الحب في زمن الأنفلونزا
مسعود عكو
العنوان قريب إلى رواية للروائي الكولومبي الشهير غابريل غارسيا ماركيز، والقصة أشبه بما جرى في تلكم الرواية. الأحداث تختلف قليلاً، والبيئة أكثر اختلافاً، الزمن وقت ما قريب، والبطلان حبيبان من بلادنا. الحبيبة أبت أن يقبلها الحبيب من فمها بذريعة انتشار الأنفلونزا، ما دفع بالحبيب إلى هجرانها بحثاً عمن يقبلها دون خوفها من الإصابة بهذا المرض المعدي.
غريب هذا الزمان. الطيور تصاب بالزكام فتخلق أنفلونزا خاصة بها، سميت فيما بعد بأنفلونزا الطيور. ولم تكتف هذه الكائنات الوديعة بذلك، بل نقلت مرضها إلى بني البشر ما أدى إلى إصابة الآلاف به هنا وهناك. تصوروا أن الحمامة، والدوري، والسنونو، وحتى الكناري، باتت كائنات منبوذة في هذه الأيام. هذه الكائنات البسيطة والجميلة تحولت إلى وحوش يجب قتلها، يا له من زمن غريب.
كان لديّ طائر كناري، عذب الصوت وديع اللحن، يزغرد ويغني نهاراً وأحياناً في الليالي، ويزداد في الجكارة عندما استمع إلى موسيقى أو أغنية وارفع صوت الكومبيوتر، فأجد ذلك الكناري يشهق أقصى شهيق ويحوله كله إلى زقزقة تملأ الدار، لدرجة أنني كنت أتدخل أحياناً لإسكاته لكن لا مجال.
الكناري الذي أسميته “جوكو”، وهي كلمة كردية تعني العصفور، نجا من محاولتي اغتيال. ومحاولة اغتياله لم تكن بمفخخة زرعت على قارعة الطريق الواصل بين بغداد والموصل أو إحدى المدن العراقية، أو بين كابول ووزيرستان أو إحدى مدن أفغانستان، بل من قط حقير جداً، كان يتربص دائماً به، لدرجة أن مرور القط بجانب الكناري وهو في قفصه المعلق بالجدار، كان يجعله يرتجف خوفاً، ويرسل صوتاً أشبه بالنداء أن هناك خطراً ما في الجوار. كان خوفه كخوفي عندما أستدعى للتحقيق في أحد الفروع الأمنية الكثيرة في بلادي، بل الخوف بات يلحقني عندما أشاهد شرطي المرور بالرغم من أني لا أملك سيارة ولا أسعى لامتلاكها. إنها باهظة الثمن ومكلفة لدرويش مثلي. إنني ابحث عن دراجة هوائية من نوع بيجو كما نسميها هنا.
جوكو أو الكناري هوجم من القط الحقير الخائن العميل. في المرة الأولى جرح جناحه. كانت أظافر القط اللعينة طويلة، ولما سمعنا صوتاً أشبه بالنداء خرجنا جميعاً لنرى. ففر القط ونجا جوكو من الموت المحتم.
في المرة الثانية كان الجميع في غفلة عنه. الكناري كان على أهبة الاستعداد للنداء لأنه تدرب، وباتت له خبرة في ذلك، فناداني “وا مسعوداه!” لكني خيبت ظنه. كنت خارجاً، فتدخل والدي لينتشل القفص بما فيه من بين أنياب وأظافر ذلك القط الحقير. الصورة كانت أشبه بسياسي بين يدي محقق كالمساعد جميل الشخصية المشهورة في برنامج “حكم العدالة” والتي تواظب الإذاعة الوطنية السورية على بثها منذ عقود، الشخصية الوحيدة الحقيقية الموجودة في القضاء السوري، أما غير ذلك فكله تمثيل.
المهم قام والدي بتقديم الإسعافات الأولية لجوكو وجلب له عقاقير مضادة للالتهاب “الأنتيبيوتيك” حيث تعافى بعد شهر تقريباً. لكنه فقد صوته. وأرجع أحد الخبراء في عالم طيور الكناري والذي يعمل في شارع الحمام القديم بالقامشلي ككشاش حمام وبياع الفروج، إلا أنه أصيب باكتئاب نتيجة الهلع. معه حق جوكو، أنا أيضاً كنت اغني وأحكي ولكن الأن بعد موجة من الهلع ما عاد أحد يسمع صوتي حتى أنا نسيت رنته.
في أوج الأزمة العالمية حول مرض أنفلونزا الطيور لم نتبرأ من جوكو بل ظل عندنا معززاً مكرماً حتى وافته المنية بجلطة قلبية. يمكن أنه رأى أسراب الطيور والدجاج التي أعدمت نتيجة انتشار المرض أو حيطة وحذراً منه. لقد انزعجت على جوكو لدرجة أنني لم أحاول أن اجلب بديلاً له للدار، ما زال جوكو يغني في الجوار، وكأني اسمعه دائماً، لقد أحببت جوكو، ولم أخش من الأنفلونزا.
أما تلك الحيوانات التي حرم الله أكل لحمها في القرآن، نعم أقصد الخنازير، فقد بليت ببلاء ليس ببعيد عن بلوى الطيور، فبدأ الكون بملاحقة كل خنزير مصاب بالأنفلونزا والمباشرة بإعدامه. ذلك المسكين لم يشأ قط أن يصاب بالزكام، وأقول زكام لأن والدتي كانت تسألني دائماً ما معنى الأنفلونزا؟ فأجيبها أنها زكام. وهل تصاب الحيوانات بالزكام؟ قلت نعم يا أمي تصوري حتى الحيوانات تصاب بالزكام، ولا تكمن المصيبة هنا بل المصيبة تكمن في أنها تنتقل إلى البشر، والبعض منها مميت، كان هذا الكلام صعب الفهم على أمي البسيطة، التي لا تعرف أي كلمة بالعربية كونها كردية، لكني بكلمات بسيطة أفهمتها القصة.
الطيور والخنازير، والكثير من البشر هنا وهناك اشتركوا في زكام سيئ جداً لا تنفع معه كل عصائر الليمون والبرتقال وحتى الفلفل الأخضر الذي يقال بأن نسبة فيتامين سي فيه أكثر من كيلوغرام واحد من البرتقال. كل هذه لا تنفع، بل قتل الطيور والخنازير وإحراق جثثها قد يقي قليلاً من المرض وانتشاره بين أبناء البشرية على وجه هذه البسيطة.
لقد افسد الإنسان كل شيء، تلك الطيور الوديعة الجميلة وحتى ذلك الخنزيز المنبوذ من بين كل الحيوانات، والمتهم بأنه حيوان بلا نخوة. لقد باتت هذه الكائنات ضحية جشع البشرية وطمع أبنائها، وليس ببعيد أن تكون هكذا أمراض نتيجة تجارب بشرية على هذه الحيوانات، فانتقلت وتطورت إلى شكل أخر من الزكام. لقد افسد البشر الغابات والبحار والأنهار، كل شيء، الطيور والفراشات والحيوانات، والأسماك، ولعل يوماً ما سيظهر مرض اكتئاب الغنم، وحمى الفراش، وربما إسهال البطريق، وجدري الزيتون أو سرطان الرمان والتفاح، أو ربما قرحة الأسماك، من يعرف.. إن أبناء آدم يعيثون فساداً في الأرض، هم أحرار فيما بينهم، لكن رجاءً دعوا الكناري والفراش والسمك والبطريق والتفاح والرمان وحدها، إنها بريئة جداً فلا تفسدوها بفسادكم.
دعوا الكائنات تحب بعضها بعضاً، ابعدوا أيديكم عن الكناري والهدهد لعله يجلب لنا خبراً طيباً يوماً ما، وافشوا المحبة بينكم، يا معشر الرجال قبلوا نساءكم ولا تخشوا من الأنفلونزا وعدواها، إن الحب يشفي الكثير من الأمراض، فقط اخرجوا الغل من قلوبكم واصفوا نفوسكم تجاه بعضكم بعضاً، وقولوا للآخرين قولاً كريماً، حينها سيتحول الحب في زمن الأنفلونزا إلى أعظم أشكال الحب، ستكتب عنه القصص والروايات، وتأخذ هذه القصص والروايات جوائز عالمية، وستنال استحسان قرائها، كما الحب في زمن الكوليرا.
المستقبل