها وجع مزمن في ظهره. يربّي الحمام من أجل سلامه، وبياضه، وهديله الذي يعيد عليه تأملات جبران خليل جبران. يدافع عن أنثى الحمام معاقباً ذكر الحمام لأنه يؤذي أنثاه.
ذات مرة طارت الأنثى في كل الاتجاهات فاصطدمت بزجاج النافذة والمصباح، رفرفت فوق كتلة اللحف والفرش وفوق وسادته وسريره ثم استقرت في حضنه ووضعت بيضة.

طمرت فطمة رأسها كعادتها تحت غطائها وأغفت:
ـ كم تبقّى من هذا العمر؟ وكم ستشهد من هذا الغياب؟.
لعلها كانت قد أغفت حين خُيّل لها أن “عاصم” يراقبها من خلف النافذة ويلوح لها. يد مجهولة أسدلت ستارة كثيفة، ويد أخرى علقته على دولاب الماء راحت تغطّسه وترفعه لتعود بدورة تشبه “فرّاش” الغسالة القديمة.
استيقظت من حلمها، على دقات ساعة غرفة الجلوس. كان حلقها جافاً، تملؤه مرارة وألم غامض في الرقبة. مع تأكيد الطبيب أنه لا يوجد حالياً آلام، لكنها تحس بالألم.
في ذلك اليوم الذي اختفى فيه عاصم، جارها ورفيق طفولتها، قيل إنه وقف أمام المنبر فتدفقت العبارات. أنصت الجميع وصفقوا بشدة وحيّوه، التفوا حوله. كانت دهشته من نفسه، ومن الفرح الذي لم يعرف سبيله، طوال أعوام مضت في التأمل والقلق والحيرة. جرّب دروس رجال أبو شامة، ودروس زوجته، ولم يجن، كغيره، إلا الانزواء والابتعاد. لكنّ الفرح الذي رآه في لمعان أعين الطلاب، في التفافهم حوله، فيما يتنامى مليون سؤال في رؤوسهم الشابة جعله ينسى نفسه، ويسترسل في آراء تجاوزت الإشارة الحمراء. انسحب من بين ازدحامهم برفق، ووعدهم أنه سوف يكمل النقاش في محاضرة قادمة.
اقتربت منه جثة هائلة، همست:
ـ المعلم يريد أن يدردش معك.
أمسكه الحارس من كفّيه بقبضة واحدة، وسحبه ماشياً بسرعة كبيرة. كانت العصابة قاسية جداً على عينيه وخطواته متعثرة بين بصاق الحارس وشتائمه.
كان على الجدار في غرفة الدردشة عدد من الخيزرانات ذات الرؤوس المتفاوتة الأحجام معلّقة بيسر بحيث تكون بمتناول يد من سيحقق ويسأل.
قال المعلِّم أو الذي يليه راسماً ابتسامة دبقة:
ـ أمك قبّلت يدي كي أعفو عنك يا شاطر.. ثم فجأة انفجر صارخاً:
ـ من تظنّ نفسك؟. أنت جربوع،  جربــــــوع ولاك”..
فتح عاصم  فمه كي يجيب، ففوجئ بصفعة ملأته دماً. أغمض عينيه وهو يسأل نفسه كم من الوقت يحتاج كي ينسى هذه الصفعة؟ ابتلع الدم وقبل أن يحدد الزمن اللازم للنسيان، تلقى أربع صفعات أخرى، وضربتين على الأضلاع وعلى البطن.
استمرت الدردشة ساعتين. كان يحس بأجزاء جسده تارة، ويغيب تارة أخرى، وماإن يتلملم على نفسه، حتى يبدؤوا معه شوطاً جديداً من الدردشة، ضرب وصراخ وشتائم وبصاق كثير.
صحا من غيبوبته.
كان ملقى على الأرض يعلوه سقف قذر عار إلا من مصباح يتدلى بائساً بضوء أصفر يختلط مع لون الجدار والسقف. لم يستطع أن يحدد التوقيت.
ـ ما حاجتي إلى التوقيت إذا كان ما ينتظرني سقف قذر وأرض ضيقة وجدران تضغط.
سمع حركة ما. التفت فوجد المعلم جالساً على كرسيه يتأمله واضعاً قدمه العارية فوق ركبته. أظافرها عريضة ومغروزة في اللحم.
فجأة صاح به مزبداً:
ـ لماذا تنظر إلى قدمي؟ وتدّعي الإغماء أيضاً يا ابن الكلب؟ ثم دفع فردة حذائه في فمه!..
إن عيش حياتين لن يُنسي عاصم “صرماية” بين أسنانه. فكر بطلابه وبالفرح الذي شعر به معهم. فرح دقائق ثمنه أكل صرماية. أنزلوه إلى القبو فتذكر قبو فطمة: “يا للفرق بين العمقين”. وتذكر نخلة فطمة، اشتهى أن يكون لهذا القبو نافذة يراقبها منها، لكن ..
قرأ على الحائط أمامه: “أحب الرجل الذي يناضل وهو مبتسم” محفورة بالأظافر، وفي أسفل الكتابة حُفِر برباط الـحــذاء “قتلة”. وكان هناك تقويم مرسوم على شكل بيضة في داخلها خطوط شاقولية وأفقية متقاطعة تضم إشارات صغيرة تتكرر لتغطي ثلاثين شهراً. قضى صاحب الخط إذن ثلاثين شهراً في هذا المكان المؤقت، وربما رحِّل إلى غيره بعد ذلك.
تناول عاصم من العسكري بيضة مسلوقة ورغيف خبز، وضعهما في جيب معطفه. أسند ظهره إلى الجدار. تذكر أنه لم يسدد ثمن حذاء ابنه للبائع. قضى الطفل الشتاء بحذاء ممزق جعل الفطر يأكل قدميه، إلى أن استطاع شراءه بالتقسيط.

أرسلت فطمة مظروفاً يحتوي على مبلغ من المال إلى أم عاصم، وجلست على الشرفة تتأمل مكتبته عبر نافذة غرفته.
وجدت زرقة السماء الصيفية حيادية. الوقت عصر، لا شيء ينتظرها في المساء، ولا في الصباح القادم أو بعد القادم سوى المرض.
دخل عصفور غرفة نومها، فدخلت وراءه، رأته يطير قرب السقف ويزقزق بصوت غريب. لم يتشوش بضيق الفضاء، استغربت، فتحت له النافذة، لكنه لم يغادر، وقف على الخزانة وغرد طويلاً، لونه أسود مع بقع ترابية. استقر على خزانتها.
“كأنه يبحث عن مأوى”.
أدارت ظهرها وتركته عائدة إلى الشرفة كي تطمئن على مكتبة جارها، فرأت أحد أولاده يلعب لاهياً بأوراق أبيه المبعثرة على الطاولة.

حين كان عاصم في الثانية عشرة، كان يشتري الكتب ويهربها تحت حزامه من عيني أمه التي كانت تأخذ عليه وعوداً بأن الخرجية لشراء المأكولات.
قضى صيفاً كاملاً يراقب مجموعة “ميخائيل نعيمة” في زجاج المكتبة، ولا يستطيع شراءها. لطالما حدّث فطمة وعمر عنها بلا ملل، واستفاض. انتظر طويلاً إلى أن امتلأت حصالة المنزل فكسرها وهرع إلى المكتبة، إلا أنه وجد المجموعة قد بيعت. غضب كثيراً، فقص أظافره على الشرفة، وعندما مرت امرأة  بتسريحة “سد العالي” رمى الأظافر فوق رأسها، واعتبر هذا المساء مساء الغضب.
بعد وفاة أبيه لم يبق نصير له في شراء الكتب. أخذه عمه إلى جاره المنجّد. كان اليوم الأول في العمل أصعب الأيام، حر ورمضان والصوف مكوم وكل شيء واخز، الإبرة، والعقد الشوكية.. تمنى كثيراً أن يستلقي على الفراش بعد الانتهاء من تنجيده، فهو منتفخ، والتقلب عليه مع كتاب ممتع هو غاية ماينشد. لكن صرامة معلم التنجيد كانت أشد، إذ لم تنته العطلة إلا وكان قد تعلـــم خياطة “تم” الفرشة وهذا ما حرمه في ذلك الصيف من اللعب مع فطمة وعمر في قبو البيت الكبير.

ارتمى عاصم على البلاط بعد الوجبة الساخنة من الأسئلة الشائكة والصفعات البليغة.
