جدلية صلاح حزيّن
صبحي حديدي
رحل الصديق الناقد والمترجم والباحث الفلسطيني اللامع صلاح حزيّن (1946 ـ 2009)، يوم الأوّل من آب (أغسطس) الجاري، بعد أن صارع سرطان المعدة طيلة سنوات، تكشفت عن المزيد ـ الرفيع والنبيل والشجاع ـ ممّا كان يُعرف عنه من طاقة مذهلة على تثمين الحياة،وإدمان المقاومة، واستنبات الأمل. وبمعزل عن مأساته الشخصية مع ابنه غسان حزيّن (الموهبة الإعلامية التي كانت واعدة بامتياز، صاحب البرنامج المميّز في إذاعة ‘عمّان نت’، والمساهمات الجسورة حول أنساق الثقافة الشعبية في الصحف الأردنية والعربية، والذي توقف عطاؤه بعد حادث سير وقع صيف 2006، جعله في غيبوبة مستديمة منذئذ)؛ كانت عقود حياة صلاح بمثابة صراع مفتوح من أجل طراز من البقاء لا تغيب عنه سجايا النظافة، واللقمة الشريفة، والحسّ النقدي، والتحرّر من غريزة القطيع، والتمسك بالعقل الجدلي الذي يُحسن تمييز الخاصّ عن العامّ وكيف ومتى يتوجب الفصل أو الوصل بينهما.
لكنّ رحيل صلاح ردّني إلى سنوات صداقتنا الأبكر، في دمشق 1971، حين جمعنا همّ فكري وسياسي وثقافي واحد، أو شديد القرب، وتلاقت أمزجتنا العاصية المتمرّدة ـ إذا جاز لي أن أضيف، بكلّ التواضع ـ في شؤون لم يكن الإنشقاق فيها أو عليها أمراً ميسوراً، إذْ كانت أقرب إلى المحرّمات الكبرى. وأذكر أنني، ذات نقاش مع رهط من الأصدقاء حول علم الجمال الماركسي ومفهوم الواقعية الإشتراكية، أبديت تحفظي على المصطلح الأخير، ويقيني بأنّ الماركسية المعاصرة لم تفلح في تقديم نظرية ذات حدّ أدنى من التكامل في علم الجمال. ولقد صعقني ـ بالمعنى الإيجابي للمفردة ـ أنّ الراحل لم يوافقني في هذا فحسب، بل كسر ‘الممنوع’ وأعلن أنّ معظم الأدب السوفييتي رديء، وأنّ أعمال مكسيم غوركي لا ترقى إلى عظمة نيكولاي غوغول أو فيودور دستويفسكي!
وفي أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات كانت جامعة دمشق تحتشد بعدد كبير من الطلاب العرب، وكانت الحقبة صاخبة تعتمل فيها سجالات عارمة حول ملفات شتى في السياسة والفكر والثقافة، ترتدي طابعاً نوعياً مميزاً في صفوف الأحزاب والقوى والتيارات الماركسية واليسارية. كذلك كان عدد من الأحزاب الشيوعية العربية يشهد سلسلة انشقاقات داخلية، حول قضايا مثل فلسطين والوحدة العربية وطريق التطور اللارأسمالي والعلاقة مع الناصرية والبعث و’الأنظمة التقدمية’ العربية، كما كانت تُسمّى في حينه؛ فضلاً عن إشكالية التضامن الأممي بالقياس إلى القضايا الوطنية، والتحالف مع، أو الإستقلال عن، الحزب الشيوعي السوفييتي وائتلاف الـ ‘كومنترن’ بصفة إجمالية.
في قلب هذا الخضم، كان للأشقاء الفلسطينيين موقعهم المتميز تماماً، ليس بسبب انخراطهم الفاعل في نقاش هذه الملفات فحسب، بل لأنّ السجالات العاصفة التي كانت تدور داخل صفوف المقاومة الفلسطينية ذاتها (بين يمين ويسار ووسط، ضمن ما كانت تلك الأيام تتوافق عليه في تعريف مصطلحات كهذه) شكّلت جزءاً لا يتجزأ من مناخ الحراك العامّ. وللمرء أن يتخيّل سخونة ذلك السجال إذا تذكّر أنّ ذروة ‘الخيانة’ تمثلت آنذاك في موافقة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين على فكرة الدولة الفلسطينية، وكان الهتاف الشهير ‘لا للدولة! لا للدولة!’ يختلط عند البعض بالهتاف ضدّ نايف حواتمة شخصياً، في اجتماعات حاشدة كانت جامعة دمشق تشهدها تحت ستار أمسية شعرية، أو رحلة جامعية إلى ربوع الزبداني، أو لقاء سياسي شبه سرّي في ظاهر مخيّم اليرموك.
وذات مساء أقيمت في مدرّج كلية الهندسة الشهير أمسية للشاعر العراقي مظفر النواب، ألقى فيها عدداً من قصائده، كانت بينها واحدة في رثاء المقاتل الفلسطيني ‘أبو مشهور’، جاء فيها: ‘أدين بموتك/ كثرة ما تُحشى بالتبن فقاعات الصابون/ فتصبح أسماء كبرى/ أدين بموتك أنّ الثورة تقطع أرضاً لتسمى تلك الأرض فلسطين/ بديلاً عمّن مُتَّ لها والناس يموتون لها/ ليست تلك فلسطين أبا مشهور ولكن/ تلك خيانات كبرى/ وأطالب فوراً بالإعدام/ مَن كان مع الدولة فليرفع ياقته/ مَنْ كان مع الثورة فليرفع كفّيه/ أكفّ الثورة أعلام’. في تلك الأمسية تعرّفت على صلاح، ونشأ بيننا ودّ تلقائي حين اتفقنا في الرأي حول قصيدة النواب، وكانت تلك فاتحة صداقة ترسخت طيلة سنوات الدراسة، ثمّ تقطّعت بها السبل حين غادر سورية بعد التخرّج، وهاجر إلى الكويت، وعاد ليستقرّ في العاصمة الأردنية، فصارت لقاءاتنا تنتظم في عمّان كلما زرتها.
ولست أنسى مقدار بهجتي الشخصية حين بلغني أنّ نوح (صلاح) حزين نقل إلى العربية رواية جوزيف كونراد الأشهر ‘قلب الظلام’، وبعدها رواية هوراس ماكوي ‘إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك’، وصدرتا عن دار ابن رشد سنة 1983. في ما بعد، سوف يكتب صديقي في الفلسفة والفنون والسياسة والاقتصاد، وسيواصل أنشطة فكرية وإعلامية مختلفة، وسيتخذ المزيد من المواقف ضمن السيرورة الجدلية ذاتها التي استأثرت بسلوكه منذ أن استقرّ وعيه الثاقب على تلك الثنائية المتلازمة: النظافة والشجاعة. لكنه لم يفِ بوعده لي، حين عانقني تلك الليلة أمام فندق ‘القدس’ في عمّان. قلت: هل تعدني يا صلاح أننا سنقهر السرطان؟ قهقه عالياً وهو يشدّ على يدي: فشر السرطان يا شيخ!
الأرجح أنه كان يعني ما يقول، عاشق الحياة الكبير ذاك.
خاص – صفحات سورية –