بيتـي الصغيـر الـذي فـي كنـدا… بيـت بيـوت
جاكلين سلام
«بيتي صغير بكندا» تغني فيروز لي هذه الأغنية وأنا أمام الكمبيوتر أكتب وأنثر في المدى أوراقاً. أخرجُ إلى الشرفة، أنظر إلى العالم. السماء رمادية، المشهد قاحل في هذا الوقت من السنة. فضلات الحمام على حافة الشرفة التي لم أخرج إليها إلا مرات معدودة طوال الشتاء. أنظر إلى أصيص الزريعة أجده مقلوباً. أعرف أن السنجاب قد أتى ثانية ليطمر حبات الفستق في الأصيص. البناية الشاهقة المقابلة تكسر أفقي كلما حدقت في البعيد. لا أحب هذه العمارة، قلت لصديق على الهاتف، فأجاب بجدية: سأشتري لك قصراً فخماً يليق بالقصيدة حين أربح بطاقة اليانصيب. بيتي الذي كان هناك يتأرجح فوق خيط الذاكرة. صوت فيروز يعبئ صباحات هذه البلاد وإلى آخر مدينة صغيرة في وطني الذي اسمه سوريا. صوت فيروز كان يرافقنا ونحن نعلق الحقائب على أكتافنا ونقبّل الصباح ذهاباً إلى المدرسة التي تقع قريباً من بيتنا ـ بيت أبي الذي هناك.
[
مذ كنّا صغاراً كانت لعبتي المسلية «بيت بيوت» كنا نرصف حجارة صغيرة لنصنع بيتاً بحجرات متعددة ونترك مسافات للباب والشباك. كنا نخترع أصحاب البيت والضيوف على شكل دمى، وافتراضياً نقدم لهم فناجين القهوة والشاي، العنب والزبيب. كرماء كنا ونصرّ على الضيوف أن يشربوا ويأكلوا ويناموا في بيوتنا الافتراضية. في نهاية اللعبة كنا نتخاصم ونخرّب البيت الذي عمرناه، نكسر الصحون على رأس الضيوف، ونذهب لنشتكي لأمهاتنا. بعد ساعات قليلة نعود إلى اللعب من جديد، نبني بيوتاً جديدة من الحجارة ذاتها. هنا في بيتي الذي في كندا صحون كثيرة وملاعق ومقاعد… وهنا قلما يأتي المعارف و الأصدقاء إلى البيت، لقد جعلنا من المقهى مكاناً للتعارف واللقاء. وما يزال الحنين يمسك بيدي ويجعلني أطلب رقم هاتف صديقة في حلب كانت تلعب معي هناك «بيت بيوت» نتحدث عن أحوال بيوتنا وقلوبنا فيما الشمس تشرق على بيتها في سوريا، وفيما الليل يغمر جدران بيتي في تورنتو.
كم بيتاً يعمّر المسافة ما بين ديريك أقصى الشمال السوري، وتورنتو الشمال القطبي؟
[
في البيت الذي أسكنه اليوم يقيم معي حجر سوري صقيل تلتصق به عشبة بحرية. التقطت الحجر عن شواطئ اللاذقية حين كنت في زيارة إلى البيت – الوطن. البيت في الإنكليزية هو الوطن، الوطن في العربية ليس بيتاً. أحياناً يصعب أن يكون البيت بيتاً، البيت غربة والأفراد غرباء. يقول صديقي الذي يسكن في مدينة أخرى: لن يصبح المكان وطناً إلا إذا أصبح لك فيه قبور وموتى. صديقي هاجر إلى البيت في رحلة عكسية قبل أن تصبح كندا وطنه. هو الذي كان بلا وطن ولا هوية في بلده الأول. كان قدره أن يكون كويتياً من جماعة الـ«بدون» بيت. في هذا البيت أقيم مع أشياء ثمينة قليلة معدودة، منها وشاح أمي الكحلي الذي أخذته منها قبل السفر. لم ألبسه إطلاقاً. تقيم معي ياسمينة وحيدة محفوظة في دفتر الهاتف محصورة مع عنقها الصغير الناعم تحت الغلاف البلاستيكي للدفتر. ومن الماضي أيضاً ما زلت أحتفظ بحمّالة مفاتيح على شكل مبخرة عمرها أكثر من ربع قرن، أعدتُ تصليحها واستعمالها من جديد بعد أن تقطّعت سلاسلها الفضية الناعمة. نظر إليها ابني سلام وقال «ياااه، أتذكر هذه «العلاّقة» كنت ألعب بها وأنا صغير». فأجبت: نعم، إنها قديمة جداً. إنها هدية تذكارية من أول شاب أحببته في مراهقتي. ثم أقول لنفسي: كان الشاب يغني دوماً «كل دا كان ليه – لمّا شفت عينيه» لمحمد عبد الوهاب. نسيت الأغنية وأشياء وذكريات كثيرة من الماضي. بعد الهجرة لم أعد أدندن في البيت. احتلني صمت، هجرتني الأغنية. اليوم، تفصلني عن البيت والأغنية سنوات ومحيطات. يرنّ جرس الهاتف، يأتيني صوت آخر يدندن عبر الهاتف مقاطع من «كل دا كان ليه». أنصتُ وأبحث عما جعل الغناء يهرب من شفتي.
[
أفتح باب الشقة بصمت. تقع عيني على مفتاح معلق في سلسلة ويتدلى من مسمار في الجدار. إنه مفتاح بيتي الذي هناك. أضع المفاتيح على الطاولة في حضن قوقعة على شكل صحن. أتأكد من أنني أغلقت باب بيتي الذي لا ينتظرني فيه أحد، ولا أنتظر أحداً سوى القصيدة أو ما ينتمي إلى عالمها. أقول : ياااه، لقد وصلت أخيراً إلى البيت. كم تألمت حتى تعلمتُ أن أحبّ هذا البيت. لم تعد الجدران خصماً، لم تعد ثقيلة كما كانت سابقاً. بين هذه الجدران ولدت قصائد صارت كتباً، تكوّرت عناقيد أفكار ومقالات وحياة زاخرة بكل شيء.
أخلع حذائي المثقل بالغربة والشتاء، أعلّق المعطف في الخزانة المجاورة لباب الخرود وأضع في جيبه القفازات. أبدأ بتفقد الرسائل الصوتية الهاتفية. أتفقد البريد الالكتروني. كأنني أغادر البيت افتراضياً. كأنني فيه ولست.
[
في طفولتنا كنا نرسم البيوت على دفتر الرسم بسهولة وتلقائية. لم يكن أي مشهد طبيعي يخلو من صورة بيت. إنه هناك في زاوية المشهد أو منتصفه. ودائماً هناك طريق إليه، درب متعرج كنهر، وعلى الضفة الأخرى من المشهد نهر يضفي على البيت ربيعاً. كنا مغرمين برسم الربيع، وكم تأخر الربيع. حين كبرنا، بقيت تلك البيوت مرسومة في ذاكرتنا، حين أردنا أن نعمدها بالحبر ونمنحها وجوداً آخر منفصلاً عن بيت الذاكرة، اختلط علينا دفتر الرسم بدفتر التاريخ والجغرافية وأشجان الذاكرة والنفس. هذه البيوت ما أن نفتح أبواب الروح عليها، حتى تستيقظ بين أصابعنا الفراشات المنسية، آثار الشتات، ذاكرة الحبّ الأول، إشراقات الروح وعذاباتها. الكتابة عن البيت تأخذني إلى رحم العلاقة بيننا وبين أشيائنا وأسفارنا. هناك بيوت لا يمكننا الخروج منها، ولا العودة. هناك بيوت يوجعنا الحنين إليها، هناك بيوت تقيم فينا حتى بعد سقوطها إثر حرب أو تحديث عمراني. في طفولتي كانت تحيط بي الأشجار التي تقف بين سطور قصائدي المكتوبة في بيت إسمنتي يفتقد الأشجار وظلالها. حاولت أكثر من مرة أن أزيّن أركان بيتي بأشجار وخضار. مرّة اشتريت ثلاث شجرات لتعيش معي داخل البيوت. كنت سعيدة بهذه الرفقة. أطلقت على شجيراتي أسماء مبتهجة. التقطت للأشجار صوراَ أرسلتها لأصدقائي هنا وهناك. يا لحزني، ماتت في فترة قصيرة شجرتان، وبقيت واحدة معي حتى الآن. أتعجب كم كانت يد أمي خضراء. حين زرعت في ركن بيتنا هناك شتلة صغيرة جداً أهديتها لها حين ذهبت إلى مدينة حلب للدراسة الجامعية. صارت الشتلة شجرة عمرها أكثر من ربع قرن وما تزال خضراء وتصعد إلى الأعلى. أمي أطلقت عليها «جاكي» وما تزال تحكي لجاراتها اللواتي يطلبن غصناً من هذه الشجرة، وتقصّ عليهن تاريخ هذه الشتلة وأسباب وجودها. الشجرة تعيش معي في ألبوم الصور، ولي في ظلها صورة فوتوغرافية التقطتها لي أمي. أخي يعرف مدى علاقتي بتلك الشجرة. منذ عدة سنوات، وجد شتلة من الفصيلة نفسها، فأرسلها لي بالبريد من السويد، حين يقيم، كانت الشتلة صغيرة مغروسة في تراب قليل، لم تقو على السفر الطويل. ماتت في فترة قصيرة.
[
الذاكرة تشتبك بخيوطها الداخلية، متمسكة بذلك الرحم وتلك الرائحة وذلك الوجود الأول الذي لا يفارق وجداننا. نقطع آلاف الأميال، نتقدّم في العمر والتجربة ويبقى ذلك البيت واقفاً داخلنا. عليه ترتكز أرواحنا حين توشك العواصف أن تقتلع جذورنا. اختبرت تلك العاصفة وذاك الحنين حين زرت سوريا في السنوات الأخيرة. شدّني الحنين إلى بيتي الأول في «ديريك/ المالكية» أقصى الشمال السوري. المنزل بيع لعائلة كردية مذ كنا صغاراً. ذهبت مع أمي وأبي لزيارة «بيتنا العتيق» كما نسمّيه. دخلت الغرفة التي ولدت فيها. لم أجد ما يعنيني، كان هناك فقط الشباك الذي دخلت منه الشمس ودغدغت عظامي. ما تزال الشمس تزور أطفال الساكنين الجدد. التقطت صوراً فوتوغرافية لذاك الشباك فقط، وعلى عتبة الباب وجدت دموعي تنهمر. بكيت كمن يريد أن ينفضَ وجع الغربة على أعتاب البيت، ويدخل إلى طفولته المستحيلة. دخلت غرفتي – غرفتي وغرفة أخوتي، لم أجدني. قطعت الطريق إلى الداخل السوري، دخلت بيتي الأخير في «محافظة حمص» الذي سكنت فيه بعد زواجي وترعرع فيه ابني الوحيد، لم أجدني. البيت مهجور وينتظر، وعلى جدرانه معلقة بعض الصور، وفي ركن منه ما تزال صناديق كتبنا المختارة تنتظر الترحيل. لقد أصبحت أرض الدار وحشية تعلوها الأعشاب والأشواك البرية، وبعض الشجرات التي ما تزال واقفة. عبرت تحت شرفة بيتي في حلب الذي بيع لعائلة أرمنية ولم أجد لي أثراً هناك، سهرت قبالة تلك الشرفة وأنا ضيفة في بيت صديقتي التي كانت تلعب معي «بيت بيوت» في المالكية، من شرفة بيتها كنا نطلّ على شرفة بيتي الذي كان. لم أفكر أن أذهب لألقي التحية على الجدران والأبواب التي احتضنت ربيع عشقي وحبي الذي كان عاصفاً وانقضى. بعد هذه الزيارات الموجعة في الصميم، أصابتني الحمى، الغثيان والصداع الحاد، سقطت طريحة الفراش حين عدت من رحلتي إلى بيت أمي وأبي الذي يفتقد الأولاد الذين ترعرعوا بين جدرانه، في حديقته الأمامية، برفقة الورد الجوري، تحت ظلال شجرة الرمان وعرائش العنب. أمي بفطرتها حدست بما يجول من أعماقي، كانت يدها تمسح شعري وجبيني، تلمس جمرة الروح التي نهشها الحب والأمل، غياب الحب وغياب الأمل، وغياب الغياب.
عدتُ الى بيتي الذي في كندا، ومعي كل الصور وكلام كثير مطمور بين جذور الروح. تقوقعت على روحي حاملة معي كل البيوت وأسرارها. حين وصلت مطار تورنتو، انتظرت حقائبي ودفعتها أمامي كمن يحمل في القلب كدمة وفي العين نهراً. لم أتصل بأحد كي ينتظرني. أردت أن أقول لنفسي: أنت قوية، برافو، يلا، لقد وصلتِ بالسلامة، قطعت البحار والمحيطات كي تصلي إلى هناك وتعودي إلى هنا، كي تغادري البيوت التي عشت فيها شبه وحيدة رغم الصخب والأهل والزحام. وكي تذهبي من جديد وحيدة إلى بيتك المغلق على نفسه.
دفعت الحقائب ووقفت في ركن لا يعيق حركة المرور. دخنت سيجارة وصرت أبحث في جيبي عن «الكلينكس» كي أمسح الدمع العنيد الذي لا يحتبس والمخاط أيضاً. انتبهت امرأة شرقية الملامح إليّ. تبادلنا السلام، قالت إنها تنتظر سيارة زوجها. سألتني عن موقع بيتي، واقترحت أن تأخذني في طريقها الى منطقة قريبة من بيتي، وبعدها أتدبر الأمر. كان الوقت عصراً، ليس صيفاً ولا شتاء. ذهبت مع العائلة نصف الطريق. ثم استأجرت سيارة فيما تبقى من هذه الرحلة الطويلة. حين وصلت إلى البيت كان المذياع ما يزال يثرثر كي يؤنس وحشة الأشياء التي في البيت، ما يزال يثرثر بالانكليزية ليلاُ نهاراً لمدة شهر ونصف.
ابتسمت وقلت: استقبلني الراديو، بي بي سي.
وبعد أقل من نصف ساعة رنّ جرس الهاتف… قفزت ولم أكن أتوقع أحداً يعرف موعد وصولي. أجبت على الهاتف بلهفة. كانت سيدة على الخط تبيع شيئاً ما، تقدم دعاية لشيء ما. سألتني «كيف حالك اليوم؟». قلت: بخير، شكراً. قالت بلطف: «عظيم ليس الجميع بخير هذه الأيام، عظيم أن يقول الفرد أنني بخير، أليس كذلك؟».
قلت: في الحقيقة، بل أشتكي من حرقة في عيوني، وصوتي سقط مني في الطريق، ولا أتكلم الانكليزية الآن!
قالت: لدينا خطة جديدة ورخيصة، للهاتف والانترنيت والتلفزيون….
قلت: لا يوجد عندي تلفزيون، ولكن عندي أريكة للبيع، وعدد من الكراسي الجديدة، هل تشترين؟!
لم تحر جواباً فأقفلت خط الهاتف. تعثرت بحقائبي. جلست على الأريكة وفي يدي علبة السجائر، بيضاء وعليها رسم امرأة زرقاء وترقص…
علبة السجائر تلك، فارغة الآن مركونة على الرفّ، كلما وقع نظري عليها، أتذكر وطناً، بيتاً، حبيباً، ودخاناً عابقاً.
(كاتبة سورية تعيش في كندا)