صفحات مختارة

“حماس” في غزة: “طالبان” أم أردوجان؟

د.خالد الحروب
في طول وعرض العالم الإسلامي تتعثر مشاريع الحركات الإسلامية وتفشل في تقديم نماذج جديدة يمكن أن تتجاوز جوهرياً ما تقدمه الأحزاب والحكومات التي تعارضها. وفي ما عدا تجربة الإسلاميين الأتراك، وتجربة بعض الأحزاب الإندونيسية والماليزية غير الرئيسية، فإن بقية التجارب تكلست في القدرة على مواجهة واقع بعيد الصلة بالرؤية الأيديولوجية الطوباوية المُنادى بها في أدبيات تلك الحركات. ليست الحركات الإسلامية استثناء في هذا السياق، إذ إن ما تتعرض له وتواجهه سبق وتعرضت له وواجهته كل الحركات الأيديولوجية. فالتحدي الأزلي لكل فلسفة سياسية وفكرية ونظرية يتمثل في علاقتها بالواقع ونجاحها أو فشلها في تجسيد ما تقول به. وعلاقة الحركة الأيديولوجية بالواقع تظل محط دراسة وبحث وتأمل لا ينتهي، وهي إما أن تكون علاقة تصادم مباشر، أو علاقة تفاوض مستمر تفضي إلى إعادة تفسير وصياغة للمنطلقات الأيديولوجية نفسها بما يخدم التعامل مع الواقع نفسه. وفي غالب الحالات، لا تنجح الحركات الأيديولوجية في صياغة علاقة تفاوضية إيجابية مع الواقع؛ لأنها مهجوسة بتغييره جذرياً، وهذا يدفعها إلى التشدد والتطرف، وفي حالات السيطرة على القوة سرعان ما تنتهي إلى بناء أنظمة شمولية (شيوعية، بعثية، إسلامية، وهكذا).

في الأنظمة الشمولية المؤدلجة، يكون هم السلطة الحاكمة إنتاج أفراد، بحسب القالب الأيديولوجي، منسوخين عن بعضهم البعض وفق المسطرة المُعدة سابقاً. وتنتشر سياسات وأساليب القسر الجمعي المباشر أو غير المباشر من أجل “ضمان” انقياد وخضوع الكل إلى متطلبات أو إكراهات الأيديولوجيا. وفي معظم الحالات التوتاليتارية، تتراكم رغبة جارفة عند السلطات الحاكمة إزاء فرض التنميط والتوحيد على الأفراد في الزي والسلوك وطريقة التفكير. تتفاقم هذه الرغبة وتصل مستويات عليا من الفرض والقمع عندما لا تكون هناك إنجازات حقيقية يمكن أن تعتمد عليها السلطة، أو الحزب، أو الدولة. في غياب رأس المال السياسي المبني على نجاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، تعمل السلطة على التعويض عن ذلك عبر فرض نظم قسرية بالقانون. لذلك، فإن “الهندسة الاجتماعية” التي تقوم بها النظم الشمولية تعبر عن غياب النجاحات ولا يمكن اعتبارها نتيجة لنجاحات. وفي حال وجود نجاحات واضحة لأي نظام شمولي، فإنها تكون نجاحات مؤقتة سرعان ما تتهاوى إذا ما تزعزع النظام.

وهنا من المفيد التأمل في مقارنة التجربة الاجتماعية للإسلاميين الأتراك، مع تجربة الإسلاميين السودانيين، أو الفلسطينيين في غزة، والتي سنأتي على التفصيل فيها. في تركيا تراكم رأسمال سياسي ونجاحات للإسلاميين وفرت لهم الثقة بتجاوز مماحكات الهندسة الاجتماعية وفرض مسلكيات دينية على الشعب. في السودان وغزة، وإيران قبلهما، و”طالبان” بموازاتهما، هناك تنويعات من حصاد التجارب يدور معظمها في نطاق الفشل خاصة على صعيد النموذج الاجتماعي المطروح، وتحديداً لجهة فرض “الأسلمة” بالقانون -وآخر الشواهد السودانية محاكمة الصحفية “لبنى حسين” لارتدائها البنطلون.

فلسطينياً، يحدث في قطاع غزة استنساخ سيئ للتجارب الشمولية في الهندسة الاجتماعية، عن طريق الأسلمة الفوقية وباستخدام السياسات الحكومية، مباشرة أو بشكل غير مباشر. وعملياً وبعيداً عن الصراع السياسي بين “فتح” و”حماس” والاعتقالات المتبادلة، والانقسام الجغرافي والديموغرافي الذي يجر المشروع الوطني الفلسطيني إلى مجاهيل عدمية، فإن ما يحدث من “هندسة اجتماعية” قسرية في قطاع غزة هو تحول بالغ الخطورة على المستوى الاجتماعي والثقافي في القطاع تحديداً. الأمثلة خلال السنوات الثلاث المنقضية عديدة، لكنها في الأسابيع القليلة الماضية تفاقمت وازدادت بروزاً وتحدياً. أحدث الأمثلة قرار القضاء في غزة بفرض الحجاب على المحاميات، والحملة ضد مدارس وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين لأنها مختلطة (وهي كانت وما تزال كذلك منذ تأسست الوكالة سنة 1950). ويتحدث البعض أيضاً عن فرض الحجاب بشكل مباشر أو غير مباشر على طالبات المدارس الحكومية. وكانت هناك قبل عدة أسابيع حادثة مساءلة الصحفية أسماء الغول لكونها تواجدت مع مجموعة من زملائها وزميلاتها على البحر و”الضحك بصوت عالٍ”، وسؤالها عن “محرم” وسوى ذلك. كما نشرت وسائل الإعلام صوراً لأفراد من “شرطة الآداب” يتجولون على الشواطئ في القطاع على خيول ليراقبوا سلوكيات الناس ويمنعوا “الرذيلة”!

“الهندسة الاجتماعية الإسلاموية” في قطاع غزة مرفوضة من ناحية أخلاقية ووطنية وإنسانية ولا تعبر عن أي فهم ديموقراطي للاجتماع السياسي الحديث، وهي نكوص إلى ما قبل الدولة الحديثة وتوافقاتها. لا يحق لأية دولة أو نظام أو سلطة تدعي الانتساب إلى النظم الديموقراطية، أو التعددية، أو الانفتاح، وترحب بإجراء الانتخابات، أن تفرض على الشعب أية مسلكيات أخلاقية تتحكم في الحريات الفردية للناس. هناك أعراف وتقاليد تتم مراعاتها بشكل عفوي من قبل الجميع ولا تحتاج إلى تفلسف إضافي، وغالباً ما تأخذها الدساتير والقوانين بعين الاعتبار كي تحدد فضاء الحريات الفردية وحدودها، ضامنة عدم تعديها على حريات الآخرين. ولا يمكن هنا لأي مُجادل أن يزعم أن قطاع غزة يموج بالإباحية والتعدي على الحريات العامة مما يستدعي تدخلاً حكومياً للحد من ذلك. المجتمع الفلسطيني بعمومه مُحافظ وانفتاحه، خاصة في الوقت الحالي، نسبي وليس مُطلقاً، ومن الغريب أن تتزايد الدعوات سواء داخل “حماس” أو حولها لـ”محاربة الرذيلة” بما يوحي للسامع وكأننا نتحدث عن مدن “ليل حمراء” في أعتى الدول الغربية إباحية وانفتاحاً. والقول بأن حكومة “حماس” لا علاقة لها بما يحدث وأن “هيئات المجتمع المدني -المُقربة من “حماس” هي التي تُطالب وكالة الغوث بمنع الاختلاط، أو أن مجلس القضاء الأعلى هو، وليس الحكومة، من يطلب من المحاميات أن يلتزمن بالحجاب، قول مرفوض وأقل ما يُقال فيه إنه استسخاف بعقول الآخرين.

بعض قادة “حماس” يكررون أن تجربة الحركة تنسج على منوال أردوجان وليس “طالبان”، إعجاباً بالأولى، وابتعاداً عن الثانية. لكن هذه المقولة تفقد صدقيتها عند التأمل فيما يحدث عملياً على الأرض في القطاع. الأصوات المعتدلة في “حماس”، والتي قد تكون “أردوجانية” التوجه، ما تزال ضعيفة التأثير أمام التيار السلفي المتأثر بالوهابية وبالطالبانية من ناحية اجتماعية ويريد أن يطبق في قطاع غزة تفسيراً ونموذجاً للإسلام غريب عن الحالة الفلسطينية.

لا تنتهي سلسلة الأسئلة التي تطرحها توجهات “حماس” الاجتماعية نحو الأسلمة بالقوة والقانون في قطاع غزة. لكن من المفيد أن نختم بسؤالين تأمليين حول تأثير هذه التوجهات على صدقية كل برامج الحركات الإسلامية الاجتماعية من ناحية الالتزام الديموقراطي والأولويات. ففهم الديموقراطية يقوم على احترام وحماية الأقلية وليس فقط التعبير عن رغبة الغالبية. لهذا فالأقليات تكون محمية حقوقها في الديموقراطيات الراسخة. أما عند الإسلاميين، فما يزال هذا الفهم مقصوراً، وتُرى الديموقراطية على أنها تطبيق (وفرض) رغبة الغالبية على الأقلية حتى على المستوى الاجتماعي. أما من ناحية الأولويات، فإذا كانت كل الظروف الضاغطة على القطاع، من احتلال، وحصار، وفقر، وانقسام، إلى خيارات سياسية صعبة… لم تستطع أن تهمش مسألة “فرض الفضيلة” و”فرض الحجاب”، فإن هذا يدعونا للشك في أولويات أي حركة إسلامية أخرى لا تواجه ما تواجهه “حماس” من ظروف وضغوط. وتجعل من المشروع السؤال: هل الحركات الإسلامية تُختزل إلى مشروع لفرض المسلكيات الدينية، ومحاربة الحريات الفردية؟

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى