عبد الناصر… في ذكرى ثورته!
ميشيل كيلو
كم حاول أشخاص وسعت جهات إلى تجريد عبد الناصر من موقعه كقائد لثورة تموز/يوليو من عام 1952، التي لا يشك أحد، صديقا كان أم عدوا، في أنها غيرت وجه منطقتنا، وأحدثت فيها انقلابا طال جوانب كثيرة من مناحي وجودها، ظلت آثاره باقية إلى اليوم في قلوب ونفوس عشرات ملايين العرب، ممن شعروا بعد انكفاء الثورة عن السلطة، وطي صفحتها في الواقع السياسي العربي، أنهم انكشفوا في غيابها، ولم يبق لهم، بعد وفاة قائدها، ناصر أو معين.
وكم حاولت قوى وعقول تجريد ثورة عبد الناصر من انجازاتها. وكم عزت إليها عيوبا لم تكن فيها، ونسبت إليها أهدافا لم تعمل من أجلها، وحشرتها في مواقع لم تعمل على احتلالها. وكم تقولت عليها: فهي تارة شيوعية، وطورا أمريكية دبرتها الـ’سي آي إيه’، وهي توسعية على لسان، إقليمية/ قطرية على لسان آخر، ومعادية للشعب والعرب على ألسنة كل من عجزوا عن مواجهتها في حياة عبد الناصر، فانقضوا عليها بعد ميل شمسها إلى المغيب، وخروجها من السلطة عقب وفاته، كي يشبعوها تجريحا وسبابا وتشنيعا.
هل كانت ثورة يوليو بلا أخطاء؟ من قال هذا؟ إن كل فعل إنساني، والثورة فعل إنساني بامتياز، يحمل في أحشائه أخطاء ونواقص يكشفها مرور الوقت وتقدم الفكر الثوري في مواجهة الواقع، ونجاحه أو فشله في تغييره، ثمة، كما هو معروف، هوة بين الفكر والواقع لم ينجح أي فكر في تخطيها أو الإفلات منها أو جسرها، سواء بالأمس أو اليوم، ولن ينجح في المستقبل أيضا، لسبب جلي هو أن الفكر أفقر من الواقع، والواقع أشد غنى وكثافة من الفكر، ولأن الفكر ثابت جامد والواقع متحرك متغير، يحمل كل فترة جديدا لم يكن واضحا للعيان من قبل، فليس بوسع أي فكر مجاراة الواقع في حراكه وتجدده، وليس باستطاعة فكرة أن تكون صحيحة كالواقع: فهو المعيار، الذي تتوقف صحتها على مقدار وطبيعة مطابقتها له، وقدرتها على التعبير عنه، وفي بعض الأحيان على عكسه والتفاعل معه بهذا القدر أو ذاك من الصواب والخطأ.
في نقطة الفكر: من الضروري الاعتراف أن الثورة لم تمتلك أفكارا تفصيلية، أو أيديولوجيا محددة تسعى إلى إنتاج الواقع انطلاقا منها، وأنها لاحقت حركة الواقع وعملت على إيجاد ما يتكافأ معها من أفكار، فكانت أحيانا تقصر عن هذه الحركة وأحيانا تسبقها، لكنها لم تحشرها في أي وقت داخل نص جامد ولم تحاول سجنها داخله. وحتى في الفترة التي أعلنت فيها خيارها الاشتراكي، فإنها أبقت ‘يدها الفكرية ‘طليقة، وفتحت أعينها لمتابعته وللقبض على ما اعتقدت أنه الجوهري والصحيح فيه. هذا لا يعني، طبعا، أن الثورة كانت بلا أفكار أو أهداف، بل يعني أن أهدافها الستة بقيت عامة فلم تتحول إلى قيد على عقلها، ولم تلزمها بقراءة معينة لا تتبدل ولا تتحول، بل مكنتها من تقديم قراءات متنوعة للواقع، في سياق تطوره، وهذه نقطة إيجابية لصالحها، وإن اعتبرها خصومها، في حينه، نقطة ضعف تؤكد انتهازية قيادتها وعدم وجود خيارات واضحة لديها!