فكر:
“هل سأعود يوماً إلى فراشي أستلقي وأنام على كتاب؟”.
“كأن فطمة لا تكبر ولا تصغر ولا تشيب”.
استطاع من شدة تركيزه في التداعيات أن يرى ثوبها المنزلي الفضفاض وقميص نومها الأبيض المطرز، ثياب الصلاة وسبحتها ذات الخرز الناعم المحمولة في معصمها.
“تراك يا فطمة تحسّين بقيودي؟”.
جاؤوا يقتادونه إلى الخارج، كان حائراً:
“هل يمكن أن تنتهي هذه المحنة وأنام في فراشي؟ يتقافز أطفالي على السرير فيصدر صريراً جميلاً؟ ترتمي أنثى الحمام في حضني؟ ألتهم النمورة من يدي أمي وأكمل قراءة (عالم صوفي) مستمعاً لصوت لميا مهمهمة مع القطط، وابن عمر يقفز، وعمر صديقي يردد أنه لن يبعث؟”.

أيام حصار المدينة. أخذوه رجال أبو شامة إلى مكان فسيح مع من يريدون إعدامهم. صرخ رئيسهم: اركضوا.. أحب رؤيتكم تتراكضون مذعورين من رصاص رجالي، إنهم عطشى لظهوركم المرتعدة ها.. ها.. ها.. كانوا يتراكضون ويتصادمون، يسرعون ويلهثون محاولين صنع أقدارهم، حين وقع قسم منهم، صاح بهم مرة أخرى وهو يتبعهم على دبابته: توقفوا.. أريد أن يتساقط بعض منكم.
توقفوا بظهور تنتظر الألم والموت.
الذين نجوا بناء على الأوامر، كانوا يرتجفون وينتظرون الأمر التالي. جاءهم الأمر التالي:
ـ اركضوا، اركضوا..
ركضوا ولهثوا. فكر عاصم:
“هل حياتنا الكريمة تنتظر؟ فلنركض إذن”.
ظلوا يركضون، ويُنخلون، يركضون ويتساقطون تلالاً.
عندما عاد إلى حارته بمعجزة، كان أول من رأى الحاج عمر يهلوس بكل شيء من دون أن يتجرأ على ذكر أبو شامة. ارتمى على كتفيه، وراحا في عويل طويل:
“متنا ورجعنا يا خيو..”

دُفعت الأبواب باباً وراء باب، وجرّوه مثلما أحضروه معصوب العينين. كان يفكر بسرعة محاولاً معرفة المكان الذي ينقلونه إليه.
سحبوه من السيارة وكانت قهقهاتهم تعلو وهم يربطونه إلى شجرة وينزعون “الطميشة” عن وجهه. تعلقت عيناه بالقرنفلة الموجودة في فوهة بندقية أحد الحراس الواقفين قبالته. فجأة وبسرعة هائلة انطلقت القرنفلة باتجاهه مترافقة مع صوت الرصاص.كان آخر ما شاهد خرقة بالية عالقة بغصن الشجرة ثم غاب.
اكتفى المعلم برشقه بالقرنفلة، أما الرصاصات فأصاب بها الخرقة الحمراء.
بعد وقت غير محدد استيقظ من غيبوبته. أوقعته قرنفلة، وأيقظته ورقة شجرة يابسة ارتمت فوق أنفه. كانت السماء واسعة صافية وهادئة:
“إنها الجنة إذن”.
أغمض عينيه. إذن الجنة الموعودة حقيقة وهاأنا استشهدت برصاص الظالمين ودخلت الجنة.
فتح عينيه جيداً ورويداً رويداً استيقظ، فشاهد الخرقة الحمراء البالية معلقة وممزقة فوق رأسه.
إذن هو لم يمت.
في لحظة كأنها الفرح أدرك أنه في الدنيا وأنه قد أطلق سراحه، لكن بجولة أخيرة من التعذيب الجديد:
“مزاح سمج وثقيل”.
كُتب له عمر جديد. أخذ يركض بقوة هائلة، لم يكن ليصدق أنه حي.
ربما لن يتذكر الصفعة الأولى ولن  يتذكر “الصرماية ” ولن يكترث بعد الآن بفرح عيون الطلاب، أوالتأمل في كل ما يجري:
ـ علي أن أحرص على كلماتي التي ألقيها في دروسي.. طيشي هو ما أوصلني إلى هذا.
أطفاله في البيت ينتظرون وكتبه وطيور الحمام أيضاً.

استيقظت متناسية المرض. أعدت ركوة قهوتها، وجلست في الشرفة تشربها على مهل. مازالت حجارة الطريق القديم نائمة، فهي حتى تلك اللحظة من الصباح، لم تطأها الأقدام، والسماء تنبئ بيوم بارد بلا ضجيج مطر، أو تشويش غيوم. بدت مئذنة أبو رحمون الإسمنتية مألوفة في عينيها اليقظتين. نظرت إلى الأعشاب النابتة خلال جدران الواجهات:
” عطشى في أواخر الصيف. أيلول، وتشرين الأول، لِمَ لا يحتل هذان الشهران العام كله؟”.
ربيعها في الخريف. أما في هذا العام، فالشهران لم يُخلصا لها، كما أخلصت لهما. فهي وإن كابرت، مقتنعة أنهما يحصدان الكثير من الأرواح. تذكرت مرضها، خافت من الآلام القادمة. سمعت الكثير عن أمراض السرطان، وخافت من هذا الخريف.
كانت مستغرقة في تأمل الطقس، متحاشية التفكير في الموت، حين مر الجربوع في الحارة كأنه عائد من سهرة حمراء منتشياً نعساً، اصطدم بأحد المارين. همت أن تنادي الرجل كي يقتله، لكن الرجل أخلى الطريق للجربوع، وانتقل إلى الجهة الأخرى.
علا صوت أبو رحمون بالنداء على ميت: لا إله إلا الله..
غاص قلبها، بعد كم من الأيام سينادي باسمها.
اسم الميت لم يكن غريباً. ضربت على رأسها:
“نسيتك يا أبو محمد..”
“هل ألحق أن أزوره قبل الصلاة عليه؟”
لم تلحق.
أغلقت باب الشرفة خلفها. متخيلة كتبه مائلة على بعض، أصابعه مازالت طرية عليها. سوف تبعثرها أصابع طائشة هنا وهناك، كي تقبض بدلاً عنها نقوداً، سوف تتفرق على رفوف غريبة عنها، وهواء لا يحمل جهودك طوال خمسين عاماً، لبناء جيل أكثر إيماناً. عاشت طقوس دفنه كلها من وراء زجاج نافذتها، استسلامه لكفنه، لحفرته، ولأيديهم تدير وجهه إلى القبلة، وتردد دعاء الميت.

قطعت شرودها وارتدت معطفها، حذاءها، غطاء رأسها، وهرعت إلى بيت الميت.
كان الرجال كعادة أهل المدينة يقفون عند الباب الخارجي، بجوار التابوت الفارغ، بانتظار الانتهاء من تغسيل الميت.
دخلت مع بقية النسوة، ووقفت وسطهم، كن يقرأن القرآن ويرتبن أشياء ضرورية للعزاء. استأذنت أهله ودخلت تراقب مكتبته. لم تطق أن تجلس، وقفت بقدّها، الذي يتضاءل، بين المعزّين.
خرجت، عادت، ثم دخلت، ثم خرجت. تذمر الرجال الواقفون عند الباب من هذه المرأة التي تكسر عادات العزاء وهيبة الموت بحركتها المترددة.
ركضت إلى بيتها، أسندت رأسها إلى حديد شرفتها:
“أدرك أنني تأخرت كثيراً، أنت في عتمتك الآن، لا تنتظر سوى تركيب شاهدتك مكتوب عليها اسمك وتاريخ رحيلك”.
تركت البيت متوجهة إلى محل فارس، تتذكره في كل ندم وكل نكسة وكل خوف، تتذكره حين لا تجد أحداً.

قابلها فارس النحات كما هو دائماً هادئاً مغبراً، خمّن سبب زيارتها. سارع للقول:
ـ في زيارتي الأخيرة لأبو محمد وجدته يحقن بنفسه الأنسولين في خاصرته، كأنه ألف السكّر في دمه، أصابني الاكتئاب، تعبت أعصابي من صبره ومن حلمه، عدت إلى البيت، ليسيطر عليّ هاجس السكّر. أتصدقين؟ لم أرتح حتى أجريت تحليلاً، وتأكدت أن صحتي جيدة، اطمأننت لعافيتي، وقررت أن لا أعوده مرة ثانية.
ثم استأنف بهمس:
ـ هذا ليس أنانية مني، لكنني متعب. غادر أبو محمد ولم يعتب حتى على السكّر أوعلى الأصدقاء، أوعلى جميع من يدّعي أنه أحب البلد كما أحبها.
صمت وهو يشعل سيجارة كانت خلف أذنه.
صمتا لبعض الوقت.
قالت فطمة بصوت باك:
ـ أما أنا فذنبي أكبر، أنتظر الموت، وأفهم كيف انتظره هو أيضاً، لكني خفت من زيارته، كأنني ظننت نفسي أستعجل الموت برؤيته.
عندما رآها فارس تشيح بوجهها خجلاً من الدموع التي خذلتها، خرج مسرعاً، تركها دقائق وعاد مبللاً وجهه، كانت تستطيع أن ترى بريق أخضر عينيه وقد التمع بدموعه، بعد أن أزيل غبار الحجارة عنه. نهضت وأخذت تدور في المكان.
ـ ما الذي يجعلك تقولين إنك تنتظرين الموت؟.
ـ يعني هل نحن شباب؟.
ـ السياح الذين يزورونني، يكبرونك بعشرين عاماً، وهم يتحدثون عن المستقبل كأن أمامهم عمراً آخر.
ـ كيف حال أولادك؟.
ـ بخير، كيف لميا والحاج عمر وأهلك؟.
ـ أرى أعمامي بين فترة وأخرى، قلّت زياراتهم بعد زواج أخي أحمد، تعرف، كل منهم مُلتهٍ بحاله.
ـ أنت دائماً تلتمسين الأعذار لمن حولك.
ـ أنا لا أحب أن يهتموا بي، هذا يخجلني ويربكني.
ـ مفهوم، مفهوم.
ـ ألم تعرف بالذي حدث لعاصم؟.
ـ سمعت، ظننا أن الأحداث، وما بعد ذلك لن يتكرر، لكن يبدوأننا لن نرتاح أبداً.
ـ ماذا تفعل هذه الأيام؟.
ـ كما ترين.. بعد أن أقلعت عن الرسم انصرفت لنحت الحجر، واجهات البيوت الحديثة.. علينا أن نطعم أولادنا.
ـ كواجهات قصور رجال أبو شامة؟ كلكم تريدون أن تطعموا أولادكم، سمعت المختار يقول هذا.
ـ فطمة، أرجوك، لا أحتمل..
غادرت دون أن تخفف من ندمها على أبومحمد.

نادراً ما تنام في الظهيرة، تعشق هذا الوقت الذي لا يكترث له أحد، قيلولة الصيف هي التي تجعلها تحتمل الصيف. توقعت أن يكون الجربوع قد استيقظ من نومه الذي بدأه في الضحى، لكنها لن تهتم له، فاليوم رحل أبو محمد وهي تريد أن ترتاح قليلاً.
أغفت أولم تغف، رأت أنها أمام شلال ماء هادر يندفع من أعلى جبل أجرد، فيما تقف في واد سحيق وغريب تنادي: لميس، لميس.. رأت الرؤوس بل الجماجم، التي تراها دائماً، تتساقط عبر الشلال. لم تخف، اقتربت ووقفت بينهم، مدت يدها إلى الماء المتساقط بقوة وشربت، لم تكد تبتلع ماشربته حتى استيقظت على ضحك مكبوت هازئ، رأت الجربوع ماسكاً سبحة جدتها، يلوح بها في الهواء كمن يرقص الدبكة. قال:
“شربت ماء عكراً ملوثاً بدم رؤوس أهلك، متى تكفين عن أحلامك؟ أبو شامة يحبني، وسوف يؤمن لي مبرراً قانونياً لأخذ القبو”.
قال جملته ضاحكاً هازئاً، وتركها رامياً السبحة على أرض غرفة نومها فانفرطت. كان انفراطاً حزيناً في عصر حزين، ويقظة لم ترجها. شعرت أن أجلها يقترب. فتحت خزانتها قبل أن تغسل وجهها وتناولت بقجة الكفن، فردتها على السرير، ثم فكرت أن تضعها في صندوق الجدة لكنها تراجعت:
“قد تراها لميس، فتحزن”.
فتحت درجاً بجانب سريرها، وأخذت قلماً ودفتراً صغيراً،كتبت بضع كلمات توصي بها ثم مزقتها مؤنبة نفسها.
وضعت عليها معطفها، ثبتت حجابها القطني وارتدت جوربها ذا اللون الحنطي، انتعلت حذاءها الأسود، وحملت حقيبتها. التي تقول عنها لميس إنها أنيقة رغم قدم طرازها، فتيجبها فطمة: كي لا ألفت الأنظار يا ابنتي.
وصلت فطمة إلى منشرة الحجر التي يعمل فيها فارس، كان الشارع هادئاً وفارغاً ومغبر الهواء كما هو دائماً، دفعت باب المنشرة بهدوء. وجدته جالساً يدخن، لم يبدأ العمل بعد، قميصه مكوي، ووجهه شارد. أشار لها أن تجلس بعد أن نفض الغبار عن الكرسي المقابل:
ـ هل سأشكر حزنك على أبو محمد لأنه جعلك تتذكرين فارس مرتين في يوم واحد؟.
جلست تنظر إلى حذائه، وإلى تشكيل غبار النحت عليه. تحدثت في مواضيع مختلفة محاولة تأجيل الحديث عن صحتها. ألح في السؤال عن حالها، مقاطعاً حديثها الطويل الذي لم يعتده، عن حديقتها، وعن البيت، عن لميس. كان يراقبها بقلق:
ـ لِمَ هذا الهزال؟ أنت منطفئة، أين لمعان عينيك؟ فطمة، لِمَ تغيبين؟ تعرفين أننا نحتاجك، يعني نحن وأولادنا. صدقيني، أشعر عندما تزورينني ونتحدث، كأنني أتعمّد من جديد.
ـ خيو.. أنا أودّع،  أجابت بسرعة ومن دون تمهيد.
ـ ماذا؟ صاح فارس.
ـ أريد منك حاجة، قالت بإصرار.
ـ أنت تأمرين.
ـ تنحت حجر قبري على حياة عيني.
ـ لا..
ـ هذا ما أحتاجه منك، فهل تردّني؟ وإن لم ترغب، يوجد كثيرون.
قالت ثم غادرت ولم تنتظر إجابته..
اتجهت إلى كافيتريا قريبة تطل على النهر. جلست خلف الزجاج  تفرك يديها، وتنظر:
“شاق انتظار هذا الذي نريده أن يأتي ولا يأتي، قد لا نستطيع أن نلتمس له عذراً”.
كانت تكتب على حقيبتها علها تسطر وصيتها، فيما عيون المارة تقتنصها، رغم الشبك والأوراق الخضر واختلاف الضوء، لملمت أشياءها وعادت إلى بيتها.
صلّت ركعتي استخارة. طوت أغراض الصلاة ووضعتها على الكنبة. أطلت على أحواض أرض الدار بنظرة اعتيادية ثم عادت إلى سجادة صلاتها حتى نام رأسها.
وكما يحدث حين تنام، رأت خياماً منصوبة فوق مرتفع جبلي تجري المياه في أسفله قوية هادرة وكان هناك جمال هائجة تتقافز على أسقف الأكواخ غير المتناسقة. على كل جمل رجل ملثم الوجه ملفوف الصدر بقماش أبيض. حاولت أن تتبين ملامحه لكنها لم تقدر. وقبل أن تستيقظ رأت شحاذاً قادماً من القرية، جيبه مثقوب، يبكي عند ساعة المدينة. قدمت له صحناً مغطى برغيف، وكيس سكر، وقطعة صابون.
في الصباح كانت تطأ عتبة منشرة الحجر، أطلّ فارس مغطى بالتراب الأبيض، ملثماً كعادته أثناء عمله في النحت، رآها، أدار ظهره وأخذ يكمل عمله. وقفت دقائق تنتظر أن يدعوها للجلوس، لكنه لم يلتفت:
ـ أنت لا تصدق أني مريضة، وأني لا أحتمل الانتظار.
ـ اطلبي رقبتي، لكن لن أشترك معك في هذا الجنون، من فكّر قبلك أن يجهز قبره؟.
اقتربت منه قائلة:
ـ أريدها شاهدة بسيطة.
شعر بأنفاسها تلامس صدره:
ـ فطمة نحن نستمد الشجاعة منك.
ـ شجاعة، من أين أحضر الشجاعة؟ هل أنا الرب؟ أستغفر الله، رصت حجابها وقالت:
ـ سأعد الشاي لي ولك.
قضت معظم النهار عنده، بدأ عمله بحزن وبطء، يعاند عنادها، ثم ما لبث أن اندمج كلية معها وهي تعد الشاي والقهوة، تقدمها له مشجعة مستمعة معه إلى فيروز: “وحياة ريشاتك وإيامي سوا”.
أنجز لها الحلقة الحجرية تماماً، ومضى يزخرف الشاهدة. كانت تستطيع أن تشعر بحزنه من التفاف إزميله وضربة المطرقة، من قطرات العرق المختلطة بالغبار الذي غطى رموشه وجبينه.
ـ عدني أنك سترجع لريشتك وألوانك.
ـ ربما ستجعلني شاهدتك أقسم أن أترك النحت، عندها سأكون قاطعاً على نفسي وعدين، ألا أرسم وألا أنحت.
ـ سترسم.. فأنا حين أنظر إلى لميس أتفاءل.
أجابها:
ـ هذه الصبية أخذت منك الذكاء والشجاعة، أما حبها للبلد وللحارة فأنت التي لقنتها إياه، ومع ذلك أظن أنها ستهاجر في أول فرصة مثل كل الشباب الذين يئسوا.
لوحت فطمة بيدها غير مصدقة:
ـ أرجو أن تكون مخطئاً، كيف ستكون حياتها بعد أن.. بعد موتي.
عاد لإزميله وأخذ يضرب بمطرقته بعصبية، فراحت تعزيه بأحاديث شتى.
قالت فطمة مازحة:
ـ لو لم يقبروهم معاً لاسترزقتم أنتم النحاتون أكثر.
أجاب فارس وهو يمسح جبينه بكمه:
ـ لم نلحق أن ننسى الهجوم، أتذكرين أول مرة صادفتك فيها؟ يومها قررنا معاً أن لا نتحدث عن ذلك اليوم أبداً.
ـ اليوم أنا بحاجة أن نتحدث. استأنفت:
ـ كنتَ تبكي ذلك الطفل ابن العاشرة. رأيته بين أيدي رجال أبو شامة يضربونه ويرفسونه. ثم قتلوه وظللت أنت متوار خلف الحرش.
ـ أرجوك. كفى. نظر في وجهها: ويومها كنت ترتجفين من الخوف والبرد، تغسلين قدميك وتتمتمين: هل هذا دمي أم دم أعمامي؟ وتعيدين السؤال، عندما اقتربت منك، قلت لي بذعر: أنت من رجال أبو شامة؟.
قاطعته فطمة:
ـ كان شكلك محيراً، طويل نحيل بعيون خضراء.
ـ ثم قلتِ: اقتلني بسرعة إذا كنت تريد هذا، لم أعد أقوى على الوقوف.
ـ وتسللنا إلى الضيعة المجاورة.. لنعود ونشاهد الذي شاهدناه.. أووف.
تناولت حقيبتها وسوت معطفها ومضت، تاركة الرجل في ماض شديد القسوة وحاضر بائس. ألحقها بعينيه حتى غابت. أشعل سيجارة وانغمس في ذاته أكثر.

جاءها في المساء بعض الأقارب في زيارتهم الشهرية التي يؤدونها كواجب روتيني، صارت أكثر نزقاً وعصبية. اكتفت بوضع الفاكهة أمامهم، لم تقشرها لكل منهم كعادتها في تدليلهم. راحت بين حين وآخر تدعوهم لتناولها، مادحة ثمار الدار التي تطيل الأعمار، تفعل هذا فقط لتملأ وقت الزيارة. لم يكترث أحد منهم لتجول الجربوع فوق سور أرض الدار، أرادت أن لا ينتبهوا إليه.
ـ يقال إن تالولة أبو شامة تكبر وهو فرح بها.
ـ تالولة أبو شامة تلمع كأن صاحبها هدهد في سرير ذهبي.
ـ أبو شامة يرقب نمو ثألولته على “الكمبيوتر” بإشراف إختصاصيين أجانب.
ـ كأنه وُلد في سويسرا.
ـ يتكاثر بالتبرعم؟.
ـ أليس لديه مزاج  بالنسوان؟.
ـ أنت يا جميل لا تكترث إلا لهذا.
ـ هل مزاج أبو شامة مع الصبيان؟.
ـ لا.. إنه مشغول كل الوقت، مشغول بإدارة شؤون الحارة، لكن الأمل كله في التالولة.
ـ  ما أخبار نذير؟.
ـ لا شأن لنا به.
ـ أوليس عمنا يا أمي؟.
ـ عمكم لم يسأل عنكم.
ـ ربما يدبر لنا عملاً في الخارج.
ـ لن يدبر لنا إلا ما دبر.
ـ  لا يحب عمي أحمد أن يتذكر اسم نذير، ولا يريد أن يتحدث أحد أمامه في أخبار أبو شامة، أو تالولة أبو شامة.
ـ فطمة ألا يزورك أحمد؟.
ـ قليلاً والله يا عمي.
ـ ربما من خلال التالولة يستطيع نذير العودة إلى الحارة.
ـ الله لا يرده، ولا يعيدها أيام.
ـ دين أبو شامة.
ـ لا تشتم الدين.
ـ لن يجد نذير خليفة له.
ـ بل سيجد.
ـ ماما أريد “كمبيوتر” مثل ” كمبيوتر”  لميس.
ـ “شوها الموضة اللي درجت؟”.
ـ  عمتي لا يمكن العيش بدون “الكمبيوتر”.
ـ كنا نعيش أحلى عيشة، والله الخبز والجبن والجبس في ليالي الصيف، وغسل أيدينا ووجوهنا وأقدامنا بماء البحرة، ثم الاستلقاء على الفرش التي تمدها أم الحب، الله يرحمها، صوف جز “هيك علوه” كانت الشراشف البيضاء، والوسائد العالية الطرية تدعونا للاستماع إلى حكاية الجدة، والله، ما في أحلى من تلك العيشة. كانت أيام أمان وسلام وتسلية.
ثرثروا طويلاً بأحاديث اعتيادية ولم ينتبهوا إلى شرود فطمة.
ودّعتهمْ ومضت فوراً إلى فراشها من دون أن تفكر في إعادة ترتيب الكؤوس في الخزانة بعد غسلها، أوتغليف الفاكهة في الثلاجة، أوتنظيف الأرض وقبضات الأبواب.كان التعب قد سيطر عليها. أوت إلى فراشها، بلا قراءة، مختصرة سنّة العشاء ووتره ودعاءه.
“رأته يقفز وسط قبو البيت بين الأغراض المهملة: حيوان صغير مشوه يشبه الضفدع، وجهه وجه إنسان، حاجباه مقطبان وأنفه قصير. أخذت تبكي بخوف شديد وتبتهل لربها أن ينقذها من هذا الكائن الغريب. لكنها فوجئت به يبكي بعويل يائس حتى انسلخ عنه جلده، وأصبح كائناً آخر، أخذ يركض وجلده يلحق به بلونه الأخضر المبقع”.
عندما فتحت عينيها على هدوء البيت وعتمته وفراغه، أجهشت في البكاء، ماذا تفعل مع المرض؟ لابد أن تواجهه يوماً، إنه قريب، تتوقع أن تنهار بعد أيام. شربت الماء وصلّت. لا تدري لِمَ اشتهت في تلك الساعة من الليل أن تقطف ليمونة طازجة، وتتناولها مع الملح.

منهل السراج
مجموعة قصصية بعنوان “تخطي الجسر” 1997. فازت قصصها بأكثر من جائزة.
ورواية بعنوان “كما ينبغي لنهر” فازت بالمركز الثالث عن دائرة الثقافة بالشارقة لعام 2002 كانت منعت من النشر في سوريا عام 2000.
رواية بعنوان “جورة حوا” صدرت عن دار المدى عام 2005.
رواية بعنوان “على صدري” صدرت عن دار قدمس دمشق 2007.
مقالات عديدة في الصحف والمواقع العربية

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتبة منهل السراج
للكتابة الى الكاتبة مباشرة
Sarraj15@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى