ألوان أمريكا
صبحي حديدي
كانت المفارقة فاضحة وصريحة: البروفيسور هنري لويس غيتس ـ أحد أبرز الأكاديميين الأمريكيين، إذا لم يكن الأبرز اليوم، في ميدان النقد الثقافي وعلاقات البيض والسود؛ والناقد والمنظّر الأدبي اللامع، ورئيس ‘معهد و. إ. ب. دو بويس للبحوث الأفريقية والأفرو ـ أمريكية’ في جامعة هارفارد العريقة ـ يتذوّق طعم التمييز العنصري في واحد من أبشع مظاهره، أي التصنيف العرقي، ليس لأيّ ‘ذنب’ آخر سوى أنه أسود البشرة. هل هذه حقاً أمريكا باراك أوباما، تكاد أن تصرخ الصورة الفوتوغرافية المفزعة التي التقطها أحد جيرانه، وتناقلتها وكالات الأنباء والفضائيات ومواقع الإنترنت داخل الولايات المتحدة وخارجها: البروفيسور أمام باب منزله في كيمبرج، ماساشوستس، محاطاً بعناصر الشرطة، مقيّداً بالأصفاد، وكأنه مجرم خطير يقع أخيراً في قبضة العدالة، بعد مطاردة محمومة.
الحكاية بدأت، قبل أيام، حين عاد البروفيسور من رحلة إلى الصين، استكمل خلالها تصوير بعض مشاهد شريط وثائقي جديد في سلسلة يعدّها لفضائية PBS، حول جذور أمريكا الثقافية والإثنية، بوصفها أمّة هجرات بامتياز. وقد حاول فتح باب بيته، لكن القفل استعصى عليه، فدخل من الباب الخلفي وحاول فتح الباب من الداخل بمساعدة سائقه الشخصي، الأسود بدوره. في هذه الأثناء كانت سيّدة (بيضاء، للإيضاح الضروري) تراقب ما يجري، فارتابت في أنّ المشهد عملية سطو، فاتصلت بالشرطة، التي حضرت على الفور. وقد لاحظ البروفيسور وجود شرطي على عتبة بيته، ففتح الباب وسأله: ‘هل أستطيع خدمتك؟’، فردّ الرقيب جيمس كراولي (الأبيض، للإيضاح الضروري أيضاً) انه هنا بسبب بلاغ عن محاولة اقتحام وكسر باب، فردّ البروفيسور: هذا أمر مضحك، إنه بيتي وأنا أستاذ في جامعة هارفارد. وهنا طلب كراولي من غيتس أن يخرج إلى العتبة، لكنّ نبرة كلامه جعلت غيتس يتردد، ثم يقرّر عدم الخروج من داره (سوف يخبره المحامي، بعدئذ، أنّ تلك الخطوة كانت حاسمة، لأنه لو خرج فإنّ توقيفه كان سيرتدي صفة أخرى أكثر خطورة).
الشرطي سأل: هل تستطيع تبرير وجودك في هذا البيت؟ فاستجاب البروفيسور وأبرز بطاقة عمله في الجامعة ورخصة قيادة السيارة، وكلاهما تحمل صورته الشخصية وعنوان إقامته في هذا البيت. في المقابل، طلب غيتس من كراولي أن يعلن عن اسمه ويبرز شارته المهنية، لكنّ الأخير لم يردّ عليه، وكان طبيعياً أن تصدر عن البروفيسور ردّة فعل غاضبة، فيقول: هل ترفض هذا لأنني أسود؟ تتمة الحكاية أنّ غيتس وقع في الخطأ الذي تفاداه في البدء، فغادر باب الدار، وفوجىء بالشرطي يقيّده بالأصفاد ويقول: أنت قيد التوقيف، بتهمة السلوك غير اللائق! بعد أربع ساعات في المخفر، وبعد أن تمّت كامل إجراءات أخذ بصمات البروفيسور وتصويره (الفيش والتشبيه، في العبارة الشائعة)، كان أصدقاء البروفيسور من الأكاديميين وكبار المحامين قد وصلوا، وأخذت الحكاية تنتشر في الفضائيات، فأسقطت الشرطة التهمة عن غيتس، وتمّ إخلاء سبيله.
وبالنظر إلى شهرة غيتس، ولكن أيضاً في ضوء مناخات ما بعد انتخاب أوّل رئيس أمريكي أسود، اتخذت الواقعة بُعداً واسعاً يصبّ مباشرة في النقاش العتيق، المتجدد أبداً، حول مسائل التصنيف العرقي، خصوصاً بعد أن تدخّل فيها أوباما نفسه (وثمة صداقة تجمعه مع البروفيسور غيتس)، فاعتبر أنّ شرطة كيمبرج ‘تصرّفت بغباء’. ولسوف يندم الرئيس الأمريكي على هذا التصريح، ويعلن أنه كان عليه أن ‘يضبط’ أقواله أكثر، وأنه اتصل بالرقيب كراولي والبروفيسور غيتس، ودعاهما إلى كوب من البيرة في البيت الأبيض، لتسوية الأمر.
البروفيسور، الذي أعلن أنه ذرف الدموع لحظة انتخاب أوباما، طالب الرقيب بتقديم اعتذار؛ أمّا الأخير، الذي تفاخر أمام العدسات بأنه لم ينتخب أوباما، فقد أعلن أنه لن يقدّم أيّ اعتذار، لأنه لم يرتكب أيّ خطأ!
والمرء يتذكّر حكاية ذات صلة، وقعـــت مطــــلع العام 2007، وكان بطلها الأوّل ـ للمفــــارقة، هنا أيضاً ـ هو جـــو بايدن (المرشّح للرئاسة، ونائب الرئيس اليوم)؛ وبطـــلها الثـــاني بــاراك أوباما (المرشح بدوره، والرئيس الراهن). قال بايدن إنّ أوباما: ‘أوّل أفرو ـ أمريكي من التيّار السائد، جيّد النطق وبرّاق ونظيف وحسن المحيّا’. ولأنه لم يكن يتحدّث سرّاً في مجلس خاصّ، بل علانية مع مراسل صحيفة الـ ‘نيويورك أوبزرفر’، الذي سجّل الكلام بالصوت أيضاً، فقد اضطرّ بايدن إلى إبداء ‘الندم’ على كلام لا يمكن أن يُفهم إلا ضمن مدلولات عنصرية صرفة.
وإذا كانت تلك الصفات قد أثارت حفيظة السود، خصوصاً كبار بُلَغائهم أو مرشحيهم للرئاسة من أمثال جيسي جاكسون وشيرلي كيشلوم وكارول موزلي براون وآل شاربتون (وهذا الأخير أبلغ بايدن أنه يستحمّ كلّ يوم!)، فإنّ نعت أوباما بالـ ‘برّاق’ أثار الكثير من التكهنات. فما الذي قصده بايدن بالصفة تلك، خصوصاً وأنه استخدم مفردة Bright وليس Brilliant التي كانت ستُفهم بمعناها الشائع والإيجابي والمألوف، أي الـ ‘لامع’؟ هل كان المقصود الإيحاء بأنّ أوباما برّاق البشرة؟ أم برّاق اللسان؟ أم برّاق الهندام؟ ثمّ، ألا تُفهم صفة الـ ‘نظيف’ بالمعنى الحرفي للكلمة، أي كما قصد شاربتون حين أقسم أنه يستحمّ كلّ يوم؟
وفي سياقات البريق واللمعان والألوان هذه، هل سيختار أوباما بيرة شقراء تناسب ضيفه الرقيب، أم بيرة سوداء تناسب ضيفه البروفيسور؟
خاص – صفحات سورية –