باختصار شديد، تكمن أهمية عبد الناصر في كونه أولا: أول قائد سياسي عربي نقل خلال القرون العشرة الأخيرة من تاريخ العرب مادة فكرية وسياسية حديثة وضاربة إلى ابن الشارع، أي المواطن العربي العادي، الذي لم يره أو يهتم به أحد قبل الثورة، رغم أن المتحدثين باسمه وبالنيابة عنه كانوا أكثر من الهم على القلب في بلدان عربية عديدة. هل كان كل الوعي الذي نشره عبد الناصر صحيحا وملائما لحاجات المواطن العربي؟ من الصعب قول ذلك. لكنه كان على كل حال وعيا للعصر وقضاياه، أداته وحامله العرب كأمة لها مشكلات، واتسم بقدرته على مخاطبة الواقع وتحريك طاقات وقدرات عربية تتخطى مصر لبلوغ أهداف واقعية وعقلانية.
ثانيا: قدم مفهوما حديثا للقومية يسمو على تكوينات المجتمعات العربية الطائفية والقبلية والجهوية، وحتى على مفهوم الشعب، بمعناه القطري. الأمة في نظر عبد الناصر كيان مركب من تكوينات داخلية يحتويها ويبطلها، بقدر ما يتقدم وينمو، وليست كيانا أعلى يستر وجودها أو يحجب مطامحها وأدوارها، كما حدث لاحقا في سياسات قومية أخرى.
ثالثا: فهم التنمية من زاوية العدالة الاجتماعية وتحت حيثيتها، واعتبر العدالة في توزيع الدخل الوطني معيار التنمية وهدفها.
لذلك رأى العربي العادي نفسه في هذا الذي قدمه له عبد الناصر، مع أنه نقل إليه وعيا لم يكن مألوفا لديه بعد. وبالفعل، فقد خاطب الزعيم المواطن كإنسان يعيش في عالم يتحدى قدراته، ولم يجامله في ما يخص نواحي ضعفه وعيوبه، وأخبره بصراحة أنه قد يهزم ويذل، إن فوت على نفسه فرصة المقاومة والتقدم المتاحة، التي لن تحققها الثورة بمفردها، بل يجب أن يشارك فيها بجهد صادقة، وإلا فشل وفشلت. هل أعدت الثورة الأطر والوسائل والتنظيمات الملائمة لدور المواطن، الذي دعته إلى تأديته؟ كلا، إنها لم تفعل إلا بصورة جزئية، وجنحت في أحيان كثيرة إلى تهميش البشر، وحولت دورهم إلى دور ثانوي في الغالب، لأنها لم تدرك أهمية الترابط بين هذا الدور وبين فاعلية ووطنية النظام، ولم تر فيه أساس السياسة ومعناها والعامل اللازم لنجاح الثورة. تفسر الهوة بين النظام والمواطن الإخفاقات المتنوعة، والنجاح النسبي الذي حققته الحملات الدعائية المتعاقبة، التي تعرضت لها الثورة، خاصة عقب موت قائدها، وادعت الغيرة على المواطن والدفاع عن حريته والرغبة في تحريره من وعي سياسي فشل وتسبب في مأساة العرب الراهنة ؟ مهما يكن من أمر، فإن ما بذل من جهد لتطهير العقول والنفوس من الوعي الناصري، السياسي والاجتماعي، قد بين حجم العداء الذي أبداه الخصوم ليس فقط للتجربة الآفلة، بل قبل كل شيء للباقي منها في وعي العرب، ويمكن أن يعينهم على مقاومة حالهم الراهن، وعلى استعادة تجربة الثورة، ولكن في مستوى أعلى من مستواها الأول، كما عبر نفسه في سياسات عبد الناصر، التي رغبت في أن تكون الأمة حاملة مشروع تحررها، لكنها لم تكن قادرة على تمكينها من ذلك، لأسباب كثيرة منها تباين رهانات قادتها، وفوات وعي كثيرين منهم، وارتباط مصالحهم بفئات ضيقة وليس بالشعب، وتكاثر الأعداء على الثورة وتركيز ضغوطهم وجهودهم على عبد الناصر، بعد أن قرر بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، عام 1954 ‘ تحطيم هذا البكباشي، الذي سيطمرنا بالمتاعب وسيكون خطيرا علينا’، كما قال في جلسة وزارية ترأسها، بعد تحليل أجرته الدوائر الأمنية الإسرائيلية لقادة الثورة. وللعلم، فإن ساسة الغرب عموما وأمريكا خصوصا تبنوا هذا التحليل، وعملوا فعلا لتحطيم ‘هذا البكباشي’ (عبد الناصر)، وظلوا وراءه إلى أن قضوا عليه، ثم افرغوا ثورته من مضامينها، بتآزر قوى عملت بتنسيق وتوافق من خارجها وداخلها، ومشاركة بعض كبار قادتها.
ثمة وجوه ثلاثة في تجربة عبد الناصر يجب تذكرها، ربما أفاد منها المناضلون من أجل حرية وتقدم ووحدة العرب:
– ان عبد الناصر عمل دوما لوضع مصر في خدمة العرب ولم يعمل يوما لوضع العرب في خدمة مصر. لم يكن عبد الناصر قوميا من النمط المشوه الذي نراه اليوم هنا أو هناك، بل كان وحدويا عربيا، رأى أن السياسة والمصلحة القومية العليا تتطلب وضع الكبير في خدمة الصغير والقوي في خدمة الضعيف، ولو كان غير ذلك، لما نجحوا في جره إلى فخ حزيران. بكلام آخر: كان مفهوم عبد الناصر عن الريادة مختلفا اشد الاختلاف عن مفاهيم حكام جاؤوا بعده لم يروا من السياسة غير سيطرة الكبير على الصغير والقوي على الضعيف. ومع أنه كان وحدويا، إلا أنه كان يعتقد أن للوحدة حدودا يجب أن يتوقف السعي إليها عندها، هي سلامة وأمن الأمة، التي تهددها الحروب الأهلية والتدخلات الأجنبية، فإذا كان سينجم عن الوحدة حرب أهلية أو تدخل خارجي، فإنه كان يفضل بقاء الأمر القائم، الانفصالي، ويرى ضرورة تأجيل الوحدة ريثما تسود ظروف طبيعية لتحقيقها، مثلما فعل بعد الانفصال عام 1961، رغم أن القسم الأكبر من الشعب السوري كان يؤيده بلا تحفظ.
– لم يضع الدولة في خدمة شخصه وأسرته وزبانيته، بل وضع نفسه وأسرته في خدمة الدولة، فكرس لها حياته، ومات وهو يقوم بواجبه تجاهها، ولم يسلط عليها من ينهبها أو يضع نفسه فوقها. لم يعرف عن عبد الناصر أو عن أحد من أقاربه والمقربين منه الإثراء أو الفساد، ولم يبطر أو يستطيب سكن القصور وامتلاك الأراضي وتحويل ملكيات المواطنين العامة والخاصة إلى ‘باب رزق ‘ له ولأزلامه. كان عبد الناصر يفصل فصلا تاما بين جيبه والخزينة العامة، وقد منع أهله وذويه من الإثراء غير المشروع أو من نهب الناس والبلد، حتى أنه مات وفي جيبه جنيهات قليلة، بينما عاش أهله وأقاربه جميعهم على كدهم وتعبهم، ولم يفيدوا، ماديا أو معنويا، من مكانته في الدولة، وبقوا مواطنين عاديين لم ينقلبوا بين عشية وضحاها إلى أمراء وأصحاب أطيان ومصانع وتجار مخدرات وسلاح ومهربين!
– اختلف عبد الناصر مع خصومه وسجنهم. لكنه لم يضطهد أحدا من أسرهم أو أقاربهم، ولم يقطع رزقهم ويجوعهم. ولم يوجه يوما حملات قمع إلى عامة الشعب، ولم يضع نفسه في مواجهة معه، كما لم يعتبر الخوف من السلطة دليل الولاء الوحيد. كانت العقوبة في نظره شخصية، فلم ينزلها بغير الخصم. بعده، صار عقاب المواطنين العرب جماعيا، على الطريقة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، استهدف الخصم و’التربة’ التي نشأ فيها! من الصعب أن ينصف المرء زعيما كعبد الناصر. يكفي القول: إن خطأ الكبير يكون كبيرا كصوابه، وإن غيابه كان نقطة فصل بين عهدين: عهده الذي حمل الأمل للعرب، وعمل كي يكون للمواطن دور في شؤونه ويتوقف مصيره على إرادته، وعهد تال له يقال بحق: إننا لم نر الخير فيه، لأنه لم يحمل إلينا غير البؤس والخوف والوعود الفارغة.
تحدثت عن احتمال وضرورة استعادة التجربة في مستوى أرقى، يخلو من أخطائها ويبني على إنجازاتها. ألا يسوغ هذا بحد ذاته تفكيرنا فيها وسعينا إلى نقدها والتعلم منها، خاصة وأنها تحتل مكانا من عقولنا ونفوسنا يسمو كثيرا على المكان الذي تحتله تجربة أي نظام عربي قائم، وأن صاحب التجربة، عبد الناصر، هو اليوم أيضا، بعد غيابه بحوالي أربعين عاما، عقدة جميع الحاكمين؟!
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي