قضية فلسطين

.. عن كلمة السر في مؤتمر «فتح»

.
نهلة الشهال

يحار المرء في أمر إسرائيل. هل ما يقوله قادتها ومسؤولوها صادق من وجهة نظرهم، أي يعبر حقيقة عن آرائهم، أم هو تكتيك مدروس يستهدف أغراضاً محددة. هل حقاً يعتبرون رفع ملصق قديم لمنظمة «العاصفة»، الجناح العسكري لفتح، على أحد جدران صالة عقد مؤتمرها دليل على تطرفها؟ يستنكر وزير الإعلام الإسرائيلي خروج أصوات في المؤتمر تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس وعودة اللاجئين، ويعتبره تطرفاً ما بعده تطرف. بل يستعيد الذئب العجوز شمعون بيريز، نفسه، ذلك الاستنكار! فإن كان هذا الأخير، وهو من «الحمائم» وممن صنعوا أوسلو، لا يطيق كلام فتح في مؤتمرها، فكيف بالآخرين. ويفضح ذلك ليس تطرف وجنون القادة الإسرائيليين (فحسب)، ولكن خصوصاً الادقاع الذي وصلت إليه الحال الفلسطينية نفسها، بحيث لا يتوقع هؤلاء منها حتى بعض الكلام القويم!

مع أن كلام فتح في مؤتمرها رسم سقف ما تتحرك الحركة في ظله. سياسياً، هي تناضل اليوم لوقف الاستيطان! وقد تحول هذا التطلب الأميركي، الذي عينه أوباما كمدخل لاستئناف العملية السلمية، إلى عنوان للهدف، ليس لدى السلطة الفلسطينية ومعها حزبها، فتح، بل وفي الفضاء العربي الرسمي إجمالا. بات التفاوض مع إسرائيل يتعلق – من دون نجاح – بوقفها للتوسع الاستيطاني داخل الأراضي المحتلة، وفي القدس. القدس التي نام بعض فلسطينييها في العراء بعد طردهم من بيوتهم في حي الشيخ جراح، بينما كان مؤتمر فتح منعقدا في بيت لحم. والقدس التي غزا أحياءها الشرقية 200 ألف مستوطن، ولم يتبق إلا القليل منها في يد الفلسطينيين، وسط إشاحة نظر عربية وعالمية متواطئة.

أما في الخطط الإستراتيجية، فتعتمد فتح على وجود «مصلحة أميركية في نشوء دولة فلسطينية»، كبديل عن كل بحث وخيال ومشقة. وكتقييم للحظة، قال الرئيس عباس إن الوضع صعب، ولكن ما زال هناك بصيص أمل. وبين هذه الزوايا الثلاث، تحرك المؤتمرون إلى ما يعنيهم حقاً، ما يسمونه بأناقة «تجديد القيادة»، اي الترشيح للانتخابات… علماً أنهم في هذه نفسها، فثمة خريطة توازنات دقيقة يستبطن الجميع عناصرها ويرتضونها، وهناك مقادير ونسب للأخذ في الاعتبار، ولا يوجد من ينوي التمرد عليها، وهي لا تعتد باعتبارات سياسية بالدرجة الاولى، وإنما بشبكة معقدة من المصالح ومن أخذ خاطر متنفذين، ومجموعات عائلية – عشائرية، ومناطق…

ولعل الإنصاف يدفع إلى الاعتراف بالصعوبة الفائقة التي وقفت المسألة الفلسطينية بإزائها منـــذ البداية، والتي لم تتوقف عن الازدياد مذاك. وهــو ما يضفي شيئاً من النسبية ومن التحفظ على المسؤولية الذاتية للقيادة الفلسطينية، أياً كانـــت. ولكن مسار تلك القيادة تجاوز هذا الاعتبار، واندفع ممعنا في الطريق السالكة التي وجدها تنفتح أمامه. فتحولت الصعوبة الموضوعيــــة إلى انحراف كامل، معجون بالفساد الشخصي والجماعي الذي تجاوز كل حـــدود، وبالتواطؤ مع سوء الحال الذي يداني في محصلته التدجيـــن والخضــوع التّامين، إن لم يكن العمالــة للعدو. ومن العجيب ألا تجد قيادة فتح (والسلطة، وقد تماهتا)، ما تقوله في المؤتمر ســوى أن عقده هو بحد ذاته انجاز، لا بل معجـــزة! وهـــي بهذا تعفي نفسها، وتلك الآلاف المؤلفـــة من المندوبين، من مهمة شاقة ولا شك، أي تحديد الممكن والمطلوب، وتعيين أدوات ووسائل تحقيقه، ولو بتواضع في الأولويات قد لا يتمكن من استشراف المآل النهائي.

وللحق، لم يعد بإمكان قيادة فتح التصدي لهذه المهمة، لأسباب باتت بنيوية متمكنة، وهي في جزء منها أصيل لم تفعل الأيام والصعوبات والهزائم سوى تعزيزه. بل جل ما كان الواحد منا يأمله هو أن تُطرح الأزمة بكل أبعادها وتعقيداتها على المؤتمرين، من قبل مجموعة ما، يفترض أنها لا بد موجودة، ولا بد فكرت بالأمر قبل موعد المؤتمر، وقبل حضورها إليه، وأعدّت – يُفترض – وثيقة سياسية، وصفية على أقل تقدير، إن لم تكن تمتلك التحليل وخاصة الحلول، يكون دورها كالمرآة، فلا تترك الناس يأتون ويغادرون وهم مطمئنون إلى الحضن الدافئ لجماعتهم بديلا عن السياسة، وفي هذا إدارة للموقف يحمل كل زغل الدنيا وعبثها في الوقت نفسه.

ولم تساعد سائر الفصائل الفلسطينية على تحويل مؤتمر فتح إلى مناسبة لإعلان الأزمة وتركها تتفاعل. لم يصدر أي نص سياسي فلسطيني عن منظمات – أستحضر الجبهة الشعبية مثلا، أو أي مجموعة يسارية قديمة أو جديدة – يفترض أنها لا توافق قيادة فتح على انحرافاتها الداخلية والسياسية. أما حماس، فقامت بكل شيء لمساعدة قيادة فتح على تحويل المؤتمر إلى حالة تطغى فيها العصبية الحركية أو العشائرية، لا فرق. فدخلت في سجالات خارج الصدد، وحاولت مقايضة جماعتها المعتقلة في الضفة من قبل السلطة بإذن الخروج لمندوبي فتح من غزة! ثم والاهم، لو تقول حماس للمؤتمرين ما هو «البرنامج والمشروع الوطني الفلسطيني» الذي تدعوهم للعودة إلى أحضانه، لكانت أحرجتهم حقاً، وربما حركت ماءهم الراكد. ولكنها هي الأخرى لا تملك ما تقترحه أبعد من هذه الجملة، التي تصبح، والحال تلك، خاوية بمقدار خواء «بصيص الأمل» الذي يتمسك به عباس. علماً أن هذا الأخير لديه ما يراهن عليه ويعوِّض به عجزه: ما ستجود به يد أوباما، وهو صاحب شعار «yes we can»، هذا إذا جادت، والأمل يتقلص يوماً بعد يوم، والشعار إياه لا يخص المسألة الفلسطينية لأسباب عديدة وانشغالات أخرى. وعلى رغم ذلك، ثمة عنوان للانتظار والاتكال، ولكن على ماذا تراهن حماس؟

لقد طغى منذ زمن على الشعب الفلسطيني، في الوطن والشتات، اليأس من امتلاك قيادته ليس للحلول وإنما للصدق في مقاربة الواقع. ومنذ زمن، غادر إلى أرض الله الواسعة من يمكنه المغادرة، ساعياً وراء خلاصه الفردي وتوفير أفق أمام مستقبل أبنائه، وانكفأ من يمكنه الانكفاء الذي اتخذ أشكالا لا حصر لها، وشرعن آخرون لأنفسهم التعامل البسيط مع سلطات الاحتلال لتيسير الحال، أو طمعاً… ومات من مات كمداً. ومؤتمر لفتح بهذا القدر من الخواء، الذاتي والمحيط، يمثل طعنة إضافية في الجسد المنهك…

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى