صفحات من مدونات سورية

الكوابيس اللاقطة

null
زياد عدوان

كان المشهد حزيناً في ساحة باب شرقي، وتحديداً في مقهى قد يكون الأكثر جاذبية وهو الواقع عند الباب الضحم تماماَ. هناك طاولات تستوعب كل منها أربعة أشخاص تقريباً ممتدة على الرصيف، ولكن المدهش هو وجود تلفزيون صغير مخصص لكل طاولة وحدها. يفترش زبائن المقهى على الطاولات، وكل منهم ينظر إلى شاشة التلفزيون المعلقة أمامه تماماً. ورغم اختلاف الأماكن وأساليب المتعة في منطقة باب شرقي، من مطاعم ومقاهي وبارات ومعارض الرسم وحدائق صغيرة وإمكانية المشي في الأزقة ولقاءات الصدفة التي لا تبدو كالصدفة أبداً، حيث الجميع يتجه إلى باب شرقي، إلا أن هذه المنطقة لم تنج هي الأخرى من وباء (أو طاعون) شاشات التلفزيون…

أينما نظر المرء سيجد تلفزيوناً معلقاً أمامه. ومن الأعلى، سيرى الصحون اللاقطة، التي لا تلتقط إلا الوحدة.

الحال في باب شرقي، أو مكان السهر واللقاء، هو الحال نفسه الذي يصف البيوت بمعظمها … وهو حزين بلا شك. قيل سابقاً أن التلفزيون استلب الأسرة، ولكنه الآن استلب جميع مرافق الحياة. ولا أدري إن كان اللوم يقع على هذا الصندوق، أم على النفوس التي تشبثت بالحياة التلفزيونية لتصاب بعزلة المدمنين. وبالإضافة إلى المطاعم، ومحلات الحلاقة، ومؤسسات الدولة، ومكاتب الشركات الخاصة ،لم تستطع هذه النفوس أن تتخلى عن جهاز التلفزيون حتى داخل السيارات. فبات جهاز التلفزيون موبايلاً آخر، لا يستطيع المرء مغادرة المنزل دونه. وانتقلت العدوى إلى دور السينما التي وضعت بدورها تلفزيونات في بهوها، كي لا يفوت جمهور السينما دقيقة تلفزيونية، وحتى إن كانت إعلاناً تجارياً. تصوروا إني ذهبت لعلاج أسناني. استلقيت على الكرسي الطويل الأبيض. جاءت الممرضة وأنارت الضوء القوي الذي، غالباً ما يسقط على عيني المريض قبل أن يوجهه الطبيب إلى فم المريض. ثم وبحركة تلقائية أشعلت الممرضة تلفزيوناً بجانب الضوء، وبدأ مسلسل ما…. كان موجعاً ليناسب آلام الأسنان.

أثبت التلفزيون وبرامجه سلطة لا ينازعها أحد. ولكن المنطق لا يقول إلا هذا. استطاعت الأمية أن تحرق الكتب، ومنعت عروضاً مسرحية، وقصت شرائط سينمائية عديدة، وحجبت مواقع إلكترونية. وبالتالي لم يبق إلا التلفزيون… لا لشيء إلا لأن الأمية لم تستطع إلى الآن إيقاف برنامج أو مسلسل. وهذا ما أشار إليه حاتم علي المخرج التلفزيوني في مقابلة أجراها مع صحيفة القدس العربي مؤخراً، عندما ربط الأمية بالتشبث أمام جهاز التلفزيون. حلقات المسلسل وبرامج التلفزيون جارية. قد يظهر لغط ما حول برنامج ينتقد حكومة ما، أو مسلسل يتحدث عن شخصية بارزة أو مجموعة تتحسس من النظر إلى نفسها عبر الشاشات. ولكن وباستثناء أصحاب الأموال، لم تستطع أي قوة أن توقف برنامجاً تلفزيونياً أو مسلسلاً..

وهنا يجلس متابعو التلفزيون أمام الشاشة صامتين صمت الحزينين. ويبقى الغير مبالين بالتلفزيون صامتين وحزينين أمام حرق كتبهم، وبتر أفلامهم، ويمتد الحزن إلى العاملين في التلفزيون (ولكنه حزن ممزوج بالضجيج هذه المرة). فمعظم من يظهر على شاشة التلفزيون حزين بدوره، بدءاً من حزن ضحايا الحروب وضجيجها على الشاشات، إلى المشهد الحزين حين ينقلب نقاش ساخن إلى ضجيج وشتائم وعراك، يصل إلى الأيدي أحياناً، إلى خسارات منتخباتنا الوطنية. ولا أبالغ إن قلت أن استعراضات الفيديو كليب هي حزن بدورها، وخاصة حينما تظهر المغنية بضجيج أقل ما يقال عنه أنه فاقع لتستعرض مرحها، تماماً كما يظهر المهرجون أمام الأطفال ليمتعوهم.

أما المسلسلات فهي ما تبقى من موجة الحزن والضجيج. قيل لنا أن المسلسلات السورية هي الأفضل والأكثر مشاهدة، وقد تفوقت على المسلسلات المصرية، متناسين أن مصر سباقة بمجال السينما، كماً ونوعاً، ومتناسين أيضاً أن المسلسل التلفزيوني منتج استهلاكي، تنتهي صلاحيته مع التقادم. ولكن التناسي الأكبر، والذي يصل إلى حد تجاهل الحقيقة، هو أن جمهور التلفزيون مهووس بأي مسلسل تلفزيوني. فالمسلسل التركي أثبت نجاحاً هائلاً، والمسلسلات التي تتنغم بجنة دمشق أيام الاحتلال العثماني، نالت نصيبها أيضاً، وسابقاً كان جمهور المسلسلات متابعاً مثالياً للمسلسلات المكسيكية، هذا عدا عن المسلسل الكرتوني عدنان ولينا، الذي استقطب الجمهور لدرجة أن القناة السورية أوقفت عرضه، لأن الحياة تعطلت تماماً وقتها، وخاصة أن عرض المسلسل الكرتوني تضارب مع الفحوصات المدرسية و … الجامعية!

المضحك في تنافس المسلسلات العربية فيما بينها، هو خوفها من (أمواج) المسلسلات المكسيكية والتركية والكرتونية ربما، ليبدو نجاح المسلسلات المفترض بهشاشة الكرتون. ولعل حزن المسلسلات والعاملين عليها، نابع من لعنة الأسواق الخليجية. فالكتاب محكومون بشرط الـ (الثلاثين حلقة) تلبية للمعيار الرمضاني، والمخرجون مرتبطون بالموضوعات الخليجية المرغوبة، والممثلون اقتنعوا أن التلفزيون (هو الحل).

ولكن، تخيلوا ألا تنجح المسلسلات السورية بعد أن ضخت كل الكوادر السورية جهودها في المسلسلات، سيكون الأمر معيباً أن لا تنجح المسلسلات السورية بعد أن صب الأدباء، والممثلون، والأكاديميون، والموسيقيون، وراقصو الدبكة، والحسنوات، والنقود الخليجية، قدراتهم كلها لانتاج المسلسل.

لا أريد من الكلام هنا إقصاء المسلسلات بشكل عام والمسلسلات السورية بشكل خاص. فالمسلسل تلفزيوني مادة ترفيهية موجودة، وشخصياً شاركت في مسلسلين إنكليزيين، دون أي حساسية. ولكن الكلام هنا هو إشارة استفهام حول العقلية التي تقصي جميع النشاطات الانسانية الأخرى لصالح التلفزيون. ولا شك أن العديد من الممثلين والمخرجين يعملون في المسلسلات التلفزيونية، وعينهم على السينما. ولكن هناك موجة من الرياء، تعظم دور التلفزيون في حياة الأفراد والعامة على حساب الفنون والآداب الأخرى. وتطالب هذه الأصوات بإلغاء نشاطات أخرى وفروع أكاديمية أدبية وفنية، لا لشيء إلا لأنها لا تخدم النشاط التلفزيوني تحديداً.

أصدر الشاعر أمجد ناصر كتاباً، هو من أدب الرحلات، تحت عنوان (تحت أكثر من سماء) وبين بلاد عديدة، كالأردن، وكندا، وعُمان، كان لقاؤه مع الأصدقاء القدماء (تحت سماء دمشق) الأكثر مفاجأة. الجميع يتحدث عن التلفزيون. لم يشاهد أمجد ناصر في دمشق سوى التلفزيون، ولم يستمع إلا إلى التلفزيون، ولم يتحدث مع أحد إلا عن التلفزيون. يسخر أمجد ناصر من تراجع اللغة، واقتصار الكلمات المجردة على معنى هو المعنى التلفزيوني لها. فإن قال كاتب: (أكتب عملاً) فعلى المستمع أن يدرك أن العمل هذا ليس روائياً أو قصيدة أو مسرحية، (العمل) هو سيناريو مسلسل تلفزيوني … فقط، وهو الأمر الذي ينطبق على الممثلين والمخرجين، وحتى الفنانين التشكيليين الذين يقولون (عندي عمل) وهذا العمل هو مشاركتهم في المسلسلات التلفزيونية.

وبإضافة ماعلى ملاحظة أمجد ناصر، فرضت العلاقة مع التلفزيون نفسها على الأحاديث وعلى نشاطنا اليومي. بات من الصعب على المتحادثين أو الأصدقاء البقاء ضمن الموضوع وعدم الخروج عنه بشكل يشبه التواصل مع برامج التلفزيون. تمتلئ البرامج التلفزيونية بإعلانات لا تتيح للمشاهد الخلو بموضوع لساعة واحدة على الأقل، دون استراحات إعلانية. أما ميزة التلفزيون الأخرى فهي رضوخها لعدم صبر المتفرج، فحالما يضجر مشاهد التلفزيون من برنامج ما، يستطيع أن ينتقل إلى قناة أخرى، وهكذا دواليك. يمر على المتابع على أكبر قدر من البرامج التلفزيونية، ويراها جميعها سريعاً دون أن يكون قد رأى أياً منها. وهو الأمر ذاته الحاصل في الأحاديث العامة والحميمة، يمر المتحدثون على الكلام كله، وينتقلون من موضع إلى آخر (بكبسة زر) دون أن يتكلموا عن أي موضوع.

ما كنت لأقول هذا الكلام كله، لولا معاناتي أيضاً من مشكلة صغيرة أمام جهاز التلفزيون. هناك صوت حاد يخرج من التلفزيون، يقوم كالسحر بتنويمي تماماً. ولا عجب أنني أبدو نائماً أينما مضيت في دمشق. أخلد إلى النوم، بينما تتعلق أغنية برأسي، أغنية كانت لبرنامج تلفزيوني، يعرض أيام المحطات الأرضية، تبدو الأغنية وكأنها تهويدة ما قبل النوم وتتردد

التلفزيون … التلفزيون …. التلفزيون والناس …. يا إلهي …. ثم استيقظ من هذا الكابوس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى