لا صراعَ مع الجثة: خلاصة حول “ب. ب. ب”
علي جازو
الغضب الذي يشيع فيه لون الحب، الحب الذي يشيع فيه لون النسيان.
“لويس ثرنودا”
لا يهادن الغضب وعيَه اليائس، ولا تكبح الحمى سوى ترددِها الطويل. ليس يخاطِب الشاعر عباس بيضون آذاناً ساهية. إذا كان من صوتٍ داخلي فهو في حيوية الحافز الدفين ولوعة الروح المنددة. لا يصدر الشعر، كما ألفناه في المدارس عن براءة محلقة أو رغبة مطلَقة. إنه شهادة واخزة، اقتراب حاد وانفعال مسائل، هنا، التقاط آني، وانحراف عن مدى صوتي متعالٍ، فنأي عكسَ حماسةٍ قبية موهنة. يتحرر الشعر داخل انعكاساتٍ منبثقةٍ عن سياج بصري مرافقٍ جسدَ الشاعر، والمعنى المنادَى من لدن الأخير ليس سوى تعبيرٍ مختنقٍ يتزاحم عليه لسان مجاهرةٍ دؤوبة في وجه عَلَنِ الطبيعة الأخرس. صوت كأنه منبعث من تحت ركام سحيق ضد ما هو ماثل فيه، تقطيع من فِعل خَدش العبارة بنفسها المطمئنة. ما يشغل عباس بيضون هو السير لا القفز. ذاته تمضي ولا تحلق، تتقدم أقل مما تصطدم، وتنحني أكثر مما تستقيم. لذلك هو يفكر في ما يحيط ويثقل ويعيق. لا يحجزه في استبعاد رمزي موحد ولا يسرحه إلى مصاف أغنية جوالة. لا جَناح للشعر هنا، بل أقدام جادة وخطوات حثيثة وعثرات لا تنتهي. قصيدة عباس بيضون عصية على التصنيف، فقد حازت تمنعَ مسافةٍ ذاتية، وإطفاءَ نهمٍ لغوي. مسافة ـ اختلاط صارخ كما لو في أرض شبحية متنازَعة بين وعي نقي وحواس مستوحشة. قصيدة مبسوطة العرض، تجربة وسير في الأفق المعروض بلا حماية. قصيدة تشتت قارئها في الأفق الضيّق لمنبتها السهل. أفقية، أي متناوَلَة من قرب الأرض المستوية والوعرة، ومن الخطوات التي تجهَد مثل عينٍ تظل مغبشة من العرَق الذي تبثه الخطوات في الصدغين. بهذا المعنى فهي ابنة الجسد. لا ترهلَ في العبارات ولا تفخيم. لا يصدر المعنى عن عاطفة هوائية مستحوذة ولا يبنى فوق أسبقيات شكلية معتمة. ما يقبض العينَ يعود على الذهن بالصوَر، وما تقوله الصوَر يأخذه اللسان على محمل الجد. اللسان يفكر عبر الصور، والمعاني أصوات الكلمات التي عانتِ الصور وجرحَت بها. الشعر أيضاً انصراف نهائي عن الكلمة المجردة ذات الصواتية السائلة الى الصورة التي تشق حياة بازغة في الكلمة ذاتها. لكنها أيضاً ليست قصيدةَ رصانةٍ متحجرة في الذهن. فيها تسلية خفيفة قدر ما فيها من عناء مرصوص. ولأنها تتناءى عن التجمد والتمركز، تتقدم وحيدة كما لو أنها بلا صحبة وبلا وجهة. نعثر في أكثر من مكان على ربوٍ ميكانيكي فتكون العبارة الثانية مشتقة من كسرِ العبارة الأولى. جمَل تؤول الصورَ، بعد تثبيتها، وأخرى تتركها في خلاء ظهورها ورقة حضورها الخام. القصيدة حوار بين الصور ومعانيها المغلقة. قد يستغرب قولنا إنه شعر أقرب إلى روح روايات دوستويفسكي التي اشتق ميخائيل باختين الحواريةَ ـ تعددَ الأصوات ـ منها كسمةٍ أساسية. الصور علامات أشبه بعينات تتكئ عليها أفكار الشاعر المستخلصة منها والمحاوِرة لها كما لو أن العلاماتِ ـ البقَعَ هي التي تدفعه إلى ترجمتها وتأويلها. تطلَق العبارة من مشهد مفاجئ وتحديد مكاني أشبه بكادر السينما، ثم تتركز كما لو أنها تتصلب في الصخر الذي تفتح فمها بداخله. الصلابة نبع أمام هشاشةٍ هي الأفق. لا وعدَ ينجَز، فالتأخر مستمِر مثله مثل بقاءٍ بلا طائل. بقاء يصِم المعرفةَ باليأس والرقةَ بالعزلة والجدار ولأنها منهَكة بالعجز عن التحقق والاكتمال، تنهل أفكارَها من بذرة قلقها الأسود. ةَ بالبؤس. اليأس والعزلة والبؤس مراكز مشعة حيث ما لا يرجى يدوم وما لا يَشفى يتقدم وما يمكث في العزلة ينمو بها وما بدا مكتهلاً ينضر وما يعضه البؤس يصرخ ويحدق في المدى المخضوض الذي يعود عليه بجدارة عمل الشاعر. اللغة فضاء قاتم والقصيدة مدى مرئي مجهول وكلمة الشاعر خسارته الكاملة حينما “لن يعود هناك صراع مع الله على الجثة “. لكننا نشعر ببطء ما إزاء قصيدته في العموم. بطء يشبه ثقلَ الحمل ودوار المراوحة المرتخية وخشونة التأثر الجاف أمام جمل محتشدة تكاد لا تعرف الكلَلَ أبداً. قصيدة بيضون ـ كذلك ـ أثر من آثار المحو، إذ هي غارقة في التخلص من كل انسجام وتنميق
وذلك بحيويتها النبضية وإرجاعها المستدير وجملها الارتدادية كما لو أنها صوت يصاعد من قاع بئر أو نداء بين جبلين لفهما مساء حنين بارد. تتميز العبارة بما يجعلها مفرَزَة ونابضة من حركة تشنجٍ مديدةٍ ومؤلمة، لكنها تضعف في انقلابها على قسوة بذرتها، فتتراخى عن صلابتها، لتنأى بعد حين عن الإشارة الكاملة والحاسمة إلى ثراء رجلٍ عميق الثقافة. تتفرع القصيدة وتهبط صوب امتلاءٍ شاق ومرغوب. والمعنى لا يحدد عائماً على هدي البلاغة. إنه يقرَأ بامتدادٍ متعرج يسمح لأكثر من ضوءٍ أن يتلألأ عليه. امتداد ـ امتلاء يتحمل بدرايةٍ كالأنين أكثرَ المعاني انفعالاً وقرباً صامتاً والتباساً حيث لا يمكن فصل العاطفة عن شأن كل يوم ولا تمييز الكلمات عن كدمات المكان. تتحول الكلمات ذاتها إلى محل للإقامة المرضوضة. إقامة يتعطل ويتخمر فيها المجاز حيث تتسرب الاستعارات وتشقى ملتهبة كما لو أنها جردَت من كل حماية وأبيحَت لكل تأثر. القصيدة لا تتَوقع لأنها لا تَتَنبأ ولا تسابق مكانها. ما يمسكها هو ما يدر بناءها المستقل، وما يدنيها كونها في طورِ انبثاقٍ متلاحِقٍ. لا يجاري عباس بيضون ولا يهادن مشاهدَ العين المجردة قدر ما يدخل ويتفحص مكامنَ إحساسها المتواري. إنه من القلائل الذين يكتبون كما لو أنهم محاصرون بحمى لن يكون البَراء منها شفاء لأحد. يختار الشاعر شيئاً من الواقع قبل انمحائه، أو إثرَه، وهو بهذا الانتقاء، كما قال ألبير كامو مرة، يمثل ثورة ضد قوى الواقع بادعائها الانسجام والتناغم؛ فالحقائق تحرق العقلَ، لكن شعر بيضون لم يخرج من رماد الحقائق. حقيقة الشعر تخيله قادراً على الصمود في درب الحقيقة التي لا تعرف غير النزف والانمحاء. ثمة بروز عيني مصاحب ومراقِب (لانحلال التناغم واصطدامه بالشروخ والتمزقات) عبر كبتٍ واعٍ إن لم يكن رفضاً لتمديد التناغم الشعري ولجمِ فيضه العبيط على النثر. قراءة الشعر أجمل من التعليق عليه. هو ذا شاعر يكرر الخلاءَ الذي يسبق كل عملٍ. إنه مسار التوسط العصي بين اكتمال القول المشذب ورفعه من طواعية النقل إلى النحت الملموس. إنه التحول الخشن من الصورة الخرساء إلى الكلمة الوعرة، من حرية الصورة في العثور على كلمتها الأقوى والأكثر صلابة في وجه الزمن الذي يمحو الكلمات بالصور. كل شيء تيار يتدفق عبر كل شيء. الكلمة هي المجرى الأعمق والأكثر صعوبة. الزمن صورة متلاحقة، والصورة جسد ينظر في عين شاعر سائر. القصيدة سَير مزدوج بصحبةٍ تتشرب ما يلتهب ولا يتكلم. القصيدة جوع سارٍ، وعي صب ، نقد يلذ ويفكر ضمن إنجاب الجسد الذي ليس صورة ولا كلمة قدر ما هو مكان، هاوية، أمومة انفعالٍ يتكلم عبر الصور. الجسد القصيدة أم مجهولة لكل سائح وحيد، وفم داكن لكل شكوى يتيمة. القصيدة لطف غاضب ضد نسيان غاضب.
المستقبل