“باب المقام” لمحمد ملص: العرض والجمهور: أبوابنا مغلقة ونكره المرايا
بكر صدقي
لا يسع المرء إلا أن يشعر بالفزع والإذلال حين ينظر في المرآة فيرى وجهه قبيحاً فظيعاً، وقد توهم إلى حينه أنه يملك وجهاً جميلاً، لأنه حُرم المرايا في بيته. نحن محرومون في سوريا من المرايا: الإعلام الشفاف النظيف، الثقافة الحرة، الحوار في مجتمع مفتوح. فإذا أفلح مثقف كمحمد ملص، بألف حيلة وحيلة، في منحنا مرآة نرى فيها وجوهنا القبيحة، حقدنا عليه ونهشنا لحمه.
ردود الفعل من جمهور حلب الذي شاهد فيلم محمد ملص أخيراً، في عرض خاص، عكست هذا الفزع، وبلغ الأمر بأحد الأطباء حد القول إنه شعر بالمهانة، مدفوعاً باعتزاز حلبي. في المناسبة، “باب المقام” هو أحد أبواب حلب القديمة، وهو اسم الحي الذي ينغلق دونه الباب. نعم، فالأبواب في حلب، وفي غيرها من مدننا، لا تنفتح على الرحابة والتنوع والتشابك والتفاعل الإيجابي مع العالم ومع أنفسنا، بل تنغلق على ظلامنا وظلاميتنا التي نسميها باعتزاز “خصوصيتنا”. فإذا اقتحم أحد علينا الباب، أعمانا الضوء فلعنّاه.
كثرة المرايا في مشاهد الفيلم، وخصوصاً في بيت البطلة إيمان، تشير إلى الوظيفة “المرآتية” للفيلم إذا جاز التعبير، في حين أن لا مبرر لوجودها، على تلك الكثرة، من وجهة نظر الديكور.
لماذا حلب؟
لأنها أتاحت للمخرج الجمع بين عناصر ربما يصعب الجمع بينها في مكان آخر (بيئة تقليدية منغلقة، مهرّبو دخان، حب الطرب عند أهل حلب، الشبان ذوو اللحى، حب الطعام، تظاهرات المعارضة ضد الحرب على العراق في ربيع 2003). كان دور حلب في الفيلم وظيفياً فقط، أقرب إلى الديكور، في حين أن الفيلم أراد أن يحكي التردي الحاصل في الواقع السوري، وربما يمكن التعميم على الواقع العربي أيضاً.
يجمع الفيلم بين ثلاث نساء من ثلاثة أجيال مختلفة: الخوجة المغنية التي تمثل الماضي الجميل، واقعياً أكان جماله أم متخيلاً، إنه ماضي حب الحياة، الفرح، الغناء، الموسيقى، والتمدن. إيمان تمثل الحاضر الذي يحمل الحنين إلى ذلك الماضي، ويعمل على زرع بذور حب الحياة والبهجة في الجيل التالي، محاطة بكل أنواع القبح والانحطاط. الطفلة جمانة هي جيل المستقبل، تغني في أحد المشاهد المتأخرة “موجة ورا موجة”، توكيداً لقوة غريزة الحياة والتمرد التي لا تخمد جيلاً بعد جيل.
أعتقد أن الخلل الدرامي الذي لاحظه معظم مشاهدي الفيلم كان مقصوداً لصرف اهتمام المشاهد عن القصة السطحية للفيلم، الأمر الذي ربما لم يصل إلى جميع المشاهدين، فكثر الحديث في تعقيباتهم عن “جريمة شرف”.
معروف في منظومة قيمنا الاجتماعية التقليدية أن ما يسمى بجريمة الشرف يتعلق حصراً بالعلاقة العاطفية – الجنسية غير المؤطرة رسمياً، وكذا بالزيجات المختلطة عبر الطوائف وخصوصاً عند الدروز. في الفيلم لا نرى أياً من عناصر جريمة الشرف هذه، بل سلوكاً عند إيمان يراه عمها غير لائق. لا أحد يقتل امرأة لأنها تحب الغناء، وخصوصاً أنها متزوجة. أي أن زوجها هو في العرف السائد، المسؤول عن قبول سلوكها أو رفضه. الزوج في المناسبة نموذج لافت: إنه ينتمي إلى الماضي، بل يعيش في الماضي (الناصري)، على رغم شبابه الظاهر. يمزح في أحد المشاهد مطالباً بسماع نشرة أخبار قديمة، لأن الأخبار الجديدة تدفعه إلى الإحباط، في حين أن شخصيته تمثل الطيبة والمرح إلى حد الخفة. إنه الحاضر الذي يحيا في الماضي، لذا هو محروم من أي فاعلية إيجابية سوى الاستماع إلى الأخبار من جهاز الراديو في سيارة التاكسي التي يعمل عليها. تقتل زوجته التي يحبها ولا يظهر.
ظاهرياً يبدو هذا خللاً درامياً لا يغتفر، فضلاً عن افتقار الفيلم إلى أي تصاعد درامي متدرج وصولاً إلى العقاب قتلاً.
ولكن إذا أبعدنا عن أذهاننا فكرة جريمة الشرف والبيئة الحلبية، انجلت الغشاوة عن عيوننا لنرى فيلماً ذهنياً رفيعاً يستخدم المكان والشخصيات والحدث والحوار بوصفها عناصر مترابطة في بنية رمزية لكنها في غاية الشفافية: العم (سيادة العقيد) يكره الغناء والفرح بحكم وظيفته الرمزية، لا بحكم ضرورة درامية. وهو حاقد على ابن أخيه المعتقل لظنه أن “يباسة رأسه” (أي عناده) هي سبب إبعاده عن الجيش بدلاً من ترقيته في سلك الضباط. معروف أن المعتقلين السياسيين عندنا يتعرضون لمساومات مذلة تنتقص من كرامتهم الإنسانية مقابل إطلاق سراحهم، فإذا رفض المعتقل الشروط المذلة انتقمت منه السلطات الأمنية فاحتفظت به. وكثيراً ما يحدث أن يستاء ذوو المعتقل من “رفضه الخروج” ويصفون سلوكه بـ”يباسة الرأس” والحماقة.
هذه القراءة للفيلم هي التي يمكن أن تبرر مشاهد التظاهرات في حلب، ربيع عام 2003، التي نفذتها قوى معارضة احتجاجاً على الحرب الأميركية على العراق. وهي التي يمكن أن تبرر أيضاً الدعاية الانتخابية لمرشحي مجلس الشعب، قبل احتلال العراق بأيام قليلة.
كذلك ذو مغزى كبير اغتيال إيمان (الأغنية، الفرح، التمدن، حب الحياة) على يد شقيقها الأصولي بأوامر من العم “سيادة العقيد”، فالأول أداة تنفيذ وحسب، مع أنه “طالب جامعي” انعدم عنده الشعور الإنساني حدّ ذبح أخته بلا سبب، فقط طمعاً بإرضاء سيادة العقيد.
لماذا يضلل الفيلم المشاهد بين حبكة ظاهرة وفكرة أعمق تحتاج قراءة رمزية؟
لأن الواقع نفسه ذو مستويات متعددة، مخاتل، زئبقي، لا يمكن القبض عليه بسهولة. تعلو أصوات المكبّرات في الخطب الانتخابية عن “الوحدة الوطنية والأخوّة” في حين أن الأخ يقتل أخته بلا سبب مع أنه في إحداثياته طالب جامعي، أي أنه مثقف، ومتدين، أي من المفترض
أنه منحاز إلى القيم الإيجابية، أقلّها الحب الأخوي.
ينطوي المنهج الرمزي، من حيث المبدأ، على عيوب أهمها التنميط وضعف القدرة على الإقناع بالمعنى الدرامي، فضلاً عن أنه منهج متقادم استنفد أغراضه الأولى. بيد أن ملامسة المشكلات الحقيقية في سوريا، في السينما أو غيرها من الفنون، من غير الاصطدام برقابة مسيسة واعتباطية، أمر في منتهى الصعوبة، ضمن الشروط القائمة. هذا ما قد يبرر لمحمد ملص لجوءه إلى الترميز.
من جهة أخرى، ربما أثرت الموازنة المتواضعة للفيلم في سويته التقنية وضعف الأداء التمثيلي في بعض المشاهد، الأمر الذي سهّل على شاحذي السكاكين على الفيلم مهمتهم ¶
النهار