منهل السراج

الحلقة الأخيرة من رواية “كما ينبغي لنهر”

null
منهل السراج

أحبها واختلطت هواجسه بحبه لها.
ـ  لن تبعث، يصرعني هذا النداء، قال الحاج عمر، يفاجئني، وعندما أنساه، وهذا نادر، يأتيني متجدداً قوياً، يبدأ عند أذني الوسطى أو الداخلية، ثم يرسل إشارات تجعل جسدي كله آذاناً وسطى وداخلية، يأخذني فتجدني زوجتي متقدماً بعنقي مصغياً بدهشة، فهذا النداء يدهشني في كل مرة يأتيني،
وهو يأتيني في كل الأوقات، يهزني من نومي، أتدثر بلا فائدة، يعصف في رأسي، أثناء أداء عملي، وفي حمّامي، وعندما ألاعب أولادي. لست واهماً، فإن اللجنة التي شكلتها منظمة [oo] العالمية قد أرسلت لي أحد موظفيها المهرة، كي يسرق آخر ما كتبت في دفتري الذي أحرص بشدة على إخفائه، والدليل على ذلك أن موضوعي الأخير كان حول امتزاج العناصر، امتزاج التكافؤ والتعادل، وحول مفهوم الحار والبارد. لاحظي معي هنا. عندما قدم الموظف لي كأس الشاي وسألته: هل هوحار أم بارد؟  أجابني بخبث:
ـ أنت فقط من يستطيع تحديد ذلك. أتلاحظين؟.
يظن أنهم يراقبونه، وما لا يستطيع فهمه هو، كيف يصلون إلى أدراج مكتبه المقفلة؟ ولكن ما الغريب في ذلك؟ وهم، في رأيه، متوصلين إلى اختراعات لم يكن يتوقعها في كتاباته السابقة.
ـ مؤكد أنهم يقرؤون ما أدون دون أن يفتحوا الأدراج.
تنهدت فطمة وتيقنت أن موعد زيارة الحاج عمر لها قد حان، فهو يطرق بابها في منتصف كل شهر عربي.

