صفحات مختارةطيب تيزيني

أعولمةٌ دون أحادية قطبية؟

د. طيب تيزيني
مع ظهور النظام العالمي الجديد – العولمي منذ عِقدين وظهور \”مداخلها\” الدموية المباشرة، راحت مجموعات من الباحثين والمهتمين ومن ملايين الناس يتساءلون فيما إذا كانت ثمة احتمالات للاحتفاظ بالتقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي الجديد وما رافقه من ثورتي الاتصالات والمواصلات، دون وجود لقطبية كونية واحدة. فلقد اتضح أن هذه الأخيرة أخذت تُفصح عن نفسها بمثابتها الوجه الآخر لـ\”الهيمنة الكونية\” لدولة واحدة هي الولايات المتحدة. ولأول مرة، ظهرت حالة الهيمنة هذه على عواهنها من موقع دولة واحدة وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ومعه سقوط التعددية أو الثنائية القطبية. أما ظهورها \”على عواهنها\”، فقد عبر عن المآزق الدبلوماسية والسياسية والعسكرية، التي راحت تواجه النظام العالمي الجديد، ويواجهها في حالة من العنف الكوني المنظم، الذي ربما يفتقد مثيلاً له. ومن ثم، تمَّ نقض الاعتقاد الوهمي باحتمال وجود دولة ذات رؤية تملك إمكانية خلق نموذج حيّ لحكم عادل ومتوازن في العالم، وذلك بعد أن مرّت بثنائية القطبية، أثناء المرحلة الباردة، حربان اثنتان كبريان كلفتا العالم عشرات الملايين من القتلى ما اقترن بهما من خراب ودمار. فلقد كان البعض يرى أن وجود معسكرين متصارعين وحيدين في العالم سيُنتج حالة قلقة من اللاحرب واللاسلم. أما إيجاد عالم من اللاحرب، فإنه يستدعي وجود قرار استراتيجي واحد يكون في يد الدولة الرؤوم والراعية لمصالح البشرية.

كان ذلك قد تمثل في الخطاب العولمي، الذي انطلق من أن \”كثرة الطباخين تحرق الطبخة\”. إذاً، هذا هو العالم لكُمْ، وحِّدوا القرار الاستراتيجي، واصنعوا عالماً مضيئاً بالتوازن والسلم والعدل! كان هذا المطلب مضاداً لطبائع الأشياء. فالظلم والإرهاب والاضطراب… إلخ، وجدت من الأبواب المفتوحة ما كان مغلقاً. وراح رأي عام يتكون باتجاه إنهاء مبدأ أحادية القطبية، وعادت أفكار تطالب بإنهائها. وفي هذا السياق أو على نحو موازٍ له، برزت فكرة \”نظام عولمي بديل\”. وهنا ظهرت أسئلة جديدة تحتاج، حقاً، ورشات عمل في حقول متعددة من العلوم، يبرز منها علم الاقتصاد وعلم السياسة ونظرية الاستراتيجيات وغيرها. ووضح أحد تلك الأسئلة بإلحاح منهجي ونظري، وهو التالي: إذا اعتبرنا أن هيمنة القطبية الواحدة إنما هي الآن نمطٌ من هيمنة اقتصادية وسياثقافية وأيديولوجية وعسكرية على بلد معين أو على العالم، كما كانت الحال قبل حين على صعيد الولايات المتحدة والعالم، أفيعْني أنه إذا تزحزحت هذه القطبية الأحادية، سينشأ \”البديل\” ضمن بلدان توجد فيها علاقات اقتصادية- اجتماعية كتلك الموجودة في البلد الذي هيمن حتى حينه، أم أن هنالك احتمال انسحاب ذلك على بلدان العالم أجمع؟

بصيغة أخرى، يطرح السؤال المذكور نفسه، على النحو التالي: هل ما أخذ يبرز في المرحلة الأوبامية الجديدة من سقوط لصدقية الأحادية القطبية هناك، يمكن أن يكون البديل عنه ماثلاً في قطبية كونية شاملة تخرج عن حدود الدولتين أو الدول الثلاث الأعظم راهناً؟ قد نكون، عبر هذا المسار للفكرة التي نعالجها، قد بلغنا حدوداً جديدة لفكرة الهيمنة والقطبية، ربما يكون أحد هذه الحدود الجديدة قائماً على وضعية كونية جديدة وغير مسبوقة: إنها القائمة على مشاركة العالم برمته في تحديد مصائر الكون، بلدان الشمال والجنوب والشرق والغرب. وواضح أن الوصول إلى هذا الموقع من المسألة، يضعنا مباشرة أمام مجموعة من الاستحقاقات الدولية، التي أصبحت ضرورة ملحة في إصلاح النظام الدولي. ولعلنا نلجأ هنا إلى المقارنة بين مشروعين من النظام الدولي ظهرا في مرحلتين مختلفتين، أولهما ذاك الذي قدمته بلدان عدم الانحياز في الجزائر عام 1973، في حين ظهر ثانيهما في أعقاب حرب الخليج وسقوط الاتحاد السوفييتي، وكان الرئيس بوش الأب هو الذي قدمه.

وإذا كنا قد تعرّفنا إلى النظام الدولي الجديد في صيغته الفاقعة على يد البوشيْن والمحددة باستئثار العالم أميركياً في الخط الأول، فإن النظام الثاني من عام 1973 قام على مجموعة مبادئ حاسمة، وتأتي في مقدمتها حقوق كل بلد في ثرواته وكيفية توظيفها وفق احتياجاته اقتصاداً واجتماعاً وعلوماً وطاقات وغيرها.

تأسيس \”نظام دولي بديل\” يتطلب القيام بثلاث خطوات كبرى، تبرز أولاها في إنجاز جهد عالمي لإصلاح المنظمات الدولية بمقتضى النظام الجديد. أما ثانيتها، فتقوم على ربط بلدان العالم بما يحقق التوازن الدولي السلمي. وتبرز الخطوة الثالثة في إيجاد صيغة جديدة من صيغ إعادة ثروات العالم على نحو يعزز التعاون العميق فيما بين بلدانه، مع احترام الخصوصيات النسبية هنا وهناك. وهكذا، حسب \”أ. إيف جرينيه\” (الاقتصادي الفرنسي)، يمكن للشعوب أن تُعدّ لمستقبل جديد ليس هو ذاك الذي تُعد له الليبرالية الجديدة، المنتصرة المنهزمة، وإنما ذلك الذي يسوده التعاون بين الحضارات والثقافات والنظم العامة في سبيل عالم عادل للجميع، وموحَّد عالمياً، لكن ليس في السوق العولمية، وإنما في مستقبل هؤلاء جميعاً.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى