علامات الفشل في مؤتمر فتح
بلال الحسن
أكتب هذا المقال وقد أصبح مؤتمر حركة فتح في الضفة الغربية، في لحظاته الأخيرة. ومن غرائب الأمور أنه يمكن الكتابة عن مؤتمر فتح هذا قبل أن ينتهي، ذلك أن المسائل الأساسية في المؤتمر توضحت منذ اليوم الثاني لانعقاده. وما جرى بعد ذلك هو النقاش والجدل والاختلاف حول الأمور التي توضحت، ومن دون أن يكون النقاش أو الجدل أو الاختلاف قادرا على تغيير النتائج النهائية. وبما أن القضايا التي كانت مطروحة للنقاش. وبما أن القضايا التي لم تطرح للنقاش، كانت معروفة من خلال إعلانها، أومن خلال إخفائها، فإن استخلاص ملاحظات أساسية حول المؤتمر يصبح ممكنا. وسنحاول أن نقوم هنا برصد أبرز هذه الملاحظات، وكلها ملاحظات غريبة عن أصول المؤتمرات، ومستهجنة في عالم النقاش السياسي العادي، وتصبح مستهجنة أكثر في عالم النقاش حول مصير شعب وقضية.
ملاحظتنا الأولى حول عضوية المؤتمر: فهي كانت عضوية مجهولة، وكانت خاضعة للإضافة والحذف حتى لحظات المؤتمر الأخيرة. فكل كتلة، أو كل طامح لعضوية قيادة الحركة في الضفة الغربية كان يتقدم بلائحة أسماء يطلب إضافتها، من أجل أن يزيد في عدد المؤيدين له. وبديهي أن عضوية مفتوحة لأي مؤتمر حركي تنظيمي هي عضوية مشكوك فيها، عضوية يتم ترتيبها سلفا من أجل الوصول إلى نتائج محددة سلفا. وللأسف فإن من بدأ هذا النهج هو رئيس حركة فتح محمود عباس، حين ألغى اللجنة التحضيرية للمؤتمر، التي كانت تعقد جلساتها في عمان، واستبدلها بلقاء تمت الدعوة إليه في رام الله برئاسته، وجرى فيه فتح باب تغيير العضوية، ومن دون تحديد، والاكتفاء بصيغة من 1200 ـ 1600 عضو، بينما وصل أعضاء المؤتمر المجتمعون إلى 2250 عضوا. كما أن الأعضاء الذين لم تسمح لهم إسرائيل بالحضور، لأسباب أمنية أو لأسباب متعمدة تتعلق بالعقبات الإدارية المدروسة، مثل التأخر المتعمد في تقديم طلباتهم، قد تم استبدالهم فورا بأعضاء من الداخل يشايعون هذه الكتلة أو تلك. وكانت النتيجة أن الشك بعضوية المؤتمر، وبشرعية هذه العضوية بالتالي، أصبح مفتوحا أمام كل من يهمه الأمر.
الملاحظة الثانية تتعلق بوثائق المؤتمر: فأي مؤتمر يعقد، سواء كان مؤتمرا لاتحاد الطلاب، أو لنقابة عمالية، أو لاتحاد مهني، تكون مهمته الأساسية أن يقدم لأعضائه تقريرا (أو مجموعة تقارير). التقرير الأساسي يسمونه التقرير الأدبي، أو التقرير السياسي. ثم يليه التقرير المالي، ثم يليه التقرير الإداري. وتكون مهمة المؤتمر محاسبة المسؤولين بناء على تلك التقارير، ويجري تثبيت القيادة القديمة، أو انتخاب قيادة جديدة بناء على تلك المناقشة، وبناء على ما يرد في المناقشة من حساب. وقد كانت حركة فتح نشيطة في هذا المجال، حتى إنه تم إعداد خمسة أو ستة تقارير سياسية، كان يفترض أن يكون واحد منها هو التقرير السياسي الأساسي، الذي يعرض على أعضاء المؤتمر للمناقشة. ولكن الأمور جرت عكس ذلك تماما، فقد تمت تنحية كل هذه التقارير، وانعقد المؤتمر دون تجهيز أي تقرير جديد، وألقى رئيس حركة فتح محمود عباس، خطابا حدد فيه مواقف أساسية ومواقف أخرى عامة، ثم تم الإعلان في اليوم التالي، وسط ضجة كبيرة بين الأعضاء بسبب عدم حصولهم على أي تقرير للمناقشة، أن خطاب الرئيس عباس هو التقرير السياسي الأساسي أمام المؤتمر. ولم يفعل هذا الإعلان إلا أن زاد من غضب أعضاء المؤتمر، وجرى نقاش حاد وصل حد الملاسنة بين بعض الأعضاء وبين الرئيس. ولكن، ومهما كان نوع الآراء والانتقادات التي قيلت، فإن مؤتمر فتح انعقد من دون تقرير سياسي. وتحول المؤتمر بذلك إلى نوع من اللقاء الجماهيري، يقول فيه كل عضو ما يعن له وما يريد أن يقوله.
الملاحظة الثالثة تتعلق بدور رجال الأمن في المؤتمر: في سياق الجدل المحتدم بين الأعضاء والرئيس، بادر رجال الأمن إلى الاعتداء بالضرب على أعضاء بارزين في المؤتمر (بإشارة من أحد أو حسب اجتهادهم)، وبعضهم من المؤيدين سياسيا للرئيس عباس. وهكذا تم الاعتداء بالضرب على اللواء توفيق الطيراوي، إلى حد نقله إلى المستشفى، حيث خرج وذراعه مربوطة إلى رقبته. كما تم الاعتداء بالضرب على العميد أبو أحمد الشيوخي، وهو في الخامسة والسبعين من العمر، والعميد ماجد حيمور القادم من الأردن، ونقل هو أيضا إلى المستشفى.
لقد تم حادث الضرب هذا، بينما يمتلئ الشارع في كل مدن الضفة الغربية، بالحديث عن أساليب العنف والضرب، التي يستعملها رجال الأمن الفلسطيني ضد المواطنين، وضد المعتقلين، حتى إن البعض بدأ يتحدث عن نظام بوليسي يتم بناؤه من خلال السلطة الفلسطينية. وحين تصل الأمور بهذا النوع من رجال الأمن إلى الاعتداء على أعضاء مؤتمر سيقرر مصير القضية الفلسطينية، فإن الحادث يصبح خطير الدلالة، ليس بسبب الضرب فقط، بل لما يعنيه الحادث لكل عضو، فمن يفكر بالاعتراض أو الاحتجاج فعليه أن يتطلع بعينيه أولا إلى رجال الأمن المحيطين به، ثم يقرر ماذا سيتكلم. نشير هنا أيضا إلى أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ حركة فتح، والمرة الأولى في تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية، التي يقع فيها حادث من هذا النوع، وهو أمر قد تكون له دلالته في المستقبل.
الملاحظة الرابعة حول مشاركة أعضاء غزة: لقد ثار جدل عنيف ومتواصل، ولم يحسم حتى اليوم الأخير من المؤتمر، حول كيفية مشاركة تنظيم غزة في انتخابات الهيئات القيادية. ولا يهمنا هنا أن نقف أمام تفاصيل المناقشات، ولا أن نقف أمام الحجج قويها أو ضعيفها، ولا أن نعرف أسباب الدعوة لمشاركة أعضاء غزة بالانتخابات أو تأجيل مشاركتهم. المهم أنه في النقاش الذي دار، جرى حديث عن عدد محدد من الأعضاء، سيكون لقطاع غزة في اللجنة المركزية العليا (20 ـ 23 عضوا)، وعدد آخر محدد من الأعضاء، سيكون لقطاع غزة في المجلس الثوري (130 ـ 150 عضوا). لقد أفرز هذا النقاش مبدأ (الكوتا) في الهيئات القيادية. مبدأ الكوتا هو أفضل وصفة لتقسيم تنظيم متحد. ومبدأ الكوتا هو أفضل وصفة لتقسيم شعب واحد متحد. وغريب على من ينتقد حركة حماس بحجة أنها قسمت الوطن، أن يلجأ إلى منطق الكوتا، الذي يصل إلى الهدف نفسه. إن فكرة الكوتا دخيلة على حركة فتح. وبسبب ذلك فإن كل من تحدث عنها في المؤتمر، أقر بالصيغة ولكنه رفض استخدام كلمة (كوتا)، ونسي هؤلاء أن المشكلة ليست في الكلمة، إنما هي في الصيغة حين توضع موضع التنفيذ.
الملاحظة الخامسة حول القيادة الجديدة: لقد أنجزت قيادة فتح المؤسسة عملا تاريخيا يسجل لها كما يسجل لشعب فلسطين. وكان من جملة إنجازات قيادة فتح، أنها أنتجت جيلا قياديا شابا مناضلا، خاصة في المناطق التي احتلت عام 1967. وهذا الجيل القيادي الشاب كان له إسهامه الكبير في تفجير الانتفاضتين الأولى والثانية. ولكن ما حدث بعد أوسلو كان أمرا عجبا، فبدلا من أن تفتخر حركة فتح بجيلها القيادي الشاب، سدت عليه طرق الوصول إلى المناصب القيادية الأولى، كما استثنته (عملا بتقاليد مرحلة الثورة المسلحة) من المشاركة في صنع القرار السياسي. وكان طبيعيا أن يولد هذا الوضع معركة خفية ثم علنية بين الطرفين. وكان هذا خطأ أساسيا من الأخطاء التي ارتكبتها حركة فتح بحق نفسها. ولكن خطأ كبيرا ومماثلا حدث في الجانب الآخر الشاب. فبدلا من أن يطالب هؤلاء الشباب مثلا بتغيير النظام الداخلي للحركة، مما يتيح لهم فرصة الارتقاء التنظيمي، بدأوا يرفعون شعارات خاطئة ومخربة. أحيانا يتحدثون عن «أهل تونس»، وأحيانا يرفعون شعار «حرب الأجيال»، وأحيانا يرفعون شعار «الداخل والخارج»، وأحيانا يتحدثون عن «قيادة الزهايمر». وأدى هذا إلى أن تدور المعركة التنظيمية حسب قواعد ليست صحيحة أبدا. ومن جهة أخرى، فإن هذه القيادات الشابة لم تدعم تحركها انطلاقا من موقف سياسي تعبر عنه. فهي لم تنتقد الموقف السياسي داعية لموقف جديد، وهي لم تطور الموقف السياسي داعية للأخذ بهذا التطوير، وأدى هذا كله إلى إضعاف معركة الشباب. الإنسان لا يحارب قائدا لأنه أصبح كبيرا في السن، يحاربه إذا كان موقفه خاطئا. والإنسان لا ينتخب شابا في القيادة لأن مؤهلاته هي فقط صغر السن، فهناك أيضا فاسدون وهم صغار في السن.
وحين يجري الحديث الآن عن انتخاب قيادة جديدة لحركة فتح، نصفها على الأقل، إن لم نقل الثلثين (حسب تعابير الشباب في المقابلات التلفزيونية)، من الجيل الجديد، فإنهم مطالبون بالتفكير بهذه القضايا، لأن الأعضاء والجمهور سيحاسبهم على الإنجازات، ولن يتوقف كثيرا عند كبر السن أو صغره.
الشرق الأوسط