في ما خصّ أزمة الثقافة النقدية
ياسين الحاج صالح
لا تترك الاستقطابات السياسية الحادة في البيئة العربية مجالاً لممارسة نقدية مستقلة. يحل محلها الانضواء أو الرفض. نحن صح، هم خطأ، قضي الأمر. لا ننتقدهم بل نرفضهم. ولا ننتقدنا بل نلتصق بأنفسنا وجماعتنا، ما لا يترك مسافة لانبثاق النقد. ولما كان الشرط الاستقطابي يستغرق الجميع، فلن يبقى حيز مستقل لنقد الثقافة أو السياسة أو الدين أو الحداثة.
ظاهر الأمور يوحي أن ثقافتنا كلها نقد، أننا جميعا متشككون أكثر مما نحن دعاة. لكن هذا انطباع مضلل متولد عن غلبة السياسة في تفكيرنا. مواقف الخصام والرفض التام ليست نقداً، ولو لأنها تصدر من تسليم أول، غير نقدي، بأننا نحن صح. تتوافق هذه المواقف مع تغذية نزعة الامتثال ضمن جماعتنا بدرجة تتناسب مع الرفض المطلق لهم.
ولا تعني غلبة السياسة غلبة الاهتمام السياسي، أو فرط الانشغال بالسياسة وقضاياها، بل بالأحرى توسع منطق الخصومة والمنازعة والحساب السياسي خارج الميدان السياسي، بما في ذلك إلى الثقافة. أعني تحول المجالات غير السياسية إلى ميادين منازعة سياسية بين أطراف وكتل ومجموعات متخاصمة، تحرص على تعظيم فرصها ومضاءلة فرص خصومها. وبينما يبدو أن الانشغال السياسي العملي يجتذب اليوم أناساً أقل من أوقات سابقة، فإن المنطق السياسي بالعكس يكتسح حيزات الثقافة والنشاط الحقوقي والدين وكل اهتمام عام. هذا يخرب الثقافة والحقوق ومفاهيم الدين من دون أن ينصر السياسة. يخربها عبر تسييسها المفرط، وإن من وراء حجاب. وللتسييس مفعول الاستقطاب من حيث إحلال الفرض أو الامتثال محل النقد.
وبينما يعرض السياسيون اليوم، بمن فيهم المعارضون، أدنى مستوى من الثقافة والتفكير النقدي، فإنه ليس من شأن انتشار التسـييس والاسـتقطاب أن يتسببا في معاكسة هذا الميل، بل ربما في التغطية عليه فحسب. والمشكلة أن من يتحفظون على التسييس اليوم يفضلون الانعزال على الانخراط في معارك نقدية. وعلى هذا النحو يلحظ المتابع بيئة ثقافية عربية استدخلت منطق السياسة وركنت إلى الحزبية، فتشكلت في ما يشبه أحزاباً ثقافية تحاكي الأحزاب السياسية (في طور أفولها لا في طور صعودها)، أو يلحظ جزراً منعزلة عن بعضها، لا تكاد تتفاعل. الجمع بين الاستقلالية والنقدية نادر.
أين الدراسات النقدية المهمة؟ أين المجلات النقدية؟ أين المعارك الثقافية المثيرة؟ ومن هم أبطالنا الثقافيون اليوم؟
لا ريب أن ثورة الاتصالات، الأقنية الفضائية والانترنت والهاتف النقال، تسهم في إضعاف الثقافة النقدية وهي لم تكن قوية أصلاً في بيئتنا، إلا أن الأساسي ليس هنا في ما نرجح. في المقام الأول هناك مشكلة في اقتصاديات الثقافة. «الثقافة لا تطعم خبزاً»، يقول تعبير شائع في أوساط محبين للثقافة يضطرون إلى مزاولة مهن «تطعم»، لكنها تستهلك طاقتهم ووقتهم. والواقع أنه يحصل أن تطعم الثقافة خبزاً. لكن هذا يتوافق عموماً مع الانخراط في حزبيات الثقافة، وما تقتضيه من تسخير النقد لخدمة الولاء الحزبي الثقافي، وفي النتيجة رد الثقافة إلى إيديولوجية تجتر نفسها. أو هو يقتضي التخلي عن النقد لمصلحة مقاربات تقنية وشكلية للقضايا السياسية والثقافية، وهو ما يؤمن فرص عمل أوسع للمثقفين في السوق الثقافية والإعلامية العربية، النازعة كلياً للسياسة. في المحصلة لدينا صيغتان لفقد الاستقلالية شائعتان: واحدة تفرط في التسييس فتعجز عن نقد ذاتها، وتالياً عن كل نقد، وأخرى تمعن في الغفلة عن السياسة والرهانات السياسية إلى حد يقتضي منها إخصاء نقدياً ذاتياً.
في المقام الثاني هناك طفور الانتماءات الأهلية في السنوات المنقضية من هذا القرن. الطفور هذا عالمي، لكن له سياق خاص عندنا. لقد تلاقت لبرلة الاقتصاد والإعلام (كل شيء صار أكثر ظهوراً) مع جملة التفاعلات السياسية والإعلامية والرمزية لما بعد هجمات 11 أيلول، بما فيها احتلال العراق والتنازع الطائفي الذي أعقبه، ومع الضمور المتمادي للبعد الفكري لدولنا القائمة وعسر التماهي بها، تلاقت فجعلت الروابط الأهلية حاضرة ومنافسة للرابطة الوطنية التي تبدو شكلية وبلا محتوى قيمي وحقوقي وسياسي إيجابي. والظاهرة هذه عنصر تحزيب للثقافة لا مجال للمبالغة في شأنه. المثقفون الذين توقفوا عندها وحاولوا تقصيها والوقوف في وجه آثارها الفكرية والسياسية المخربة غير موجودين ببساطة. المثقفون انهزاميون أمام الطائفية، وإن أخذت انهزاميتهم شكل هروب إلى أمام.
الثقافة تخفق في الوقوف في وجه الطائفية. هذا عنوان أساس للفترة الحالية. من جهتها الطائفية تنجح في تطييف الثقافة. أي في خنق روحها النقدية. بل في مسخها وتمام تخريبها. وإن لم تسهم الحزبيات الثقافية المتشكلة هي ذاتها على صورة تجمعات مغلقة في تغذية الطائفية، فإنها بالقطع لا تملك عدة فكرة أو سياسية أو أخلاقية للتصدي لها. إذا كانوا هم خطأ ونحن صح، هل نحصل على غير طوائف؟
يبقى عنصران يشيع الكلام عنهما في تفسير أزمة الثقافة النقدية: أولهما تدهور مستوى الحريات العامة المتاح في بلداننا. يصطدم المثقفون بالرقابة وقلة المنابر المستقلة أو منعهم من النفاذ إليها، وقد يفقدون حريتهم، الأكثر نقدية وشجاعة منهم بخاصة. هذا يضيق القاعدة الاجتماعية للثقافة والتفكير النقدي، فيقلل من فرص نشوء تيارات ثقافية كبرى وولادة مبدعين كبار.
العنصر الثاني يتصل بالمحرمات الدينية ووراءها أجهزة دينية ترى الدين ثقافة وعلما وسياسة وقانونا. في غير حادثة معروفة تعرض مثقفون لتضييقات بلغت حد تهديد الحياة، بل أودت بحياة مثقفين نقديين. والضعف الفكري للدول في بلداننا، ونقص شرعيتها، يجعلانها غير مؤهلة لضبط تلك الأجهزة الدينية أو الحد من مخاطرها على الحريات الثقافية.
لكن الأسباب لا تخلق الظواهر، بل تساعد على فهمها. وزوال «أسباب» أزمة الثقافة النقدية لا يولد ثقافة نقدية. تولد الثقافة النقدية على أيدي مثقفين نقديين. شجاعة هؤلاء وجديتهم تصنع فرقا ضمن الأوضاع ذاتها. تكرسهم للثقافة (وليس تكريسهم لذواتهم) يصنع فرقا. في النهاية ما من أوضاع مؤاتية أبدا للثقافة النقدية، ولطالما تحققت طفرات ثقافية كبرى في ظل أوضاع قاسية.
الغرض القول إن أقوى «أسباب» الخمول الثقافي هو خور المثقفين وخمولهم. من جهة ثمة ضرب من نقص اشتهاء المعرفة والتفكير المستقل، ومن جهة أخرى ثمة ضرب من التهذيب الكاذب، حط على رؤوس المثقفين. تهذيب يطاول روح النقد، لا الرغبة في القتل والاستئصال. لكن النقد أجدى وأنظف، فوق أنه قتل بديل.
خاص – صفحات سورية –