أفسحت له، فتوجه كعادته إلى غرفة الجلوس. استراح على الكنبته التي اعتاد عليها، مقابل صندوق الجدة. استرخى وفرد يديه بكميه العريضين، وقبل أن يتوقف عن لهاثه، قال:
ـ الجميع متواطئ علي، وحده طفلي المختل هو من لا يمكنهم التأثير عليه، فعندما أجده مهتاجاً يصرخ ويقفز، لا يسمح لأحد أن يلمسه، أدرك أنهم كانوا في بيتي. عندها أنتظر حتى ينام الجميع فأطفئ أنوار المنزل كلها وأندس تحت الطاولة واضعاً دفتري على ركبتي ومصباح الزيت إلى جانبي. أسدل غطاء الطاولة فأشعر بالأمان وتنهمر الأفكار الهامة التي سوف تقلب العالم وتفتح عهداً لم يسبق له مثيل في العدل. التفت إليها:
ـ كيف؟ أعترف عندك بكل ما أفعله، كأنك جدار كعبتي. تقولين :أنت واهم. ها أنا أدفع ثمن معاصيّ، فأنا لم أضحك منذ أعوام، ولم أتحدث إلى صديق. عاصم مشغول معظم وقته. أصلّي الأوقات الخمسة، أحاول أن لا أنقص النوافل، مواعيدي مع الناس بين الصلوات، قبل الظهر أو بعد صلاة العصر. يصحو أولادي على صوت قبقاب الوضوء للفجر وينامون مع آخر ركعة من وتر العشاء. أصوم كل اثنين وكل خميس. أصوم مع زوجتي الأيام البيض من شوال، أصون جيراني، أصل رحمي، رغم أن أقاربي لا يرحبون بي وبأولادي، وكثيراً ما يدَّعون الأعذار كي لا يستقبلوني في العيد، لكن عملي مع الله. هم يخشونني، كأنني مجنون.
في الوظيفة قلت: واسطتي ربي، فضحك موظفو الذاتية. صافحني رئيسهم بكفين صغيرتين كاتماً ضحكة، ثم قال: ليس عندنا شاغر. فتحت باب الإدارة، فصرخ أحدهم: اجتماع، يا “خرا” .. خرجت إلى الشارع، كان أحد الأولاد يرشق كأساً إلى السماء ويتركها تسقط من دون أن تنكسر، فينظر إلى الناس باسماً ظافراً ببضاعته، ليفاجأ بأحدهم يقترب منه ويسأله: هل هي ضد الكسر؟ بكم نصف الدزينة ؟ عدت إلى البيت وكتبت عن رتل من الناس يمسكون بأيدي بعضهم، بينما عيونهم تتلصص على عيونهم.
وضعت فطمة كأساً من الليمون وأدارت شريطاً لمقرئ ذاع صيته أنه يُبكي من يستمع إليه، أحست ببعض التعب، لكنها لم تفقد صبرها:
ـ هذا كان من زمان ياحج عمر.
منعه أخوها أحمد من زيارتها طوال فترة إقامته في البيت بعد خروجه من السجن وقبل الزواج: ينقصنا مجانين؟ ألا يكفينا لميا وملازمتها لباب بيتنا؟.
ـ أدرك يا فطمة حجم قوتهم وشرورهم، ولكن ماهو الحل؟.
يقطع حديثه ليسألها عن أخبار نذير، ويذكرها بأيام النخلة ولعبهم. لا ينتظر جوابها:
ـ لم أعد أستطيع الانسحاب من موقعي، لماذا تعاقبينني بنظراتك مثل ربي؟ ألست مقتنعة معي أنني في مركز العالم؟. وضعتُ ستائر من قماش سميك على نوافذ المنزل، وعلى محيط الحديقة. منعتُ نور الشمس من الاطّلاع على أوراقي، أو التسلل إلى زوايا بيتي. ما أدونه يستحق الحرص، وأنا لن أضحي بنظريتي لهذه المنظمة اللعينة. وضعت برنامجاً دقيقاً لمراقبة زوجتي وأطفالي، بت أفتش ضفيرة ابنتي، قبل ذهابها إلى المدرسة، مع أنني أتألم كثيراً لدموعها بسبب تأخرها عن موعد الحصة الأولى، لكن لا ذنب لي فالحذر واجب. صرت أعود إلى البيت بأوقات مفاجئة، كي ألتقط تواطؤ زوجتي مع المنظمة، باغتتني أفتق معطفها كي أفتش عن الورقة التي كتبوا فيها تعليماتهم لها، شدت مني المعطف، وصرخت: والله إنك تشبه ابننا المعتوه، يلزمك طبيب.
قاطعته فطمة:
ـ كيف حاله؟.
اكتفى بحركة يأس، ثم قال:
ـ تعرفين أن أمه أصرّت أن ترضعه أثناء الأحداث. قالت لها النسوة لا ترضعيه حليب الرهقة  أجابت: أريد أن يطلع خويتة  حتى لا يأخذوه حين يكبر كما أخذوهم الآن.
أكمل وهو يربت على صدر جلابيته وقد قطر جبينه عرقاً بارداً:
ـ بحثتُ بين اللوحات المعلقة في الشوارع العريضة، قرأت عن طبيب يعالج الشكوك والظنون، حدثته عن المنظمة، استمع إلي بنزق وكتب وصفة ثم قال:
ـ أحضر الدواء “تهريب”.
ـ أردت أن أحدثه عن معاصيّ، لكنه أشار إلى انتهاء الوقت المخصص. أنا أعترف بذلك ولكن أن لا أبعث، فهذا خطير جداً. أين تذهب هذه المعاصي؟ كيف أغتسل منها وأعود كما ولدتني أمي؟ حاولت يا فطمة بكل مالدي أن أزور قبر النبي عليه الصلاة والسلام، أن أحج إلى الكعبة، من دون جدوى، تنهدت من أعماقي عندما سمعت بجاري الذي مات في الحج أثناء “النفرة”. داس عليه ثلاثة ملايين حاج، “نيّالو يافطمة على هيك موتة”. والآخر الذي قضى عند “الموضأ” عندما تزحلق، فاصطدمت مؤخرة رأسه بحنفية الماء. حلمت ليلتها أنني شُنقت بالحبل الذي يشدون به لباس الكعبة، بينما كنت أقبّل الحجر الأسود. وحين استيقظت أحسست بصدري منشرحاً فدعوت لربي أن يطعمني “الحجة” مع الفوج القادم.
كانت فطمة تحبس أنفاسها،كي لا تقطع عليه استرساله، وتكتم ألماً يكاد يخنقها.
تنهدت ثم قالت تطمئن زائرها:
ـ لكن الجميع يناديك يا حاج عمر.
لم يعلّق، اكتفى بحك رأسه واستأنف حديثه:
ـ سوف أقف في “عرفة” رافعاً كفيّ إلى السماء مستغفراً ربي عن كل ذنوبي ومعاصيّ. سكت بعض الوقت، مسح جبهته وخديه وقال:
ـ في إحدى ليالي الشتاء جمعنا أبي حوله وسألنا بصوت خشن: من رمى قشرة الموز فوق الخزانة؟ ثم صفعني من دون أخوتي مع أنني لم أفعل ذلك، لكن مافعلته في اليوم الثاني أنني أخفيت شرشفي المبلل خلف الخزانة، ونويت إن سئلت أن أقول: لاشأن لي به. هذه أول معصية أتذكرها. ثم كانوا يقولون: دورك في الاستيقاظ باكراً لشراء ثلاثة كيلوات من الخبز وبعد العصر تسقي الدالية الكبيرة والدالية الصغيرة، لكن لا تغرقها بالماء، وعندما يحل الليل تخرج تنكة الزبالة، ترتب خزانة الأحذية، تشطف عتبة باب الدار. كنت أشتري “كيلوين” ونصف من الخبز متأكداً أن أمي لن تزن الخبز ثانية، وببقية ثمن الخبز أشتري قطعة من المشبك الساخن ألتهمها على الفور.
أرأيت كيف أن سجلي عند ربي مليء بالذنوب المبكرة؟. كانت جدران بيوت أقاربنا وبيتنا مثبت عليها صور الأب أو الجد الذي مات، كنت أظن أن كل من تصور سوف يتلاشى وتبقى صورته معلقة. عندما قرروا أن يصوروني من أجل المدرسة بكيت وركلتهم بشدة، بينما كانوا يشجعونني أنهم سوف يكبرّون صورتي ويعلّقونها على الحائط.
في العشرين من عمري ذهبت أعزي صديقي بأبيه، فوجدت الشيخ يصرخ: سُمّي القلب كذلك لأنه متقلب، فحاذروا: من يستمع إلى أغنية “قدر أحمق الخطى”  تعتبر زوجته طالقاً. ثم استأنف الشيخ بصوت أعلى جعل قلبي يغوص: الغناء، حرام، حرام.
خرجت من العزاء وهمست في أذن جاري:
ـ أنا كمن دخل يصلي أربع ركعات العشاء فعلق بصلاة التراويح.
رفع عمر وجهه المنهك إلى سقف فطمة قائلاً:
ـ يارب سامحني على جهلي واعف عني، أنا عبدك الضعيف.
قال وهو يبتلع ريقاً سميكاً: كنت أيضاً أضع كتاب الرياضيات في خزانة الأحذية قبل خروجي من البيت، وعند عودتي أتناوله لأدخل به تحت إبطي موهماً أمي أني تعب من الدراسة وأنني جائع.
في السينما كان عنوان الفيلم، استغفرك يا ربي، “حب وعنف وإثارة”. وجدت الأماكن كلها محجوزة فقطعت تذكرة “تلقيح” وقضيت الوقت كله مستلقياً أمام الشاشة، أضايق من في الصالة والبلكون حين أرفع ساقي فتأتي في وجه الصورة، فأسمع صراخ المشاهدين وأضحك، يا رب كم كنت جاهلاً.
صمت قليلاً وراح يمسح خديه وجبينه بكمه ثم تابع: أما المعصية التي أخجل منها ومن تذكرها فهي أنني كنت أتلصص على جارتنا سميرة، أشار باتجاه بيتها وأكمل، وقد كانت تعرف ذلك وتتهيأ لمراقبتي ليلاً عندما ترى اسوداد الثقب الذي أحدثته في الجريدة التي غطت أمي بها نافذة المطبخ،كانت تنظر بطرفها باسمة كأنها تسألني: مبسوط؟.
ـ هل أكمل يا فطمة اعترافي لك مضيفاً آخر ما أذكر من آثامي؟.
أجابت بصبر:
ـ أكمل.
ـ وضعتُ على ثقب قفل الحمام شريطاً لاصقاً كي لا يتلصص أحد عليّ. لن أخاف المنظمة، وأنا أعلن أمامك وأمام عاصم والمنظمة أيضاً أنني لن أغادر مركز العالم، هذا المكان الذي جعلني أكشف الأسرار جميعها، أنا فقط من رمته العاصفة في هذا المكان الخطير وبمصادفة غريبة.
لن يستطيعوا قتلي، حتى لا أبعث شهيداً، لكنهم سوف يمنعون بعثي بينما يلتقي الجميع بربهم، وأنا أين أكون؟ ما نفع أوراقي إن لم أمش على الصراط المستقيم، وأصل بسلام إلى الجنة أوإلى النار؟ أدرك يا ربي أنني برحمتك أدخل الجنة، فـكل عباداتي يا فطمة لا تعادل نعمة البصر التي أنعم ربي علي بها. ما الذي يفعلونه حتى يجعلوا الرب ينساني؟ أخاف خطرهم وأرتبك منه، لكن هل أتراجع عن مكانتي التي وهبني الله، بعد أن وصلت إلى الحقيقة؟ اليوم أحرقت أوراقي جميعها، أصابني الارتياح.
صمت، وشرد في شأن ما، ثم استأنف محاولاً طمأنتها: لكن لا تقلقي، فكل فكرة، وكل نتيجة توصلت إليها، هنا في رأسي، المهم أن لا تنسي أن ما وصلت إليه هو أن الديانات تلتقي، فلا خلاف جوهري بينها، الماهية واحدة والصراع كان دائماً على العناوين، كذلك شأن الفلسفات والنظريات، أنا مستعد أن أصمد أمام أرسطو والغزالي وابن رشد أيضاً.
هذا الدواء اللعين يشتت أفكاري ويخدّرني، يشل دفاعاتي أمام  “المنظمة”. سوف أتركه. اليوم نسيت صلاة الضحى، ولم أردد أذكار طلوع الشمس. ومنذ بدأت تناول الدواء لم أصم، ربما زوجتي محقة أنني أصبحت مثل ابني المعتوه. يجب أن أؤدي الرسالة قبل أن تتمكن المنظمة من تغييبي عن هذا العالم. سوف أمضي في الشوارع وأدعو الناس إلى نظريتي.
خرج الحاج عمر من باب البيت الكبير واضعاً ثقل همه وتعبه في بيتها.
خلّصته من ذيل الورق الذي علّقه الأطفال له منذ وقت، وتابعته حتى قطع الجسر الصغير.
غاب في الأضواء الخضر لجامع أبو رحمون.

“منذ زمن بعيد لم أر فراشة ولم يأتني خبر، ولم يحبُ طفل في أرض داري فيبلل بطنه بماء البحرة. منذ زمن بعيد لم تزدحم العصافير عند الفجر على أغصان الليمونة وتغرد فتوقظني فجراً. منذ متى لم تتحدث إلي أوراق الحديقة وترابها، أو ضفة القبو مع ضفة النهر؟. منذ وقت ليس قصيراً يرسل النهر روائح وحشرات. أيمكن أن يفيض على القبو، وتختلط مياهه بتراب الحديقة؟. ماذا أفعل لحمايته، ها أنا أدفن فيه أحشاء الخروف في كل أضحى !. منذ كم من الوقت غرزوا حرابهم في تراب الحديقة،كي يبحثوا عن سلاح نذير وعمامته متوهمين في ذلك الحين أنه مختبئ هنا”.
إذا قالت:
ـ أظن أن جميع من تبقى لن يحرك ساكناً، فلو أراد أبو شامة رد النهر عن مجراه فلن يمنعه شيء، بل ربما ينصرف الشعراء لرصف قصيد بعنوان “رد النهر عن مجراه”.
سيكون الرد:
ـ الطامة الكبرى أن أبو شامة لا يدري بوجودك، وغير مكترث لحضورك أو غيابك، كذلك عمك نذير.. ألا تفرحين إن عاد نذير؟.
ـ  لم أشتق له، فأنا أراه في التلفزيون. تبدو عليه العافية والاطمئنان.
تجلس نساء العيلة أمام التلفزيون، يتغزلن بشيبه المترف، وبأناقته الباريسية. عدا عن أن أحداً لا يعرف شيئاً عن أولاده، إلادراستهم وعملهم الناجح في الخارج. مازال نذير يدّعي النضال أو يتظاهر بذلك. سيختل التوازن إن عاد إلى البلد لسبب ما.
فتحت عينيها فوجدت الشمس غائبة تماماً خلف سحابة كبيرة، غطّت سماء نافذتها. هذا الجو السديمي كم تعشقه وكم يلائمها.
“ليس لأحد هيمنة على أحد، للشمس دور كما للغيم دور، أما دور السماء فهو إفساح الفضاء لهما، نور وظل وأزرق فاتح رطب. كانت الجدة تقول: الدنيا غطيطة*”.
وضعت ركوة قهوتها على النار وقد زادت كمية الماء على ثلاثة فناجين اعتادت أن تشربها صباح كل يوم. بانتظار أن يغلي الماء تجد دائماً لنفسها شيئاً تفعله. فتحت نافورة البحرة وخرطوم الماء على الأحواض، أرادت أن تبلل هذا السديم بالماء، شعرت أن خضرتها تحب السديم أيضاً.
كانت مرتدية قميصاً خفيفاً بأكمام عريضة من قماش كتاني خام، حوافه مطرزة بخيوط ملونة مشتقة من الأزرق توائم لونه المالح، لون الطحين الأسمر. يصل إلى ركبتيها. وفي قدميها خف من القماش نفسه، مطرز بخيوط سماوية. تقول لميس: خالتي، من ينظر إلى قدميك يظننا في عمر واحد.
رن جرس الباب الخارجي متزامناً مع دقات الساعة:
“إنها التاسعة صباحاً، من يكون؟”
الذين تتوقع قدومهم في أوقات مفاجئة لديهم مفتاح للباب. قالت بصوتها الذي يبقى ناعساً إلى أن تشرب قهوتها:
ـ من؟.
جاءها صوت فارس:
ـ فارس.
فكرت:
“ما الذي جعله يزورني هذا الصباح وفي هذا السديم؟”
هرعت إلى غرفتها كي تستر نفسها بسرعة حتى لاينتظر الرجل على الباب طويلاً. ارتدت معطف الخروج فوق قميصها وربطت شالها.
ـ أهلين، تفضل، القهوة جاهزة.
وضعت أمامه على رخام البحرة فنجاناً ونظرت في عينيه، رأت فيهما شوقاً واعتذاراً. قال:
ـ أعرف أن الوقت مبكر للزيارة، لكن عندما شاهدت السديم خفت عليك.. أنا قلق جداً.
ابتسمت:
ـ اشرب قهوتك.
نظر إلى قدميها وضحك:
ـ مرتدية معطفك فوق قميص نومك؟ ثم استأنف متخابثاً:
ـ أستطيع أن أرى خيوط قميصك تتباعد عن بعضها لتدعو نسمة ما أن تدخل إلى جسدك الساكن؟.
خبأت قدميها تحت كرسيها وتأكدت من حجابها ثم أرخت عينيها تقاوم ابتسامة، لكن رموشها التي تفضحها دائماً جعلته يقول:
ـ أنت تذوبين في هذا الصباح مثل السماء والغيم، مثل الفضاء، كأنك شُكلت منها جميعاً. نظر إلى وجهها بحنان، واستأنف: حياتك مثل هذا النهر. ثم بعد صمت:  سوف تهدئين. لن أصدق أنك ستموتين. أريد أن أحدثك في كل الفصول. في الربيع: أين خبأت زهرك، ولِمَ تخبئينه؟. في الشتاء أريد أن أقول: لا تزيدي الحطب أكثر، أنا أتدفأ بطلعتك. وفي الخريف: لا تنسي كتبك وعروسة الزعتر.
ضحكت:
ـ أما في الصيف؟.
ـ ماذا أفعل وقت قيلولتك..؟.
ـ في الخريف والشتاء تنشطين، مع ركود النهر. في الربيع والصيف تهدأين بنشاطه. أما في هذا اليوم الهارب من الفصول الأربعة، أقول: لن أعدّ شاهدة قبرك، بل سأكتب لك شهادة حياة، وإن أبيتِ، سأختار العبارة الحية التي تلائم شباب أحلامك. تحتاجين مرآة تطلعك على جمالك. انظري إلى هاتين القدمين، إلى لون خدودك، كيف يمكنك الحديث عن الموت؟. أرى كل هذا الجمال يحتاجك. من سيفهم على النهر، على الأشجار، على الناس. من سيجعلهم يتفاهمون؟ من سيصلّي بخشوعك؟ من يحفظ ما تبقى من الضفة ومن الحارة سوى أدعيتك؟.
ضحكت:
ـ ها أنت تذكر الأدعية والصلاة، وأنت من كنت تسخر من إيماني.
رد هازئاً:
ـ شيء يجعل الكافر مؤمناً.
ضحكت:
ـ ما رأيك أن تتشاهد أمامي فأكسب ثوابك؟.
ـ كنت أود ذلك، على الأقل كي أستطيع أن أتزوج مرة أخرى، وأرتاح من الزيجة النصرانية المتورط فيها.
ـ هيا قم إلى أولادك وكفاك.
ـ  لا يريد الأولاد منا شيئاً سوى المال، ها أنا أنحت الحجر،كي لا أحرمهم ما حرمت منه. دعينا نتحدث معاً في هذا الصباح الخريفي، فاليوم أحد ومنشرة الحجر مغلقة.
ـ إذن سأعد لك حلاوة السميد، لدي جبنة طازجة.
همّت أن تتناول فنجان قهوته عندما فاجأها وأمسك يدها:
ـ منذ كم من الأعوام لم نر هذا السديم، ومنذ كم من الأعوام لم ير جمالك أحد؟ عيناك الذكيتان وشفتاك وأنفك النزق. أنت خير من يصغي. تتحولين إلى فضاء أبيض. يمكن لمحدثك أن يرسم الخطوط التي تحلو له، ويتركها ظاناً نفسه بطلاً أو فارس الزمان.
سالت القهوة. طرق قلبها، تهدلت ملامحها، رجته أن يترك يدها.
مسح خديها بأنامله:
ـ أحبك كما أنت، أنثى حقيقية. أخشى عليك من نفسك.
بكت.
ـ لِمَ تبكين؟.
ـ على هبلي وقلة حيلتي.
ـ أميرة.. وإن بلغت المئة، قال وهو يلملم ما تكسر، ويدلق براحتيه من ماء البحرة على الأرض الحجرية التي تلطخت بالقهوة الذائبة.
هكذا  ك
انت وحيدة دائماً، مكتفية بذاتها، ملتفة على نفسها، فعندما تنام تلامس ركبتاها ذقنها  فتنبعث رائحة أمن قديمة، تجعلها تنتشي. مترقبة دائماً، متوجسة، على أول خط دفاع تقف،كي تدفع عنها أي سوء فهم، أو أية محاولة اعتداء على أنوثتها.
أطالت الانطواء على ركبتيها، حتى أدرك الشيب خصلات شعرها المتبعثرة على جبينها وأذنيها، وغطى الغبار أحبابها، الحديقة، والنخلة، والدرج ذا الدرابزين الفستقي، ودفاتر الغائبين، وأحباباً آخرين.
كانت تقبّل فمها في المرآة كل صباح، قبل النوم، وأثناء النهار، تلك القبلة التي اعتادت عليها.
قيل : انحناءات جسدك اللينة والناعمة قبر وسجن وقيود تبغين الخلاص منها؟ تسلحي وحاذري إن سمعت من أحدهم غزلاً وقحاً، فأنت المسؤولة لأنك كنت خفيفة. لا تصرخي عندما تناقشين، لا تضربي الطاولة، لا تصمتي دائماً حتى لا يتهموك بالتخاذل. عند هذه الشعرة يجب أن تعملي.
وعندما كان يطلبها أحد للزواج،كانت تخجل وتذكر له اسم جارتها الراغبة بذلك.

لم يعد باستطاعتها أن تصبر على السر أكثر، فالآلام لم يعد من السهل تجاهلها، وطبيبها الذي لم يكن يكف عن نصحها بأن تأتي بمن يعيش معها، ملّ المحاولات وقل اهتمامه بها. قالت لنفسها:
“هذا من طبيعة الأمور، ما شأن الرجل بمريضة إن كانت وحيدة أوبرفقة أهلها؟”.
فكرت بابنة أختها لميس، لكنها سرعان ما استبعدت الفكرة:
“تعيش الطفلة مع أمها حياة ترف ومرح. كل ما تحتاجه مؤمن لها لتحقق أحلامها”.
داعبتها كلمة الأحلام، ما هي أحلام هذه الصبية؟ استغربت أنها لا تعرف أحلام لميس.
بات الجربوع يتطفل عليها حتى في حمامها، وفي مطبخها. يخرج لها من درج أدويتها، ومن أحواض مزروعاتها. قد يقضم بعض الأشياء التي تفلت من انتباهها. لم تعد تحاول مقاومته، فقد انشغلت بمرضها، وبهذا التضخم في خلاياها، وهذا الورم الذي يأبى أن يتوقف عند حد، وبدوامة الأدوية التي تتناولها وفق برنامج تنفذه بدقة وأمانة، تلك الأدوية ذات الحبات الملونة، كأنها صُمِّمت كي تسلي المريض، كأي قطعة شوكولا أو سكاكر يتناولها الأصحاء بلا اكتراث للحمية. باتت الذكريات تقتحمها من دون أن تستدعيها، تختلط بحاضرها في تشكيل ضبابي مبهم ومعقد، يستلبها من أصغر التفاصيل والبديهيات التي اعتادتها في حياتها، طعام لميا وأبو رحمون، الإنصات للحاج عمر، مراقبة الأستاذ عاصم، إعداد الأطعمة لأهلها، أقاربها، رعاية الحديقة ذات الطوابق الثلاثة، مكافحة الجرذ.
“ضعف، إرهاق، ضياع، ها أنا أقضي معظم أوقات الصلاة متأخرة”.
تستقبل لميس القلقة عليها، تسألها عن دروسها في محاولة تمويه مرضها مكثرة من التوصيات:
ـ اقرئي،  اسعدي، افرحي، لا تتركي الهم يقتحمك. إن لم تستطيعي تحقيق الحلم دعيه، وابحثي عن غيره، سافري، تعرّفي على الدنيا، اختاري ما تحبين. لم نجن شيئاً من القلق.

حين ولدت ليلى ابنتها البكر لميس، كانت فطمة أول من أمسكها بعد الطبيب والممرضة. شهقت وهي تتأملها: ماأحلاك!! فقال الطبيب الذي ترك ليلى في فراشها منذ قليل: هل هذه أمها؟. ثم ضرب جبينه معتذراً عن هذا الخطأ.
بالملعقة الصغيرة وبالصبر الطويل ناولت الطفلة أول وجبة طعام لها في الدنيا: ماء وسكر وأمنيات. بعد ذلك أشرفت بنفسها على غذائها وصحتها وروحها. كانت حين تمرض الطفلة بالتهاب بسيط في البلعوم تتصل فطمة بليلى عشرات المرات كي تطمئن. كانت تؤنب أختها أنها ارتكبت خطأ ما جعل البنت تمرض. وإن وجدتها بصحة جيدة، تلعب وتثرثر، تقبّل كفيها الصغيرتين وتأخذ على ليلى العهود القاطعة بأن لاتهمل صحة الطفلة أبداً.. وهكذا لم تكن ليلى تستطيع أن تنجو من مراقبة أختها الصارمة لطريقتها في التربية. حين كانت تتذمر من بعض عادات الطفلة المتعبة مثل قلة شهيتها على الطعام.. تجيبها فطمة:
ـ عليك أن تناوليها اللقمة بأصابعك وتجلسي أمامها قبل الطعام وبعده وتبتسمي من قلبك وتفرحي بها وتشكري وجودها و..
حين تقتنع ليلى بعدل كلام أختها تتأفف قائلة:
ـ كيف أفعل هذا؟ أشعر أنني أنا من يحتاج الحنان.
كبرت الطفلة وفطمة تلملم ألعابها وثيابها التي صغرت عليها وتطويها وترتبها في خزانة خاصة، كي تفردها يوماً ما وتتأمل جمال مراحل عمرها: هذا ثوب عيد ميلادها الأول، يومها جلست بين ألعابها الكثيرة وراحت تثرثر بكلمات غير مفهومة إلا لفطمة التي راحت تلبي طلباتها وسط دهشة الجميع. وهذا الكلب المصنوع من الفرو الملون نال ضرباً مبرحاً من لميس كي يعد إلى العشرة مثلها. وهذه حقيبة الصف الأول وتلك جلاءات الصف الرابع وهذه شهادة الصف التاسع و..

وكما يرى النائم رأت مكاناً نائياً، أشجاره تثمر نساء حوريات وعليه شروق نور عال، جاء منه جنين. وضع في تابوته منذ ولادته، وسلم للبحر.. وصل إلى الجزيرة الظليلة ذات الهواء النقي، الفارغة من بني آدم،  تحدث وتفاهم بلغة حيوانات الغابة.
بعد سنوات ماتت أمه الظبية، فشرّح جثتها..
أدرك أسباب الموت، فنسي مأساة فقدانه لها، وانصرف للتعلم منتشياً بانتصاره على رفاقه من الحيوانات الأخرى.
تغلّب على مجاهيل الغابة وغموضها. راح يشرّح جثث الحيوانات الميتة  أمام دهشة الأحياء. أشعل النار وأحبها، تعلّق بها كما لم يحب شيئاً في حياته. اخترع أشياء عديدة كان أولها أدوات الصيد. انشغل باختراعاته المتسارعة عن الحوار مع رفاقه الحيوانات، مما أنساه لغتهم. نسي غريزته الأولى، انصرفوا عنه بعد ما رأوا من تفوّقه وتدبيره. قرر أن يسخّر هذه الحيوانات لخدمة حيله وابتكاراته. تمكّن من الغابة فأصابه الملل، فهو الأذكى والأدهى. أحس بالوحدة فأخذ يفكر بالسماء والأرض. كان كلّما اهتدى إلى تصور ما، يدخل في تساؤل أكبر، حتى اكتنفه الاكتئاب، والحزن، والشعور بالضعف والصغر. هنا اتجه إلى البحث عن الإله الأكبر منه، وبدأ يفكر بحيلة تجعل الله ينزل من علياء سمائه .
مازال هذا المخلوق ينظر إلى السماء آملاً رحمة أورِفعة تغدق عليه، فترفعه إلى المكانة التي يظن نفسه أنه يستحقها.

اشتاقت إلى الوليد وملمس جلده، إلى تقبيل أصابعه ورؤية فضلاته الأولى وسقوط سرته، واشتاقت أن تمسح جسده بالبودرة وأن تحضر أشياءه.
ـ يجب ألا تقل الأحزمة القطنية عن ستة. أما القميص الأول فيجب أن يكون من الشاش، والثاني من القطن الناعم.
إذا شُكِلت ساقك من الفخذ فهذا دليل حملك بالولد.
إن قالوا لك أصبحت بشعة فإنهم يبشرونك بالولد.
عندما تلدين فسوف تقدمين مغلي الشمرة بالفستق.
بانتظار إفراز الصمغة من ثديك تناولي البقدونس بكثرة فإنه يجلب الدَّرة.
انتبهي فإن قبر النفساء يبقى مفتوحاً حتى  الأربعين.
أرادت أن تلد من دون علّة خارجة عنها، من دون شريك غير عادل..
استندت إلى جذع النخلة تتأمل في سماء بخلت عليها بالرجل العادل، وفي أرض تخمّرت في بطنها طينة على مر السنين، وامتزجت فيها العناصر امتزاج الحار بالبارد، والرطب باليابس، وكان امتزاج تكافؤ وتعادل.
كانت تقضي ليالي الخميس على السطح، تراقب جارتها، زوجة عمر تخرج ثديها من الصدرية وتدسه في فم وليدها، وعندما يغفو تضعه في سريره، وتدير ظهرها له، ثم تستلقي فتزداد ثنيات قميصها عند خصرها وتتداخل مع أصابع زوجها النائم بجانبها.
يُطفأ النور، فتهبط فطمة إلى غرفتها وتنام وسط سريرها وحيدة، لتصحو صباح الجمعة وترى القمر يرحل هلالاً، والأحمر يلطخ سروالها.
ليالي خميس عديدة قضتها تكلم نفسها على وسادتها، دم الخصوبة يكاد أن يغادرها إلى الأبد، فهل تتدارك الوقت، وتنجب ذلك الطفل الرجل الذي لا يشبهها كما لا يشبه أحداً ؟ يكون سليماً معافى، تتركه ليكبر.
نزلت إلى حديقة قبو القبو. وضعت الحمامة في العش، وجلست أياماً طويلة ترقب مكوث الأم على البيضة، من دون أن تمل أوتتعب. تريد أن تشهد تفقيس البيضة، وخروج طائر الحمام، صغيراً، ضعيفاً، مبللاً يرتجف بين يديها، سوف ترتجف معه، وتستمد من ضعفه جبروتها الضائعة وتعطيه خلاصتها، سوف تفرح به. ارتجفت أمام كلمة الفرح.
“كم أنا حالمة.. الفرح؟” لم تنتبه أن دموعها اختلطت مع صمغ جذع الشجرة.
“دبقة دموع الشجر.. فليلتصق وجهي بالجنّي الذي مازال ساكناً ينتظر خوفي منه،كي يشق جدار بيته، ويخرج ساخراً”.
شجرة النخيل في حديقة قبو القبو تحمل العناقيد المكتنزة في بداية كل موسم، وفي نهايته تنحني باستسلام لتسقط حملها، وقد كانت تستخدم لنشر جوارب ذكور البيت الكبير، وعصر كل خميس يأتي أولاد الحارة كي يقتطعوا من أغصانها، يغرزونها في قبور الموتى، أويزينون بها توابيت الموتى الجدد، إلى أن صاح أحد المزارعين يوماً:
ـ إنها تحتاج إلى تأبير.
“كأن العنقود المذكر في متناول يدي!”
أرّقتها فتوى المزارع. قضت ليالي طويلة تفرش تحت النخلة متوسدة مخدة تنام تحتها الجذور ثخينة راسخة. كانت تخال أن جذور النخلة مثل عروق رأسها العنيد.
جربت أن تسافر إلى المناطق الأخرى، علّها تجد عنقوداً مذكراً غريباً يتناسب مع نخلتها ذلك لأن هواء الحارة الذي يحمل غبار التأبير لم ينجح في تلقيحها.
وصلت إلى منطقة مليئة بأشجار النخيل. تتمايل مع نسمات الهواء بخفر وطمأنينة، تتلامس سعفاتها من دون أن تنكمش، خضراء لامعة. منها المذكر الذي يقبل عنقود الأنثى الذي يختاره له صاحب المزرعة بلا تذمر، ومنها الأنثى التي تقبل ذكرها بلا احتجاج.
نظر صاحب النخيل إليها وهي تتأمل مزرعته بانبهار. سألها عن غرضها. كانت مرتبكة من طلبها. أحضر لها كرسياً وجلس على الأرض قبالتها.
تخلت عن خجلها قائلة من دون تردد:
ـ لدي شجرة نخيل في حديقة قبو القبو، وحيدة، في نهاية كل موسم تسقط عناقيدها..
صمتت ناظرة إلى أشجاره المدللة، مشفقة على نخلتها الوحيدة المنتظرة.
قام بصمت واتجه إلى شجرة بعيدة. اقتطع عنقوداً كبيراً وضعه برفق على جريد في حضنه. جلس يشرح لها طريقة تثبيته على غصن نخلتها البعيدة الآن. ناولها إياه بعناية وودعها.

“وإذا أصابت النجاسة ذيل ثوب المرأة تطهرِّه الأرض”
أخذت طاسة من الماء وصبتها على الكتف اليمنى، ثم طاسة أخرى على الكتف اليسرى. دلكت جسدها بقطنة ممسّكة، ارتدت قميصاً رقيقاً، هبطت الدرج واستلقت على الأرض. رفعت يدها، فانحنى غصن النخل من تلقاء نفسه حتى قارب يدها، الآن يمكنها أن تقرب العنقود المذكر من النخلة المنتظرة.
اشتهت في أحلامها رجلاً يضع حبات الفستق بين أصابعها ويلتقطها حبة حبة وهو يقول: لإبهام قدمك طعم ملوحة، فأنت بحر إذن.. واشتهت أن يقرأ شعيرات يدها كأنها سطور حروفها مبعثرة، وأن يغني لها أغنية عن العشق. فتقول: أحب سطور الرجال. فيجيبها: بل تحبين صدور الرجال، عندها يحيط البيت سحاب أسود ثقيل ينشق عنه طيف يحمل غصناً منيراً.
“من اللا وجود إلى الوجود تحل الروح في الجسد الصغير وتبقى لا يأتيها فساد ولا يعتريها فناء”
لكنّ لنومها سلطاناً.
وكما يرى النائم كثر لحمها ودرَّ لبنها، أصابها الدوار، والفزع. كل ساعة تنزل إلى حديقة قبو القبو، تشهد عملية التفقيس التي توشك أن تتم.
أغفت ساعة واحدة أو أقل. ربما كان القمر ضعيفاً أو أن غيمة حجبته، لكن الوقت كان كافياً كي تدخل كف كبيرة وغريبة، وتهرس البيضة في عشها الدافئ.
ندمت لأنها نامت، وندمت لأن العمر يغادرها بسرعة.
ظلّت تتقيأ أطراف الحمام، أمعاء الحمام وريش الحمام، كل صباح وكل عصر.
حلّت الروح في الرحم الدافئ، لكن أزهار وسادتها تحولت إلى لطخات من الإقياء.لم يعد بإمكانها أن تنام تحت النخلة التي تتأمل حملها، والأشياء من حولها تدور بتثاقل وتباطؤ. أحست أنها تريد أن تطرد  السبحة المعلقة، والخنجر المزخرف، والسوط الملون، وكل أشياء الذكور.
قالت للصيدلي:
ـ أريد دواءً للغثيان.
فسألها:
ـ هل أنت حامل؟.

كرهتْ النخيل والأحلام وطائر الحمام واللون الأصفر.
“ليتلطخ سروالي وغطائي بالدم صباح الجمعة، وليرحل القمر هلالاً، أو لتملأ الغيوم السماء، وتحجب القمر و الشمس، ولتختلط الفصول وليحصل زلزال أيضاً”.
” من الوجود إلى اللا وجود تبددت الروح  وفسدت”.
في تلك الليلة، بعد أن انتهى كابوسها، راقبت جارتها ترضع صغيرها، وتتشابك ثنيات ثوبها عند الخصر مع أصابع زوجها. أطلت إلى حديقة قبو القبو فوجدتها مملوءة بفضلات طائر الحمام تحت النخلة الوحيدة، التي سوف تسقط حملها بطبيعة الحال.

“سأتغلب على الجربوع، وأعلمه درساً لن ينساه”.
رد صوت:
“أنا موجود في أحشائكِ المتضخمة. أستطيع سماعك ومراقبة أحلامك وكوابيسك، أستطيع أن أصوغ لك الكوابيس..”.
فكرت أن تمسح على رأس الجربوع في رغبة أزلية بأن تعيد تركيب طباعه، مؤمّلة أن يكون معدن الجربوع طيناً.

انصرفت إلى نفسها، وإلى حديقتها تجرب زراعة الزهور المختلفة، ومكافحة الآفات التي باتت تجتاح نخلتها. فعندما أصاب النخلة “حلم الغبار” في الأول من أيار فوجئت، لم تعتد أن ترى لهذا الشهر أية أهمية. قضت النهار في تعفير سطح الثمار بمسحوق الكبريت، وحين حل الليل، راحت تراقب الخفافيش التي تلجأ إلى نخلتها تعلق أرجلها بها و تدلي رأسها إلى الأسفل ثم تلتهم الثمار.
قليلاً ما كانت تنجح في جني ما تتوقع أنه يعادل تعبها. معظم جهدها يهدر في قطع الأغصان اليابسة، وقلب التربة وزراعة الأصناف الجديدة، وتسمية كل شجرة باسم أحد المفقودين، وكل غصن باسم أحد أبناء أخوتها أوأبناء أولاد أعمامها اليتامى، وكل حوض باسم مرحلة من مراحل تاريخ الحارة، ومراحل تاريخ حياتها.

تزنّ الحشرات السوداء في أذنها والإقياء الأصفر يغطي صباح يومها ومساءه. لوحات الغرفة المغبرة تنظر إليها بحياد، كذلك أشياء الرجال، سبحاتهم، وخناجرهم الميتة.. وهذه الزاوية، التي أودعتها هوياتهم، مازالت نائية منسية تنتظر من يوقظها.
يخترق المرض فطمة حتى العظم، والحشرات السوداء التي تهجس بها، تنهش رقبتها وأذنيها، بفجاجة ومن دون حاجة لخداع أومراوغة.
رن الهاتف. فكرت:
“ستسألني أختي إن كنت محتاجة شيئاً ما”
ـ فطمة..
صوت حزين وشاكٍ، ترى هل ستلتقيه في الآخرة، كما يقولون؟ مات على درجات لقاءاتهما، بينما هي تموت من سرطان نادر تكاد تكون حاملته الوحيدة:
ـ من المتكلم؟.
ـ أنا، من أعد شاهدات قبور الأحياء.
ـ كيف صحتك؟.
ـ أنا قلق عليك.. هل تتحملين الألم؟.
ـ مايهمني هو مدى نشاطك في حفر اسمي على الشاهدة. أريد أن تضعها في الهواء والشمس إلى أن تصبح سمراء فلا تبدو الأحدث بين شاهدات القبور.
ـ فطمة، لك ما تريدين لكنني لن أتصل بعد الآن أبداً.

فركها الطبيب من أذنها..
فتحت جفنيها ببطء. كان أول ما شاهدت، حزام الطبيب. قال:
ـ نحن جميعاً نقدر رغبتك بالوحدة، ولكن كيف تتحملين آلامك؟.. أنت تحتاجين من يناولك الدواء، ويطعمك، ويسقيك و..
أشاحت بوجهها تراقب النافذة التي فُتحت واصطف عليها الحمام بازدحام منع عنها الهواء. كان هديله يعلو أكثر.
نهضت من سريرها متباطئة مصغية للأصوات المحيطة بها. “قرفصت” تلبس فردتي حذائها اللتين تباعدتا كل باتجاه معاكس للأخرى، فأدركت أن الجربوع مازال يسرح في طوابق البيت الكبير.

نامت أياماً عدة، أو كانت غائبة في مرضها وكوابيسها حين استيقظت على أصوات أخوتها وأقاربها ملتفين حول سريرها. شاهدت رقة وحناناً غريبين في وجه عبد الحكيم، وقلقاً في عيون جميل، أما لميس فقد كانت الدموع تبلل خديها، وليلى تربت على كتفها وهي تبكي أيضاً. رأت وجهاً جديداً: لا بد أنها الممرضة. فتحت عينيها من غيابها ورأتهم: ماذا هناك؟ منذ متى وأنا نائمة؟ ثم وجهت حديثها إلى الممرضة: ولمن هذه الحقنة؟
لم تنتظر أجوبتهم،كانت عيونهم القلقة تجيب. قال أخوها أحمد:
ـ اصبري.. إن الله مع الصابرين.
ردد عمها جميل:
ـ فطمة تحتاج جارتنا سميرة كي تعيش معها وتأخذ بالها منها.
قاطعه عبد الحكيم:
ـ يأخذها أحدنا إلى بيته، هناك تعتني بها نسواننا.
كان الحاج عمر يصرخ من داره:
ـ لن تبعثي يا فطمة.. خسارة يا فطمة.
فيما كان الأستاذ عاصم محتضناً ابنه. وصوت إزميل فارس وهو ينقر حجر الشاهدة يترجّع في رأسها.
رن الهاتف.. تذكرت بمشقة:
ـ الجنينة..
فجأة، دفعت غطاءها عنها، وتركت من جاء لعيادتها. وسط دهشة الجميع، بقوة غامضة، أبعدت كل ما يعيق طريقها، أزاحت الستائر، فتحت الأبواب والنوافذ. لهثت وهي تهرول، تعثرت، قامت لتعاود الركض نازلة الدرج حافية. أمسكت بالحائط والدرابزين وبكل مايعنيها ويؤرقها:
“عند العتبة لميا، عند الدرجة الأولى عمر، عند الثانية عاصم، الثالثة رفيق الدرج، الرابعة فارس، السادسة لميس والسابعة كلهم.. وأووف من عيشتي”.
تعثرت. قطعت أرض الدار إلى درج القبو الأول، الأولى لميس، الثانية الجدة، الرابعة أم الحب والخامسة..
كانت تسحب يديها على الجدارين، وتسقط قدميها على الدرجات جاهدة كيلا تهوي برأسها الذي يسبقها. كم لعبوا على هذه الدرجات، صباح الصيف وعصر الربيع وهم ينتظرون العجة والبطاطا، ما الذي حدث؟ لقد نسيتْ، نسيتْ كل شيء. لا تعرف شيئاً سوى الاستعجال في الخلاص، كي ينتهي همّ البيت، والضفة، والحارة. قطعت الأدراج بسرعة، كانت شجرة الليمون تقلقها طوال الليل فقد امتدت جرائد النخل واشتبكت مع أغصانها حتى جعلت ثمارها منهكة وأوراقها ممزقة.
بطاقة، أدهشت الجميع، ثبتت سلماً حديدياً ثقيلاً وصعدته.
تلفتت يمينا وشمالاً، جالت بعينين غاضبتين، دالية العنب.ثم راحت بهيستيريا تسحب الأغصان وتعيد ترتيبها، ترميها على بعضها ثم تباعدها، تصففها، عبثاُ، إذ ما تلبث أن ترجع إلى وضعها الخطأ.
لم يروا فطمة يوماً غاضبة إلى هذا الحد.
تناولت عصا ضخمة كانت مرمية على تراب الحديقة وأخذت تضرب كل مزروعاتها، ثم تنتقل بينها وتصرخ. كانوا يرمقونها في قبوها وهم في شرفتهم حابسون أنفاسهم، إلى أن رأوها تتهاوى عند نخلتها.
ـ وقعت فطمة.
تزاحموا على الدرجات هابطين. أمسكوا بها وسحبوها صاعدين الدرج. كانت أقدامها تتلامس مع الدرجات في استجداء وتجريح. وهي من اعتادت أن تقطع هذا الدرج يومياً عشرات المرات.
طرق صوت لميس في رأسها منتحبة برقة، فيما كانت تبكي عجزها.
انتهت من مهمتها، أو أنهوا مهمتها. أعادوها إلى السرير وهي تلهث محاولة تذكر أي شيء دون فائدة. مدّت، باستسلام، ذراعاً حمراء دامية لحقنة الممرضة، وقد لطخت ساقيها ووجهها وكفيها خدوش عميقة. انتحبت لميس:
ـ أهذا ما كافأتها الحديقة به؟.
لم تهدأ حتى وعدتها بنت خالتها أنها سوف تطلب من زوجها المهندس الزراعي أن يعتني بحديقتها.
بعد أن اطمأنت إلى وعد بنت خالتها طلبت من الجميع أن يغادروها، قالت بلطف وهي تلهث:
ـ أشكركم جميعاً لكني أريد أن أنام.
اعترضت أختها قائلة:
ـ لن نتركك وحدك، قضيت عمرك وحدك، لكن وأنت في هذه الحالة لن نوافق..
قاطعتها برجاء:
ـ سوف أتصل بك عندما أصحو وأحتاجك.
سمعت صوت الباب الخارجي الكبير يغلق، فتحاملت على نفسها، وقامت إلى صندوقها الخشبي المغطى بالسجاد السميك، رفعت غطاءه ففاحت رائحة الغار.
أغلقته كما كان واتجهت إلى فراشها متعبة لاهثة:
ـ لابد من إيجاد وسيلة تحفظ هذا الصندوق.

تضخمت البكتريا حولها وتحولت إلى حشرات سوداء تطير وتحطّ على غطاء سريرها، رغم كل محاولاتها كي تغمض عينيها وتصم أذنيها، كانت هذه الكائنات قادرة على وقف هــروبها.
تهاجمها النوبة اللعينة وكل شيء يتمرغ بإقيائها اللزج. فكرت في أن تطلب من بنت أختها أن تحفظ الصندوق لديها، لكن البنت صغيرة على هذه الأمانة.
نظرت حولها. كانت الكآبة تلف كل شيء: المصباح، الجدران، السقف المزخرف، الأرض الملونة والأثاث. رأت أنها تشبه تلك العلبة الكرتونية المهملة المتوضعة على ظهر الخزانة وتوشك على السقوط، فارغة إلا من بضع كتابات عشوائية لا تعبّر عمّا بداخلها، وبضع أسهم تأخذ كل الاتجاهات الممكنة إلا اتجاهها الصحيح. كانت العلبة تشبه كل أغراض البيت المتروكة، على أمل أن تحتاجها يوماً، ولم يحتجها أحد غيرها. أما رفيق الدرج فقد كانت ذكراه مثل ذلك المصباح الذي عجزت عن التحكم به، فهو إما معتم موحش، أو مبهر متعب لعينيها وقلبها وجسدها المتعطش.

طرق الباب..
نظرت فطمة إلى قدومه متلهفة، ربما جاء من سيعتني بالحديقة. وسارعت قائلة برجاء:
“إن الطيور تهاجم حديقتي، يجب مكافحتها، وهي توسخ لي كل شيء. العصفور يمص حبات العنب على الدالية، ولا يتركها إلا مزقاً مهترئة. والدودة عادت إلى أغصان الكرمة كي تكمل على أوراقها. تأكل الطيور نصف موسم الحنطة الذي سلقته ونشرته على السطح. أما النخلة فهي تكبر كأنها في آخر أيامها. كل سنة تحمل، ثم تسقط حملها..عليك بتثبيت أكياس نايلون بيضاء على شكل رؤوس بني آدم على قمم الأشجار، وفي الزوايا. ستبدو كحراس حقيقيين، عندها تبتعد الطيور طيلة النهار. مع أني أشك بذلك فهي لن تلبث ان ترجع معتادة وجود هؤلاء الحراس، إذ طالما استهانت بحراستي”.
تناولت حبة المسكّن. وتحاملت على نفسها، حتى وصلت إلى الشرفة. أطلّت على حديقتها كي تتأكد بنفسها من إنجاز ماكان عليهم إنجازه، فوجدت الطيور قد أوت كعادتها إلى أشجار الحديقة.
تأففت:
“تبدو الأكياس كرؤوس متطفّلة”.
تقيّأت وأغلقت باب غرفتها. قضت الليل مع الطيور وهي تخفق مبتعدة ثم تعود كأسْهمٍ سوداء.
“رأت الرجال يصطفون بعضهم إلى جانب بعض، عراة إلا من سراويل داخلية بيضاء مبللة، كأن زوجاتهم قد انتهين للتو من غسيلها. وقد ارتدوها دونما اعتراض. رؤوسهم تغوص في أكتافهم المتهدلة، شعورهم طويلة تغطي عيونهم ذات الجفون المرتخية. كانت صورة أبو شامة كرة ملونة مضاءة بدون نور يشع عنها، الأفق رمادي. جميع الرجال يحركون رؤوسهم التي لا رقاب لها حركة موحدة في وقت واحد. ينظرون نظرة وجلة إلى تلك الكرة، ثم ينكّسون رؤوسهم بسرعة. حطّ على الأرض أمام الرجال طائر صغير بجناحين عريضين، فرش ريشاته ناظراً إليهم بحذر، ثم عاود الطيران. لم يتحركوا ولم يكترثوا. رؤوسهم مدرّبة على النظر في اتجاه الكرة فقط.
تحول الطائر عند سريرها إلى طفلة رضيعة تلعب بأصابعها الطرية، وتبتسم ببراءة.
صوت مسنن يصرخ كأن عطلاً في محوره يعوقه عن الدوران ويصدر أصواتاً خشنة تجعل الأسنان تصطك. صف الرجال العاري إلا من سراويل مبللة لا يحرك ساكناً، فرؤوسهم المغطاة بالشعر ثابتة، وأيديهم مسبلة على الجانبين، براحة أبدية”.

شاخت وتجعدت بشرتها، وتمكن الورم الخبيث من عنقها العالي، لحق بعروقها، رافق دمها، تكاثر بشكل مفزع.
دُفع باب غرفتها بهدوء:
ـ كأنك فارس..
دخل وهو يسحب رجليه بصعوبة. جلس بجانب سريرها وقال:
ـ اليوم تضعين رأسك وحيداً على وسادتك، لا تنتظرين خداً يلامس شعرك، ولا كفاً تضم أصابعك. تدفنين وجهك تحت غطائك، فينتفض عِرق بدءاً من قدمك عابراً قامتك المتعبة. تظل الدموع عالقة على أجفانك..
ـ في كل زاوية لطخة من إقيائي. لو سلطوا مكبرة مجهر على أرضي، أو هواء غرفتي لشاهدوا حياة كاملة للبكتريا، بكتريا إقيائي الأصفر المستمر، إقياء لا ينتهي. في كل دوار وألم وإقياء أظن أن الخبث خرج من جسدي إلى الأبد. أغيب ساعة، لتعاودني نوبة الدوار والغثيان، ثم الإقياء. أستيقظ في الخامسة صباحاً فأرى أن لا فائدة من وجودي وأن النوبة الملعونة ستهاجمني خلال دقائق، فأعجز عن أن أتحرك من سريري، لأعد قـهوتي وأبدأ يوماً جديداً، بإرادة أقوى.. كما لا أستطيع العودة لسكينة النوم وراحته.
ضغط بيده على كفها المرتجفة:
ـ استسلمي فطمة.
لثم كفها المغطاة بالشرشف ثم أجهش بالبكاء.

رن الهاتف بجانبها، فكرت بمن يمكن أن يتذكرها. هاهو الخبث في رقبتها ينتشر بصورة غريبة حسب شهادة الطبيب. رفعت السماعة وقالت لمن على الهاتف:
ـ ألم يمتد عبر رقبتي يحيط بصدري وظهري.
أغلقت الهاتف ولم تنتظر إجابة ممن اتصل بها.
يخترق الورم اللعين جسدها ليشمل العالم كله. تأملت في أنحاء الغرفة علها تجد فنجان قهوة شربه زائر، ثم غادر، أوزهرة ملونة في كأس، أو منديلاً أبيض يلم بضع ياسمينات.
رن الهاتف مرة أخرى. ستسألها أختها ليلى إن كانت بحاجة لشيء ما. كانت تريد دائماً أن تسألهم إن كانوا يلاحظون هذه البكتريا التي تحولت إلى حشرات سوداء تغطي كل شيء.

شحب وجهها، أصبح لونها أزرق يابساً، كما شفتاها. كانت الجدة تقول لها: وجهك مثل فيء الشجر..
طرأت كل التغيرات دفعة واحدة. انتفخ بطنها انتفاخاً ناتئاً عن هزال جسدها، وانتشر الورم عبر دمها إلى الكبد والعظام.
همس الطبيب:
ـ إنها تمر بمرحلة الدنف السرطاني.
قالت بوهن:
ـ تظنون أن الموت هو المصاب الأكبر؟ أنتم واهمون.
ـ حالتك نادرة جداً، قال الطبيب ببطء ثم التفت إلى أقاربها: أقدر أنها غير كل المرضى الذين قابلت.. لكن عليها أن تخفف من عنادها وتبقي أحداً ما بجانبها..
قام بعيادته المعهودة لها مستخدماً أجهزته المعدنية الباردة والمعقمة.. شرح حالة الورم بلهجة طبية حاسمة وبصوت منخفض كأنه يشرح حالة التهاب حنجرة عادي.
إنها تريد أكثر، دائماً تريد أكثر، أكثر من هذا الحياد وأكثر من هذه العادية وغير هذا التعاطف المألوف.
لم تعد قادرة على الصمت بعد الآن. تريد أن تلحق بضعة أيام من هذا العمر وتقول ما لديها، حتى لو انصبت ثورتها المفاجئة على طبيبها أوأقاربها أوجيرانها.
ـ  هكذا ينفجر صمام الصبر في أكثر الأوقات حرجاً وضعفاً. كنت تريدين فعل هذا منذ زمن بعيد لكنك آثرت الصمت والسكوت.. فات الأوان. قال فارس من بعيد.
سمعت أصواتاً هامسة تحاول ألا توقظها. فجأة غدا الهمس لغطاً. كانت أكواع أيديهم تعلو عنقها. شعرت بألم حاد:
“ماذا لو تكالبت أكواعهم الحادة على عنقي؟”.

“جلس الجمهور كل في كرسيه المعد له مسبقاً والمهيأ بكتابة اسمه على مسنده. جاء حاملاً بطاقة دعوته مرسوماً عليها خريطة تدله على مقعده، وبنود مكتوب فيها تعليمات ترشده لسلوكه المفروض عليه. مع كل هذا التوضيح، تاه كثير من الأميين المدعوين، احتاجوا معونة من الحراس الذين حملوا بطاريات تنير المكان المطفأة أنواره، المكتوم صوته. كانت صورهم تتوضح كل عشر دقائق في غيبوبتها أوصحوها، رأت كثيراً من وجوه الحاضرين جامدة من دون تعبير. يصفقون معاً، ويشيرون معاً، في مكان يشبه المسرح: جدرانه، وسقفه، وأرضه مغلفة بسجاد سميك.
سحب الستار، أطلّ أبوشامة جالساً على مقعد وثير، يسلّم على الحضور برجله.
خرج أبوشامة بعد ساعات، وحيّى الحضور لوقت غير قصير ثم سمح لهم بتقديم قوائم التماساتهم. كانت أوراقهم نسخاً مطبوعة مسبقاً يرجونه فيها أن يقلع عن العزوبية التي طالت، ويتزوج كي يشهدوا ذريته. قرأ السيد التماساتهم واحداً واحداً بتأن رغم تشابهها، ثم استغرق في تفكير طويل.
حبس الحاضرون أنفاسهم منتظرين بصبر لا نظير له أن يوافق على التماساتهم .
أسدل الستار ثالثة لمدة ساعة خرج بعدها أبو شامة، وأعلن شكره لثقة الشعب، وتقديره لرغبتهم في تزويجه، لكنه أسف لأنه لا يستطيع تحقيق هذه الرغبة، فهولا يثق بوجود امرأة تستحق أن تشاركه صبغياتها في تشكيل ابن له، لذلك لا بد أن يجد طريقة أخرى. كما أن تالولته الجديدة التي نتأت في رقبته تحت أذنه  يعتني بها جيداً ويكبّرها، وربما يطلق عليها اسمه “أبوشامة”. نمت شعيرات حولها ومنها، فهو يداعبها كل الوقت، مغمضاً عينيه نصف إغماضة. بات الجميع يبارك وجودها، ويتحدثون عنها أحياناً بالرهبة نفسها التي يتحدثون فيها عن أبو شامة”.
ـ ماذا هناك؟.
ـ لا شيء، نامي.
أغمضت عينيها.
ـ يجب نقلها إلى المشفى، ردد صوت.
ـ لا يوجد فائدة، قال الطبيب.
بهدوء تدخلت:
ـ لا أحتاج مشفى، أريد أن أموت في البيت الكبير، ثم بعد تنهيدة وإغماضة، قالت:
ـ ما الذي ستفعلونه بالبيت بعد موتي؟.
في الأيام الأخيرة باتت لميا تقلّص مشوارها الأبدي على الجسر بين الضفتين، وتخفف من ركضها وبصاقها، فقد جف ريقها وانكمشت عند مصطبة بيت فطمة منهكة من أعوام الركض التي قضتها قاطعة الجسر الصغير بين الضفة الأولى وبناء الخلية الذكية.
أما النهر فقد اعتاد لوحة إعلان الخلية الذكية، وبات يعكس صورتها أكثر من مئذنة أبو رحمون.
“مشت في رتل واحد مع المئذنة القديمة وهلال قبة الجامع، ترافقها النخلة العتيقة والمتفرعة جذورها في ماء النهر. كان مسنن كابوسها يدور بسرعة هائلة ولميس تركض حاملة حقيبتها الملأى بأقراص ” الكمبيوتر”، تلحقها الجدة بجلبابها منحنية تضرب الأرض بكرسيها الواطئ حاملة على ظهرها المطوي كتب أحفادها ودفاتر حسابات أبنائها، تلحقها كراسي الخيزران، وسبحات الرجال، وخناجرهم، وبيجامات الشباب الذين غابوا، ولم يعودوا. البيجامات رقيقة، والبرد شديد، والوحشة هائلة.
أمامها ثلاثة دروب.. في الدرب الأول رقدت تالولة أبو شامة في قبرها مكتوب على شاهدتها: هنا ترقد التالولة التي سقطت على غفلة منه. في الدرب الثاني، رقد أبوشامة، مكتوب على شاهدة قبره: “الميت الحي”.. في الدرب الثالث، شاهدت “أبوسليم” وبقية الناس، جميل النسونجي وعبد الحكيم كشاش الحمام، والمختار حاملاً دفاتره المدونة فيها أسماء من غابوا على أنهم ماتوا. كلهم جالسون على كراسي واطئة أمام أبواب بيوتهم لابسين جلابيتهم وأخفافهم المنزلية، مترقبين نهاية حلم فطمة، متوقعين في أية لحظة حدثاً يجعلهم يحملون كراسيهم، ويدخلون بيوتهم فارين ناجين.
تابعت سيرها إلى أن وصلت إلى مرج أخضر ندي.. خلعت حذاءها وجلست عليه لترتاح تحت شمس ضحى ربيعية. كانت تشعر أنها طالبة في المدرسة الابتدائية، تملّصت من دروسها الصباحية الثقيلة، وظفرت بسكون أخضر هادئ غير معتاد، لكن حفّارة مزوّدة بأظافر بشرية هاجمت المكان وراحت تنزع وتمزق حشائش المرج الرطبة.
أخذت فطمة تبكي وتولول، إلى أن بان كل شيء:
حفرة هائلة تنطلق منها رائحة شجر الكينا الذي كان يظلل الضفة الثانية، ثم جماجم متناثرة على هياكل كانت بشرية، عرفتها فطمة من الأيدي التي كانت تلبس ساعات أصلية ما زالت تعمل بعد هذه الأعوام رغم توقف نبض اليد”.
لم تحاول مرة معرفة سبب استخدام الجرافات. فإذا كانت تستخدم لنقل البقايا كما تعلم ، فلماذا نقلت بقايا أجساد وثياب رقيقة؟ نعم.. الجرافات نقلت بقايا أجساد وثياب رقيقة، لكن الأرواح بقيت: كل روح بألف روح؟.
وضعت إصبعها على عنقها، هنا مكان الغصات ومكان ابتلاع الدموع.
شدت بأصابعها على عنقها، إنها تختنق. انتحبت لميس:
ـ إنها تتألم بشدة.
أطلقت فطمة صرخة واهنة:
ـ الزيت جاهز للقلي.. ما الذي يجعل صوت المدفأة هادراً؟.

اختلطت الألوان في رأسها.. وجدت أن بركة الزيت المغلي عميقة، وأنها عادت بنت الثالثة عشرة، تركض برشاقة إلى البحرة الزرقاء،كي تلحق صلاة المغرب.
ارتفع صوت الأذان.
همست:
ـ ما هوالوقت الآن؟.
جاءها صوت لميس:
ـ صلاة العصر يا خالتي.
مدّت لها كفها:
ـ افرحي بحياتك يا حبيبتي.
أجهشت لميس.
أغمضت فطمة عينيها ونامت مرة أخرى.
رأت دموعها تختلط بدمائها وبنهر الجدة الذي تحدثت عن هديره يوماً. غطى الماء وجهها، هبطت إلى القاع، كان آخر ما شاهدت سماء حارتها تتعرج مع تموجات المياه، رأت الدود يأكل أصابعها، ورأت تمثالاً شامخاً ينبئها أن عظمها لن يتفتت، وأن عروقها عروق خشبية جافة. سوف تصادق التراب، وتصادق ظلاماً بلون بني خشن.
لوّحت بيدها غير مصدقة. وزفرت حياتها.
شهقت لميس مستجدية:
ـ هل..؟

طلعت شمس اليوم التالي، وقمر الليلة التالية. أذّن أبو رحمون كما كان يفعل. تراجع ماء النهر أو لم يتراجع. أسدلت ستائر شبابيك البيوت وبعضها أزيح. ذهب الطلاب إلى مدارسهم والناس إلى أعمالهم.
لكن شجر حديقة قبو القبو لم يورق بعد وياسمينة الدرج لم تزهر بعد والنباتات المتطفلة على أحجار الشرفة تكاثفت وأطلقت جذورها وهددت تماسك واجهة البيت.. غير أن لميس المراقبة لما أنجزت خالتها كبرت بسرعة وهي تعبر كل صباح بقامتها المشدودة الجسر القاصل بين الضفتين تتابع  مايجري حولها، وفي عينينها الواسعتين تتلامح كل وقت فطمة التي تستلقي بجانب قلعة المدينة، كما ينبغي لنهر..

منهل السراج
مجموعة قصصية بعنوان “تخطي الجسر” 1997. فازت قصصها بأكثر من جائزة.
ورواية بعنوان “كما ينبغي لنهر” فازت بالمركز الثالث عن دائرة الثقافة بالشارقة لعام 2002 كانت منعت من النشر في سوريا عام 2000.
رواية بعنوان “جورة حوا” صدرت عن دار المدى عام 2005.
رواية بعنوان “على صدري” صدرت عن دار قدمس دمشق 2007.
مقالات عديدة في الصحف والمواقع العربية

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتبة منهل السراج
للكتابة الى الكاتبة مباشرة
Sarraj15@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى