طاعة القوة.. مقتطف من “العبوديّة المختارة”
أتيين دي لابويسيه (E. de La Boétie(1530-1563
فأما الآن فلست أبتغي شيئاً إلا أن أفهم كيف أمكن هذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم أن يحتملوا أحياناً طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته. إنه لأمر جلل حقاً وإن انتشر انتشاراً أدعى إلى الألم منه إلى العجب أن نرى الملايين من البشر يخدمون في بؤس، وقد غُلّت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر بل هم (فيما يبدو) قد سحرهم وأخذ بألبابهم مجرد الاسم الذي ينفرد به البعض، كان أولى بهم ألا يخشوا جبروته، فليس معه غيره، ولا أن يعشقوا صفاته فما يرون منه إلا خلوه من الإنسانية ووحشيته.
إن ضعفنا نحن البشر كثيراً ما يفرض علينا طاعة القوة ونحن محتاجون إلى وضع الرجاء في الارجاء ما دمنا لا نملك دائماً أن نكون الأقوى. فلو أن أمة أجبرت بقوة الحرب على أن تخدم واحداً (مثل أثينا الطغاة الثلاثين) لما وجب الدهش لخادِمِيّتِها بل الرثاء لنازلتها، أو بالأحرى ما وجب الدهش ولا الرثاء بل الصبر على المكروه والتأهب لمستقبل أفضل.
إن من شأن طبيعتنا أن تستغرق واجبات الصداقة المشتركة بيننا قسطاً لا بأس به من مجرى حياتنا. فمن العقل محبة الفضيلة وتقدير الأعمال الجليلة وعرفان الفضل من حيث تلقيناه، والاستغناء أحياناً عن بعض ما فيه راحتنا لنزيد به شرفاً وامتيازاً من نحب ومن استحق هذا الحب. فلو أن بلداً رأى سكانه كبيراً منهم يبدي بالبرهان فطنة كبيرة في نصحهم وجرأة شديدة في الدفاع عنهم، وتروياً جماً في حكمهم فانتقلوا من ذلك إلى طاعته وإسلام قيادهم له، إلى حد إعطائه ميزات دونهم فما أدري أهي حكمة أن ينقلوه من حيث كان يسدي الخير إليهم إلى حيث يصبح الشر في مقدوره.
إنّ التخلي عن خشية الشر ممّن لم نلق منه إلا الخير لحكمة لو كان محالاً ألا يخالط طيبته نقص.
ولكن ما هذا يا ربي؟ كيف نسمي ذلك؟ أي تعس هذا؟ أي رذيلة، أو بالأصدق أي رذيلة تعسة؟ أن نرى عدداً لا حصر له من الناس لا أقول يطيعون بل يخدمون ولا أقول يُحكمون بل يُستبد بهم، لا ملْك لهم ولا أهل ولا نساء ولا أطفال بل حياتهم نفسها ليست لهم ! أن نراهم يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة لا من جيش ولا من عسكر أجنبي ينبغي عليهم الذود عن حياضهم ضده، بل من واحد لا هو بهرقل ولا شمشون بل خنث، هو في معظم الأحيان أجبن من في الأمة وأكثرهم تأنثاً، لا ألفة له بغبار المعارك وإنما بالرمل المنثور على الحلبات (إن وطأها) ولا يحظى بقوة يأمر بها الناس!
أنسمي ذلك جبناً؟ أنقول أن خدامه حثالة من الجبناء؟
لو أن رجلين، لو أن ثلاثة أو أربعة لم يدافعوا عن أنفسهم ضد واحد لبدا ذلك شيئاً غريباً، لكنه بعد ممكن، ولوسعنا القول عن حق إن الهمة تنقصهم. ولكن لو أن مائة، لو أن ألفاً احتملوا واحداً ألا نقول : إنهم لا يريدون صده ليس لأنهم لا يجرأون على الاستدارة له،لا عن جبن بل احتقاراً له في الأرجح واستهانة بشأنه؟ فأما أن نرى لا مائة ولا ألف رجل بل مائة بلد، ألف مدينة، مليون رجل، أن نراهم لا يقاتلون واحداً أقصى ما يناله من حسن معاملته أي منهم هو القنانة والرقّ فأنّى لنا باسم نسمي به ذلك؟ أهذا جبن؟ إن لكل رذيلة حدّاً تأبى طبيعتها تجاوزه. فلقد يخشى إثنان واحداً ولقد يخشاه عشرة. فأما ألف، فأما مليون، فأما ألف مدينة إن هي لم تنهض دفاعاً عن نفسها في وجه واحد فما هذا بجبن لأن الجبن لا يذهب إلى هذا المدى،كما أن الشجاعة لا تعني أن يتسلق امرؤ وحده حصناً أو أن يهاجم جيشاً أو يغزو مملكة.
فأي مسخ من مسوخ الرذيلة هذا الذي لا يستحق حتى اسم الجبن ولا يجد كلمة تكفي قبحه، والذي تنكر الطبيعة صنعه وتأبى اللغة تسميته؟
ترجمة مصطفى صفوان
موقع الآوان