رحيل الشاعر السوري علي الجندي
غاب الشاعر السوري علي الجندي عن 81 سنة، بسبب المرض الذي أقعده طريح الفراش في السنوات الأخيرة، وبغيابه تنطوي صفحة من حياة ثقافية بامتياز كان علي أحد أقطابها البارزين.
علي الجندي
ولد في سلمية عام 1928.
تخرج في جامعة دمشق – قسم الفلسفة عام 1956.
عمل في حقل الصحافة الثقافية مابين دمشق وبيروت.
كما عمل مديراً عاماً للدعاية والأنباء – في دمشق، وفي حقل الترجمة عن الفرنسية ولم يحترفها.
من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب 1969م.
عضو جمعية الشعر.
مؤلفاته :
1- الراية المنكسة – شعر – بيروت 1962.
2- في البدء كان الصمت – شعر – بيروت 1964.
3- الحمى الترابية – شعر – بيروت 1969.
4- الشمس وأصابع الموتى – شعر – بغداد 1973.
5- النزف تحت الجلد – شعر – اتحاد الكتاب – دمشق 1973.
6- طرفة في مدار السرطان – شعر – اتحاد الكتاب – دمشق 1975.
7- الرباعيات – شعر – بيروت 1979.
8- بعيداً في الصمت قريباً في النسيان – شعر – بيروت 1980.
9- قصائد موقوتة – شعر – بيروت 1980.
10- صار رماداً – شعر – اتحاد الكتاب – دمشق 1987.
11- سنونوة للضياء الأخير – شعر – بيروت 1990.
متاع علي الجندي
صبحي حديدي
قلت في نفسي: أستميح محمود درويش العذر لأني، وقد حلّت يوم أمس سنة على رحيله، سوف أرجىء إحياء الذكرى إلى يوم آخر، بعد أن ودّعت صديقي صلاح حزيّن الأسبوع الماضي؛ ولعلّي أشفق على قرّاء هذه الزاوية من سيرة الرحيل والراحلين، أسبوعاً تلو أسبوع. عزائي المرتجى كان أنّ العشرات من محبّي درويش سوف يكتبون عن سنة غيابه الأولى، في مختلف وسائل الإعلام؛ وأنّ الملايين سوف يتذكرونه على نحو أو آخر، هنا وهناك، في بلدان العرب وفي أربع رياح الأرض. غير أنّ الأقدار شاءت أن لا تغيب ظلال الموت الثقيلة عن هذه الزاوية، إذْ بلغني رحيل الشاعر السوري الرائد علي الجندي (1928 ـ 2009)، وكان محالاً عندي أن لا ألقي تحية الوداع على شاعر/ مواطن سوريّ بامتياز، استجمع في نصف قرن من عقود عمره قسطاً وافراً من العناصر السياسية والثقافية والنفسية والإبداعية التي ميّزت شخصية المثقف السوري البرجوازي الصغير، مثلما صنعت مصائره وجراحه وانكساراته وهزائمه، ضمن المشهدية الأعرض للوجدان السوري الحديث.
وعلي الجندي كان شاعراً رائداً، رغم انتمائه ـ من حيث النشر والحضور الثقافي، وصدور مجموعته الأولى ‘الراية المنكسة’ سنة 1962، بعد سنوات على نشر قصائده في دوريات أدبية سورية ولبنانية ـ إلى مجموعة شعراء الستينيات (علي كنعان، ممدوح عدوان، محمد عمران، فايز خضور، محمود السيد، أحمد سليمان الأحمد، خالد محي الدين البرادعي، وسواهم). وفي ظنّي أن مكمن ريادته يبدأ، أوّلاً، من حقيقة إقامة الصلة الحداثية، والتجديد المعمّق في الشكل مثل الموضوعات، بين حلقة عبد الباسط الصوفي وسليمان العيسى وشوقي بغدادي، حيث هيمن شكل ‘الشعر الحرّ’ أو التفعيلي، وإنْ اختلفت الأساليب وتباعدت التجارب؛ وحلقة الثلاثي علي الناصر وأورخان ميسر وخير الدين الأسدي، حيث النماذج الأبكر من قصيدة النثر السورية، والميول السوريالية؛ والحلقات المنفردة الكبرى كما مثّلتها تجارب نزار قباني ومحمد الماغوط، إضافة إلى أدونيس حين نحتسبه على مشهد الشعر السوري، وليس اللبناني.
ومن نافل القول إنّ علي الجندي أقام تلك الصلات، وبالتالي نشر قصائده الحداثية الأولى، وهو على وعي تامّ بمقدار الضغوطات التي كانت القصيدة العمودية السورية تمارسها على الذائقة العامة، سواء على يد مجايلين مثل وصفي القرنفلي وحامد حسن وسعيد قندقجي وعبد الرحيم الحصني، أو السطوة المقيمة لقصيدة عمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونديم محمد وعبد المعين الملوحي من جيل الكبار السابق. وهكذا، فإنّ مكمن ريادته، في المقام الثاني، كان اختراق تلك الغابة المتشابكة من الأشكال والأساليب والموضوعات واللغات والتجارب، والاستئناس الحيوي بمنجز الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب (وكانا على صلة صداقة)، في ما يخصّ سيولة التفاعيل ومعالجات موضوعة الموت؛ والنجاح في النأي بذاته عن موجة الشعر التموزي، موضة العصر الحداثية آنذاك؛ والإفلات، التامّ والمدهش في الواقع، من طوق أدب الإلتزام، في صياغاته القومية والبعثية تحديداً، هو الذي كان قريباً من سلطة البعث حتى أواسط السبعينيات.
ذلك لأنّ أنموذجه القياسي، في الحياة والسلوك كما في الفلسفة والشعر، كان الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد البكري، سيّما تأملاته في أخلاقية الوجود والعدم: ‘أرى قَبْر نحّامٍ بخيلٍ بماله/ كَقَبْر غَويٍّ في البطالة مُفسِد’؛ أو قوله: ‘أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة/ وما تَنقُصِ الأيامُ والدهرُ يَنفدِ’. وإذا كانت ثلاثية الملذات عند طرفة هي شرب الخمر وإغاثة المستغيث ومعاشرة النساء، فإنّ لذائذ الجندي كانت الشعر والنساء والخمر، ليس لأنّ إغاثة الملهوف لم تكن تلذ له، بل لأنه أغلب الظنّ كان يرى نفسه جديراً بالغوث وليس الإغاثة! وكانت مجموعته/ قصيدته الطويلة ‘طرفة في مدار السرطان’، 1975، بمثابة كشف حساب مفصّل، جارح وحادّ وتراجيدي، عن حال انكسار الشاعر الرائي، والشاعر العرّاف، والشاعر البطل، والشاعر المثخن بالجراح النرجسية، والشاعر الرجيم: ‘عندما آوي إلى آخرتي المنتظرة/ إمنحوني شكل موتي/ رحلتي المنكسرة/ ودعوني أرتوي… أسقي خلاياي/ بظلّ المقبرة/ أرتوي حتى أرى في ظلمة الدنيا حنان الآخرة/ وأرى الموتي يخفّون لكي يستقبلوا/ فارساً يحمل رؤيا خطرة/ مقبلاً، سكرانة خطواته/ حنقاً يجعل من عالمهم/ للمجانين ـ الذين انخذلوا ـ مستعمرة!’.
الأرجح أنّ هذه العقيدة الوجودية، فضلاً عن طراز حياته الصاخب والأبيقوري، جعلت علي الجندي قليل الإكتراث بتطوير قصيدته وترقية أدواته، فظلّ أسير نبرة واحدة، ولغة مقتصدة، وإيقاعات متماثلة، مع استثناءات محدودة في الواقع، كانت على الدوام تؤكد شاعريته الدافقة ومراسه العالي. لكنّ الملذات لم تمنعه من التوقيع على بيان الـ 99’، الذي أصدره نخبة من المثقفين السوريين (كان بينهم، للإيضاح الضروري في هذا السياق، عبد المعين الملوحي وعلي كنعان وممدوح عدوان)، ونُشر في أواخر أيلول (سبتمبر) 2000، وتضمّن المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية، وإصدار عفو عام، وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامة والمدنية. ولقد قاطع الجندي المهرجانات الثقافية في السلمية (بلدته التي سبق لها أن تابعته ينخرط في بكاء مرير وهو يلقي قصيدته ‘السيول تجتاح سلمية’، حتى صعد ممدوح عدوان المنبر وأتمّ القصيدة عنه)، احتجاجاً على اعتقال صديقه عبد الكريم الضحاك، مدير المركز الثقافي السابق، وعضو مجلس أمانة ‘إعلان دمشق’.
ذلك لأنّ الأنموذج الثاني في شخصية علي الجندي كان الشاعر الأموي قطري بن الفجاءة، فارس الأزارقة الذي قال لنفسه وقد طارت شعاعاً: وما للمرء خير في حياة/ إذا ما عُدّ من سقط المتاع!
علي الجندي… الشاعر الضليل يترجّل
«الراية المنكّسة» على سليل القرامطة
دمشق ــ خليل صويلح
«اليوم خمر وغداً أمر»؛ على هدى حكمة الملك الضلّيل، مشى علي الجندي (1928 ــــ 2009) دروب الحياة، غير عابئ بتصاريفها أو بخيانات الجسد… وحتى بمآل قصيدته. كان حضوره الشخصي قصيدةً جوّالة، مشبعة بشهوة الحياة وغوايتها. هكذا بات صاحب «الحمّى الترابية» (1969) من علامات دمشق الستينيات والسبعينيات. أينما توجهت، كنت ستجده بصحبة امرأة، كأنّ هذا الشاعر العبثي الضجر والمحزون، لا تكتمل صورته إلّا في الصخب. كائن ليلي بامتياز، ووجودي على طريقته، فهم الحرية بأبهى صورها، لذلك لم يلتفت بجديّة إلى موقعه الشعري كواحد من رواد الحداثة.
صديق السيّاب منذ أول زيارة له إلى دمشق، كان دليله إلى الحانات والبهجة. إذ كانت قصائده قد سبقته إلى بيروت وبغداد. لم يجد نفسه في السجالات التي كان يخوضها شعراء مجلة «شعر». احتفى هؤلاء به كصاحب قصيدة ذات مذاق خاص، تنفتح على مسالك جديدة، تتجاوز في مناخاتها ومجازاتها تجارب الرواد. فوضويته وضجره من الأضواء، أبعدا شعره عن اهتمامات النقّاد، فكُرّس واحداً من أبرز تجارب الستينيات، من دون فحص دقيق لمنجزه السابق، وخصوصاً أنّ بواكيره الشعرية أقدم من هذه الحقبة، ربّما لأنّه تأخر في إصدار مجموعته الأولى «الراية المنكّسة» حتّى عام 1962.
سليل القرامطة أتى مائدة الشعر من منطقة الظلّ. كتب ذاته برومانسية غنائية عذبة، لا تخلو من تشاؤم مبكر، فقد نكّس رايته قبل هزيمة حزيران (يونيو) بسنوات. هذه الهزيمة نكّست رايات الشعراء جميعاً، لكنّ راية علي الجندي كانت تعبّر عن تمرّد شخصي واحتجاج وجودي، لطالما طبع سلوكه وأشعاره. كأنه بودلير عربي في متاهة الوحشة والغربة والألم و… «أزهار الشر».
غنائيّته تأخذ شكل الحداء والمراثي، وتنشد موتاً متجدداً، وهزائم دائمة تحيق بالروح. هكذا يستدعي قطري بن الفجاءة أحد شعراء الخوارج، تارةً، وطرفة بن العبد طوراً، ليؤكد مأساته وفاجعته وتمرّده على عالم مبعثر ومتصدّع. «إن البلاد تضيقُ، تغدو في قياس القبر… جرّوني بعيداً واجعلوا كفني عريضاً واسعاً حتى أرى من عروة الوطن بقايا صورة المنفى». هذه السوداية نجدها حتى في عناوين دواوينه «النزف تحت الجلد»، أو «صار رماداً» أو «الشمس وأصابع الموتى».
اختار حياة الهامش والتسكّع، وكان يردّد: «كتابة تجربتي تحتاج إلى جرأة هنري ميللر»
لكنّ الجندي من مقلب آخر، شاعر الاحتفاء بالجسد والموت، فهما أقنومان أساسيان في تجربته المنبثقة عن ذات تكتب آلامها الخاصة، من دون الالتفات إلى بلاغة زخرفية. يعتمد وزناً إيقاعياً واحداً في كتابة قصائده، مرتهناً لشجن حياتي عميق، رافقه من صحرائه الأولى السلمية: «لم يعد بيننا سوى: مرحبا آه يا امرأة/ فالقناديل أُخمدت والرياحين مطفأة… أيّنا ضلّ دربه…؟ أيّنا عاف ملجأه».
عمل الراحل في الصحافة الثقافية الدمشقية بمزاج الشاعر، فكان ملاذاً لمعظم تجارب شعراء السبعينيات. يروى أن سليم بركات حين أتى دمشق، ذهب إلى مكتبه متهيباً. وقبل أن يدخل المكتب خلع حذاءه عند الباب، وصافح الشاعر بارتباك. لكنّ الجندي أخذه بالأحضان، ودعاه تواً إلى حانة قريبة لإعجابه بقصيدة له، كان قد أرسلها في البريد. المناصب السياسية التي حازها في شبابه كـ«مدير الدعاية والأنباء» تركها وراءه، ليعيش حياة الصعاليك والعشاق. صار سلوكه مقياساً وبوصلةً لكل الشعراء المتمردين الذين أتوا بعده، على عكس أشعاره التي ظلت بلا مريدين، وبمنأى عن الفحص النقدي الدقيق، نظراً إلى خلوها من الشعارات البرّاقة والهتاف.
أفول الحياة الصاخبة في دمشق مطلع التسعينيات، ورحيل أصحابه القدامى، أصاباه بالضجر والوحشة. قرر فجأة الاستقرار في مدينة اللاذقية، ليعيش عزلة لم يخترها، وخصوصاً أنّ المؤسسات الثقافية الرسمية أهملته، ولم تكرّمه بما يستحق. أعماله الكاملة تبنتها «دار عطية» الخاصّة، ولم تفكّر وزارة الثقافة أو «اتحاد الكتاب العرب» بجمع دواوينه المبعثرة في طبعة واحدة. ذات يوم في أواخر التسعينيات، قصدنا علي الجندي في اللاذقية. قيل لنا إنّه لا يخرج من بيته. وحين قابلناه بعد عناء، صدمنا بشخص آخر أمامنا، هدّه العمر، والصمت، و…الفقر. هذا الشاعر ابن العائلة العريقة في الأدب والسياسة، الأخ الأصغر لسامي الجندي وعاصم الجندي، عاش سنواته الأخيرة في غرفة وصالة متواضعة في زقاق ضيّق.
اتفقنا يومذاك على موعد في فندق «الكازينو» على شاطئ البحر، فجاء إلى الموعد تماماً بكامل ارتباكات العزلة، يتأبط دفتراً يضمّ آخر قصائده، وما يشبه اليوميات النزقة. «كتابة تجربة حياتي تحتاج إلى جرأة هنري ميللر» يقول. ثم نقلّب صفحات الدفتر فنقرأ: «إنني الجرح والسكين». كانت إجاباته عن أسئلتنا متعثرة ومبتورة وحائرة، كأنّ «أبو لهب» صار واحداً من أحد الزهاد الذين هجروا فتنة الدنيا.
ابن الصحراء اختار البحر لترميم عطب حياته في العاصمة. يقول متبرماً: «كتبت عن الصحراء، ولا أزال أعيش فيها. لم أغادرها أبداً. وظلّ البحر حلماً مستحيلاً: أين هو يا ترى؟». لهذه الأسباب ربما أوصى بأن يُدفن في مسقط رأسه السلمية، إلى جانب شجرة عتيقة متاخمة لباحة بيت العائلة… وعلى مقربة من ضريح محمد الماغوط، وسليمان عواد، وطيف المتنبي الذي عبر هذه الصحراء ذات يوم بعيد…
عن موت علي الجندي
ـ 1 ـ
يركنُ جامعو الحثالات إلى نصّهِمْ بنهمٍ يوازي ركونهم إلى لَصََّهمْ ، بغال الحزبِ تجرُّ عرباتهم ، ومئة حوذيٍّ يجلدون الهواءَ نقيقاً ..
الصحيفةُ السمينة والوحيدة كجرذٍ مدللٍ ، تقيءُ كُلَّ صباحٍ على قارئيها البؤساء ، هو غبطة استمراءُ قيءِ الآخر عليك ، آليّةِ المثقفِ السعيد في وطنٍ بائسْ .. ننتظرُ قيءَ صحيفة الصباح كما ننتظرُ الرغيف، افتتاحيةُ رئيس التحرير وجهها ، وما دبّج الشعراء قفاه ، ولأنَّ عنايتنا أزليّة بالقفا ، تقيءُ علينا الصحيفة من صفحتها الأخيرة .. ـ هو ما قبل الشعرـ ، ملاحق وصفحاتٍ ثقافية وكتباً شهرية لتبديد البلادة الأزلية ، وجحافل من الأجراء والأميين .. معلمين بالوكالة في مدارس بلا تلاميذ ، حاصدي شهاداتٍ عليا في غفلة الرعب الأزلي على رقاب العباد ، وموفدينَ لخارجٍ أنظفُ منهُ خروج المبطون ، حيثُ الشهادات المزركشة الأطراف بزجاجة – grantis – أصلية ، يكتبون الشعر حيثُ عزّت المهنْ ، كراسيّهم مقاعدُ مراحيض ، وطاولاتهم وَضمْ . هو إذاً ثقافةُ القيء ـ أو قيءُ الثقافة .
الحقيقيون من ظلٍّ إلى ظلّ كعجائز الحواري ، بلا تفاحة الرغبة ، ولا هسيس أفعى الفتنة ، هم مبعدون عن فردوس المؤسسة الذي يكون الجحيم عنده أصلاً ـ برداً وسلاماً .
ـ 2 ـ
إذ ذاك تفرّخ القمم ، ويعود المبعدون طوعياً ، ويبنون مؤسساتهم الخاصة بهم ، متناغمةً تماماً مع المؤسسة الأم ، والذي إن بدا بينهما نفورٌ ما ولو على عيون الحسّاد .
أعداء الأمس يتراثون ، مهرجاناتٌ من الدرجة العاشرة تُلمّعُ وتغدوـ مَطْهَرَاً ـ ، حيثُ : ـ غفرتُ لك ذنوبك فادخل جنّتي آمناً ـ كلُّ شيءٍ جديرٌ بأن يُمدح ، الطريقُ إلى الوصي ، عرشهُ ، عباءته التي تتسعُ للجميعْ ، نحولهُ وقامته التي لا يُعرف مداها حيثُ لم يُرَ أبداً إلاّ جالساً . تماماً حيثُ ينتصفُ الصيف ، يجتمعُ الخطاءون في مَطْهَرِ الوصي ، من يقرضُ ومن يرسمُ ومن يغنّي … مسبحين بكهنوتهِ ، ومن كُلِّ أصقاع الشعر ـ فلا يفهم الحدّاث إلاّ التراجمُ ـ . القلوبُ الشتّى تأتلفُ على مائدتهِ .. الخصومُ يتصافونَ على محبّتهِ ، آلية الخسارة الدائمة رابحةٌ بحضوره ، ابتسامتهُ مبعث الرضى ، سقفُ بيته رحمه ، يتذكّرُ الجميع … ولا يتذكّر أحداً ، فالتناقضُ بناءُ كيانه ومحتواه ، ستحشى الجرائد والكتب بأخبار الوصي وكرنفاله السنوي ، ولا بدَّ لتلك القرية اللابدة أبداً في تلك الخضرة الأزلية أن تتمدد بعمادة وصيّها على صفحات التاريخ .
ـ 3 ـ
غيرُ بعيدٍ عن الكرنفال .. ” وفي شقّةٍ نصفُ مفروشةٍ ” ، مالحة الهواء ، تتقشّرُ عن جدرانها وحشةُ الشيخ السّاكن فيها ، يقبعُ أبو لهب “متبوب اليدِ والصوتِ والوجه ” ، شائخاً وسَئِماً حتّى الثمالة ، ” ومن يعش ، ثمانين حولاً لا أبالك يسأمِ” عكازه مسوّداته التي فاض عليها خزان المياه ذات بلل ، والتي تراكمت خلال عقدٍ ونصف ، غضَّ الجميع أعينهم وقلوبهم عنها وحضنها عبث الشاعر الوحيد والمستوحش كإلهٍ ضَجِرْ .
علي الجندي .. كما الجميع أنا ، وبفارغ صبري سأنتظر موتك ، هيأتُ شارات الحداد والمراثي ، مناديل التلويح المطوية جيداً نظيفة ومعطرة ، فور سماعي بغيابك سأنفض الغبار عن كتبك لأستعيد أشعارك ، وسأدبج المراثي والمدائح , وكما قبل ألفي عامٍ خلت سأمارس كناطقٍ بالضاد هذه المثيولوجيا ” الطللية ” العريقة العرف في تاريخ العرب ، وكيف لا وقد غاب شاعر عظيم .
ولكن الآن .. من تُرى يجرؤ على تذكرك ، من يجرؤ أن يقول أن هناك شاعراً مركوناً ومهملاً ووحيداً بين اللاذقية التي لم تحفل تاريخياً بأبنائها الحقيقيين ، وبين مدينتك سلميه العاقة أبداً لأبنائها ، والمشغولة عنك وعن غيرك بعطشها الأزلي ، وبأبواب السماء ومن ملكوا رقاب العباد الموصدة جيّداً في وجهها .
ليس لك مكان يا أبا لهب في صحفِ القيء ، ولا في كرنفالات الصامتين عن سنوات الرعب في منافيهم الطوعية الفردوسية ، والعائدين الآن شيوخاً ببخورهم وعباءاتهم وأياديهم الملثومه ، وتلاميذ الأمس الأغبياء ، لم يسمعوا بك بعد ، أما الأصدقاء فقد تابوا وأنابو ، ـ كلٌّ إلى ربّهِ ـ ، وهيهات لتائبٍ أن يعرف أو يتعرّف على متبوب اليد إذا كان قدّام ربّهِ مسؤولا .
وحيداً ستتأمل خزانة نسائك الفارغة عن آخرها ، هدأ غبار غزواتك ، وفتنتك بهتت ألوانها ، وعيناك المشتعلتان ناستا …. بلا يديك القابضتين على كلِّ ما تكوّر ، وبلا فمك إذ كان يدكُّ حصونهنَّ قُبلاً وشعراً ، ما عساك فاعل ؟ .
علي الجندي .. بعد قليل ، سَيُخرجُ الجميع رؤوسهم ، بعدّة الرثاء الكاملة والجاهزة ، وبكل أناقة ضميرهم المطعون بغيابك ، سيصطفون على قبرك جميعاً فرحين ، بأن غُبت وغابت معك جريمة صمتهمْ .
.. وحيداً في ” مدار سرطانك ” و ” حمّاك الترابية ” و ” قصائدك الموقوتة ” التي لم ولن يقربوها أبداً ، خشية انفجارها في وجوههم .
عبدالله ونوس / سلميه
بعدما أتعبه حب النساء ورثاء البلاد: علي الجندي عاش مع الجميع ورحل وحيدا
أنور بدر
دمشق ـ ‘القدس العربي’ شكل علي الجندي ظاهرة في الحياة الثقافية لمدينة دمشق في ستينات القرن الماضي، بعد أن سكن لأربع سنوات في بيروت التي كان يعتبرها عاصمة الدنيا، عاد إلى دمشق يحمل ثقله الشعري الذي باركته مجلة ‘شعر’ إذ نشرت أغلب قصائده في النصف الأول من الستينات، لكنه يُصر ‘لم أشعر بالانتماء لهم’ مضيفاً في إحدى اللقاءات الأخيرة معه ‘كانوا غير ديمقراطيين في نقاشاتهم السياسية والثقافية رغم ادعائهم غير ذلك’.
ورغم تسلمه الإدارة العامة للدعاية والأنباء التي تعادل وزارة الإعلام حالياً، إلا أنه اعتبر نفسه شاعراً أولاً وأخيراً، مارس الصحافة وقدم بصوته برنامجاً إذاعياً عن الشعر، لكنه وكما يقول في حوار متأخر معه سنة 2000 ‘كان يخطر ببالي أن أكون صحافياً أو ممثلاً، لكنني فشلت إلا أن أكون شاعراً’.
وفي شعره كان الجندي مخلصاً لنفسه وقناعاته، لم تستطع أن تأخذه الوظيفة أو الصحافة، بل ركن إلى زملاء القصيدة ممدوح عدوان وعلي كنعان، وفي تلك الفترة كان محمد عمران والماغوط وظهر إبراهيم الجرادي وآخرون، فقط أدونيس كان بعيداً في بيروت، أو في فرنسا لاحقاً، وفد غلبت على هذه المجموعة نزوعات قومية يسارية شكلت المناخ العام لمدينة دمشق.
في عام 1969 اجتمعت شلة موسعة من الأدباء في مكتب علي الجندي وبرعاية قريبه عبد الكريم الجندي حيث تم إعلان تشكيل اتحاد الكتاب العرب، وشغل الجندي فيه منصب نائب الرئيس، وتسلم الرئاسة وقتها د. سليمان الخش، وكان وزيراً للتربية، مما يعني نهوض الجندي بأعباء الاتحاد لتلك الفترة.
لكن الدور الأهم لعلي الجندي كان في ترسيخ الحداثة الشعرية لجيل الستينات،لم يذهبوا مع الماغوط أو أدونيس باتجاه قصيدة النثر، لكنهم أكدوا سيادة التفعيلة في القصيدة الحديثة والتي منحت نتاجهم غنائية متفاوتة، كما اشتغلوا على اللغة التي مالت باتجاه ما هو يومي ومعاصر مع الابتعاد عن الخطابية والإنشائية السابقة، وقد استفاد الجندي من دراسة الفلسفة في الذهاب مع قصيدته إلى أقصى بواطن الشاعر الذي صنعت المرحلة تراجيديا جيله بأكمله، جيل عاش الهزيمة حتى أعماقه، مع أن بعض دارسي شعر الجندي يؤكدون تنبؤيته في حدس واستشراف الهزيمة منذ ديوانه الأول ‘الراية المنكسة’ سنة 1962، فالهزيمة صنعت مأساة شعوبنا العربية كما صنعت تراجيديا ذلك الجيل الذي رأى وطناً يستباح وأحلاماً تنهار، فكتب الجندي في مرثيته للوطن قصيدته الشهيرة ‘سقوط قطري بن الفجاءة’ والتي ضمنها ديوانه ‘الحمى الترابية’ سنة 1969 ويقول فيها:
‘..وداعاً يا ديار العزّ والمنفى، ويا قبر الهشيم الرطب، يا لحم الأعاصير الخرافية..وها أنذا أجي إليك يا بلدي من الصمت، محملة غصون شبابي المضنى بأثمار تفيض بنكهة الموت’ … ‘وماذا بعد؟ ماذا بعد؟ حسبي في هواك المرِّ أني السيد العبدُ /وحسبي أنني أحيا فقيراً معوزاً في الكون لا أملك/ ولن أملك/ سوى من أرضك المعطاء ما يحتاجه قبري’.
هذه المشاعر صنعت مفارقة لجيل اتهم بالصعلكة والتمرد، لكنه كان في خلفية تمرده يبني موقفاً من الواقع القائم، ومن سلطاته السياسية. لذا كنى علي الجندي نفسه بـ’أبي لهب’ ضد كل المخزون الرسمي للثقافة التي أنكرت أبا لهب. كما كتب في مجموعته المتأخرة ‘النزف تحت الجلد’ الصادرة سنة 1973:
متعب بالبلاد التي طال فيها حنيني إليها
مرهق من ترابها الذي صار في العين شوكاً
وتحت اللسان حليباً وخبزاً مريراً.
أما في قصيدته ‘صلاة لزمن يجيء’ من مجموعته ‘بعيداً في الصمت’ 1981 فيقول:
أرى الوطن المتبحر في القهر يغرق،
يوشك أن ينتهي
في القرار العتيم
أرى الوطن، القهر يغدو سلافة أرض،
بقايا بلاد تُرسب
ملجأ يتم عقيم
دعوني أرى وطني، وطني لم يعد وطني.
بينما في ديوانه ‘قصائد موقوتة 1986 يتابع الجندي مرثية الوطن:
وطني صار ملفاً حائل اللون على طاولة التاريخ
آه يا أحبابي البعيدين، وأمجاد بلادي
لم تعد غير عتابا وربابة
يتبكاها الحزانى في نهايات الليالي
كما يقول في ديوانه ‘صار رماداً’ 1987 :
أنا وطن مثخن بالجراح
وأنت بلا وطن فاسكنيني
أُملح جسمك من ترابي
وأحنّي يديك بماء عيوني
تقيمين في وطن متعب فيواسيه أنك فيه
ويواسيك أنك تستوطنين بلاداً
مكرسة لحنينك
حتى أن الشاعر ممدوح عدوان يكتب أن ‘ أول حرف من اسم علي الجندي هو الوطن’ لكنه الوطن المثخن بالجراح والمستباح، حتى أن عدوان يقول عن هذه الفجائعية في شعر الجندي أنها ‘طاقة هائلة من الحزن والشهوات المكسورة’.
ونحن فعلاً نستطيع أن نقرأ كل مفردات الحزن واليأس والقهر والانكسار والخوف، والموت في قاموس علي الجندي الشعري، قاموس اشتغل فيه على موضوعتي الهزيمــة والموت، ولعل الأولى تورث الثانية، أم أن الموت ينبثق منها . حتى انه يبشر بالموت المقبل، موت يقرأه كما العرّاف في قعر كأسه، فيكتب في قصيدته ‘نخب البشرى’:
أكتم آهاتي في صدري، وأبكي في صمت
خجلاً من أن ألمح في المرآة دموعاً
في أجفاني
أتأمل مستقبلي الملوي العنق
بقعر الكأس
وأحكي للأصحاب القصص السكرى
أرفع كأسي مبتسماً في حزن
نخب الصمت الجارح يا أصحاب
الموت المقبل
نخب البشرى.
هذه البشرى التي تغدو حقيقة، يقرر أن يواجهها في ديوانه الأخير ‘سنــــونوة الضـــياء الأخير’ الصادر في بيروت سنة 1990 إذ يقول:
إلى أين المفر؟
كل مجرى الموت قدامك والماضي وراءك
أنت لا تهرب من ماضٍ
ولا من مقبل أسود
بل تهرب من أعماقك المشتعلة.
هذه الأعماق التي أحرقت بنارها جيلاً بل أجيالاً إثر الهزيمة التي ما زلنا نعيش في مناخاتها التي صاغت حياتنا طيلة تلك السنوات، ولكن مع يقين الشاعر بهذه النهاية يكون قد قرر الاستسلام ‘أسلمت نفسي للزمن’ ويطوي أوراقه مغادراً المدينة التي شهدت كل معاركه وغزواته وهزائمه، يغادرها متجهاً صوب البحر، هو الذي ولد في مدينة سلمية على قوس البادية أو الصحراء، ليملح الوطن في جسده أو يتملح في ماء البحر بعدما صنع من شعره جناحي سنونوة وطار بهما إلى حيث النهاية. نهاية جيل عاش الهزيمة بشجاعة وحب وفروسية، حتى لو قيل عنها الآن أو عنه ‘دون كيشوتية’ فالأحلام كانت قناعات في الزمن الغابر.
وقد عاش علي الجندي شعره وقناعاته كجيل، بل عبر عن جيل بأكمله في العشق والثقافة وحب الوطن، لكنه مات مفرداً في عزلته في مدينة اللاذقية، حتى أن اتحاد الكتاب العرب الذي أسسه لم يكلف نفسه في هذه المناسبة وفي حضرة الموت أكثر من نعوة في الصحف الرسمية وكفى الكتاب شرّ العزاء، علما بأن معرض الكتاب الدولي في دمشق كان مناسبة لتكريم هذا العلم في الشعر العربي وفي الحداثة الشعرية، لكنهم ضيعوا هذه الفرصة التي كان يمكن أن يكبروا بها لو كانوا يعلمون.
علي الجندي: حياته شعر وشعره الحياة
غاب الشاعر السوري علي الجندي عن 81 سنة، بسبب المرض الذي أقعده طريح الفراش في السنوات الأخيرة، وبغيابه تنطوي صفحة من حياة ثقافية بامتياز كان علي أحد أقطابها البارزين. هنا شهادات من زملاء كتاب وشعراء عرفوه.
^ شوقي بغدادي:
مَن يرثيني بعدك
لم يكن موتك يا عليّ مفاجأة، فأنت متّ منذ سنين. هل تذكر حين التقينا في اللاذقية لآخر مرة؟ كنتَ مريضاً ممنوعاً من شرب العرق والتدخين. وهذه كارثة بالنسبة لك أكثر من الموت.
لماذا قسوت على نفسك إلى هذه الدرجة يا عليّ، أيها الصديق الشاعر الظريف الحديث منذ أكثر من خمسين عاماً!
أتذكره الآن بكامل أوصافه، زميلاً في كلية الآداب في جامعة دمشق، شاباً وسيماً أنيقاً ساخراً ضاحكاً باستمرار. أتذكره الآن محاطاً بزميلاته المفتونات به. أتذكره الآن وقد غدا موظفاً في دولة «البعث» الجديدة، مديراً للدعاية والأنباء (وهي وظيفة مثل وزارة الإعلام الآن) وقد اجتمعنا في مكتبه لتأسيس اتحاد الكتاب العرب. أتذكره الآن بالسهرات العامرة، كيف كان يسيطر على الجلسة بمنادمته الحلوة والمثيرة دائماً. أتذكره الآن أكثر من أي وقت مضى، لا لشيء، إلا لأن علي الجندي يعلن الآن بموته انقراض جيل كامل من المبدعين والملهمين المجددين.
لم يتبق أحد يا عليّ سواي ليرثيك، مَن سيرثيني بعدك!
هل أقول فيك ما قاله شوقي في حافظ؟!
رحمة الله عليك يا عليّ.. إذا وجدت باب الجنة موصداً في وجهك فما عليك إلا أن تتعلق بركاب أحد الصحابة، وسوف يدخلونك بالواسطة فتمهل ولا تيأس من رحمته، وهناك لن يمنعوك من الشرب والتدخين بالتأكيد، أما الجواري الحسان فدعك منهن، فهن أصل بلائك. إلى اللقاء يا عليّ.
^ نبيل سليمان:
لست شيئاً غير إني كلمة
ذات مساء من ربيع 1970 رأيت ذلك الشاب الساحر أول مرة، إنه حقاً بايرون، تلصصت عليه من فرجة الباب، نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب الذي كان قد تأسس للتوّ برئاسة المرحوم وزير التربية آنئذ سليمان الخش، أي أن الرئيس الفعلي كان علي الجندي، الذي لقّب نفسه بـ(أبو لهب). بعد أربع سنوات شرّفني وزوجته آنئذ – القاصة المرحومة دلال حاتم ـ بزيارة منزلي: من باب العمارة اتجه إلى القبو. قلت له: إلى الطابق الأخير. قال: طبعاً، أين سيسكن مثلك، في القبو أو في الملحق، وحين رآني لا أدخن وكأسي مترعة بالماء نهرني غاضباًَ: كيف تكتب إذاً؟
بعد سنوات ترك دمشق، التي طال مقامه فيها، وحلّ في اللاذقية حتى غيابه. وعلى الرغم من أن مئات الأمتار فقط تفصل بين منزلينا، فقد كان لقاؤنا ما قبل الأخير منذ سنوات، إما بحضور صديق عمره (اللدود كما كان يؤثر القول) ممدوح عدوان، وإما بحضور سعدي يوسف، ما عدتُ أذكر.
أما لقاؤنا الأخير فلن يكون، ما دمت أتهجد في شعره منذ العهد بالجامعة حين قرأت له «الراية المنكسة» و»في البدء كان الصمت» حتى هذه الساعة التي ستحمله على مآقينا من اللاذقية إلى السلمية، وهو يفضح:
آه إني كلمة
آه إني كلمة
لست شيئاً، غير أني كلمة
ثم يفضح:
إنني أمتد، أمتد، أغالي في انتشاري
إنني أورق، أنساح، أواري
^ منذر مصري:
متْ قبلي وسأكتب عنك قصيدة.
(حذار أن تششرب البيرة أمام عمّي أحمد) ـ يغمغم علي الجندي مفتتحاً دعاباته ـ يمدُ يده ليتناول زجاجة العرق التي تقدمها له، ثم يضعها بجانبه مهمهماً: (فاجتنبوه).
كان علي يأتي من دمشق إلى اللاذقية ـ في قرّ الشتاء ـ وقيظ الصيف ـ كذئبٍ وحيدٍ أغبر ـ صابراً على جلسات مجاعيص الشعراء ـ شاربي البيرة ـ من أمثالنا.
(الزمن هو عدوّي ـ يدوس جسدي مخبّصاً عليه بقدميه الحافيتين ـ ويجعلني أشيخ وأموت ـ الموت لا أخافه ولكــن أن نشـيخ ـ هو العار بذاته).
بعد صمتٍ طويلٍ ـ قلت له: (أشعر أنك تكرهني) ـ أجاب: (اطمئنْ، لا أكرهك أكثر من غيرك).
يقهقه ممدوح قائلاً: (متْ الآن وسأكتب عنك قصيدة) ـ يردّ (علي) بضحكةٍ صفراء: (متْ أنت، متْ قبلي، وسأكتب عنك ديواناً).. ـ 28/7/1990
كلاهما.. ممدوح عدوان وعلي الجندي كانا هدفين جميلين للموت. ممدوح الأصغر /1941/ مات منذ خمسة أعوام، لكن علي /1928/ كان قد اختبأ في مكان ما، فبحث عنه الموت طويلاً حتى يئس من أن يجده، فنسيه، وتركه يموت لوحده. ـ 22/12/2004
^ عادل محمود:
زهور افتراضية
في شهر آذار، مارس 2009، نبشت في أوراقي صفحتين بخط علي الجندي، كُتبت في فندق تونسي وصفاً لبعض الشعراء والرسامين والكتاب الموجودين في جلسة من جلسات علي الحميمة والضاحكة. وقررت أن أنشر هذه الأوراق، فنشرتها في جريدة «تشرين» السورية/ الملحق الثقافي. وكان عليّ أن أكتب المقدمة التالية (أستميح العذر بنشرها الآن، حيث لم يعد علي بيننا أبداً)
ـ الشاعر علي الجندي سجل اختفاءه الصارم منذ عدة سنوات، والسبب التقدم في السن وفقدان الأمل.
كل من تعرف إلى هذا الشاعر أدرك أنه من الأشخاص الذين يتقصفون كأغصان الشجرة الضخمة غصناً وراء غصن، حتى يبدو عليها، فقط، أنها موجودة في المدى اللا مجدي لحقل الحياة، مؤكدة ـ لفرط رسوخها ـ كم كانت على قيد الحياة.
كلّ من تعرّف إليه أدرك أن جيلاً من الشعراء، الذين لم تعرف لهم مهنة إلا الشعر، سوف ينقرض، ويبقى في الذاكرة تلك الشخصيات الحريفة، الحادة، المتطاولة والجميلة.
كان علي شديد الاهتمام بمن/ وما يظهر على وجه الأرض من أزهار الشعر،.. والشر. ولذلك كان يحتفي بهذه الأزهار في برنامجه الإذاعي، المعمر طويلاً، بصوته الشجي، وهو يقرأ لسواه كأنما هو المؤلف.. كأنه شريك لحظة العاطفة.
وكان علي الجندي حاضراً دائماً كعلامة فاقعة وملونة دائمة الحضور، علامة على الحلم الجميل ببلاد جميلة وعادلة وبشر سعداء يمتنعون عن قطف النجوم احتفالاً بكونها أجمل وهي في سقف السماء، الحلم الذي أحياناً يلاحق امرأة، أو جمالاً غامضاً، أو ثقافة تتسع لكل الناس وتنشر ما يطمحون إليه من الحرية والاكتفاء، الاكتفاء الذي يجعل عفتهم عفة الشبعان، الممتن والشاكر.
ذات يوم قال لي: اسمع برنامجي اليوم. واستمعت إليه وهو يقرأ بصوته المنفعل والشجي، مقاطع شعرية وقصائد مختارة لي. وعندما انتهى البرنامج تلفنت له وقلت ممازحاً: علي، لمن هذه الأشعار؟!
كان صوته وطريقته في الإلقاء يجعل «أي شيء» شعراً!
إذ ننشر هذه هذا البورتريه المتبقي فلأنه، بالدرجة الأولى، لعلي الجندي الذي سجل اختفاءه الصارم حتى الآن. ولم يكن أحد يراه أو يزوره. ذلك لأن «مهنة الصداقة» أحياناًَ تقوم بوضع الزهور الافتراضية على قبر لم يحتو، بعد، صاحبه الحي!
اليوم.. مات علي الجندي. انبعث صوته في أذني متدرجاً طوال سنوات ثلاثين، كنا نسمعه في كل قصيدة وهو يدفع إلى المجهول كلماتِ وصفِهِ المعلومة. وانتشرت فجأة ضوضاؤه الفرحةُ في ذاكرتي، وهو يتطرف في قول ما يريد. ورنّت أشعارُه الحزينة، الحزينةُ دائماً، من صمت فراغ النبأ..
علي مات ليس من الشيخوخة وانعدام الأمل. في الحقيقة مات من الإهمال، من العنوان المعلق في فراغ الجدران في بيته: عنوان «المتروك وحيداً»، فالشيخوخة لا تهجم على الشاعر وحده، بل تصيب، أو تكون قد أصابت الحماسَ والتفتحَ والزهوَ في من حوله.
وانعدام الأمل ليس فرضية، أو صلاة يأس عميم، بل فكرة فروسية عن المهمة التي يقوم بها الشاعر.. بدلاً من الوطن، وقادة بؤسه وخرابه. فكرة الزمن وأفعال الزمن.
في رحلته الطويلة أصغى علي إلى ملذات الحياة وإلى أحلامها الكبرى وعندما نقصته الحياة قليلاً يوماً، شكاها في نص محتشد بالآلام، راثياً ما لم يكن سوى الموت. الموت أو الموات.
برحيله، أعتقد أننا أمام الوداع السحيق لأزمنة احتدام الشعر واحترام الشعر.
من يعرف علي الجندي من الصعب ألا يؤلمه أنه مات، ومن الصعب أن ينساه!
مرحباً، وليس وداعاً، أبا لهب!
علي الجندي: «قمر المجالس»
اسكندر حبش
كان لقائي الشخصي الأول معه في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. كان ذلك في «اللاذقية»، خلال إحدى فعاليات «مهرجان المحبة والسلام». لم يكن علي الجندي مدعوا للمشاركة في الأمسيات الشعرية (وكنت هناك كصحافي)، لكن الشيخ الذي كان يقترب من السبعين (يومها) لم يجد أيّ غضاضة في أن يأتي ليستمع إلى أصدقائه الشعراء. حركة أثرّت كثيرا في نزيه أبو عفش الذي أهداه قراءته في تلك الليلة. درس صغير في التواضع أخبر كثيرا عن عجينة هذا الشاعر الذي تكبد المشقة وأتى ليستمع. وعبر نزيه تعرفت إليه، وسرعان ما تقع أسير هذه الشخصية التي ترفض الاعتراف بالشيخوخة، بالأحرى أسير هذه الشخصية الشابة دوما التي ما زالت تملك القدرة على المزاح وسرعة البديهة وتذوق العرق.
بعد سنوات قليلة عدت والتقيته في بيروت، كان برفقة أخيه عاصم (الذي سبقه في الرحيل منذ سنوات). يومها كان يزور بيروت بعد 17 عاما من الغياب عنها. وفي المقهى الذي جلسنا فيه لم يتوقف علي الجندي عن تذكر سيرة في الستينيات، في هذه المدينة، ترفض أن تغادر إلى غير رجعة. كان يقول: «كان انطباعي عنها (عن المدينة) أنها عاصمة العالم. كانت تبدو لي مشعة كلها… فقد عشت أربع سنوات كانت لي كفلاح يأتي إلى مدينة جديدة فتبدو له كل الخيرات الجميلة وفيها كنت أعيش في دوار «جنون بيروت الجميل». وتشعب حديثنا عن الشعر وعن الهاوية التي نعيش فيها وعن الانتحار، إذ رأى «لو كان عندنا الشجاعة لانتحرنا، لكنها تحتاج إلى أناس على قدها ونحن لسنا كذلك».
ربما ثمة مفاجأة في أن يتكلم علي الجندي عن الانتحار وهو الذي كان يمضي في الحياة إلى أقصى أطرافها غارفا منها ما استطاع. كانت صحبته تكفي لتنسيك «الموت» لكثرة الأقاصيص التي يعرفها عن أصدقائه الشعراء وغير الشعراء. هو فعلا «قمر الموائد» كما كان يطلق عليه منذر المصري، إذ ما من جلسة إلا وكان بطلها بدون استثناء. بالأحرى كان يكفينا فخرا، ونحن في مطلع شبابنا، أن نجلس إلى الطاولة التي كانت تضمه.
علي الجندي يغادرنا، بعد أن أعياه المرض في السنوات الأخيرة. ومعه ترحل سيرة حياة وحقبات من الشعر والسياسة، فبالتأكيد لم يكن اسما عاديا. كان الشاعر الجواب، الساخر، «الصعلوك» أحيانا، كان أيضا صوتا كبيرا من أصوات الستينيات البارزة. يرحل ويترك خلفه شعره الصلد والقوي، لكن أيضا يترك هذا الشخص الذي لم يقل حضوره عن حضور شعره. يرحل ويترك عندنا الكثير من الذكريات والأقاصيص التي لن تستوي إلا إذا أخبرها هو. ربما هنا أيضا ميزة من ميزاته هذه الطريقة الآسرة في رواية ما يحلو له.
لا أعرف ماذا يمكن أن نقول في حضرة الموت. لكن يكفينا أحيانا أنا تحدثنا مع علي الجندي.
عن علي الجندي الغائب الذي لا يغيب
راسم المدهون
قبل عقد ويزيد كتبت دون مناسبة مقالة في جريدة الحياة كان عنوانها “شاعر من زماننا”.
تلك المقالة تحدّثت فيها عن علي الجندي ، “شيخ شباب” الشعر والأدب والثقافة ومجالس الشعراء والأدباء في سوريا على مدار عقود.
في تلك الأيام كان علي يعيش بدايات انزوائه في اللاذقية بعيدا عنّا ، وكان بصره يخفت فترك للصّديق الشاعر عمر شبانه أن يقرأ له ما كتبت.
بعد أيام كان عمر يجري معه مقابلة حين سأله علي فجأة : هل تتذكّر يوم ذهبنا معا بسيارة سعدي يوسف إلى لارنكا؟
السؤال أثار حيرة عمر شبانة وأدرك أن علي قد اختلطت عليه الأمور. قال له : أنا لم أكن في جزيرة قبرص يوما.. ربما أنت تقصد راسم.
صمت علي الجندي قليلا وقال بصوت خافت : ألست راسم؟.
علي الجندي أوّل من نشر لي قصيدة في سوريا.
قال الرّاحل ممدوح عدوان إذهب إلى علي الجندي في كافيتيريا النجمة ، ستعرفه حتما..هو الذي تجده ضاحكا بصوت أعلى من الجميع.
بين كل الشّعراء الذين عرفتهم كان الأكثر حبّا للحياة وانغماسا فيها، هو الذي عاش طويلا حقّا، ولكنه عاش حياة عريضة أخذته إلى المجالس والسّهر وبالتأكيد حب الناس وبساطة التعامل مع الأشياء كلّها إلى الحد الذي يجعلنا نقول دون مبالغة إنه عاش الحياة في الشعر مثلما عاش الشّعر في الحياة.
أتذكّر ذلك إذ يمرُ أمامي شريط أيامه، وبالذّات تلك النبرة الخافتة في شعره في أزمنة الصّخب وانغماس القصائد في رنين الأحداث السّياسية وفوضاها. في تلك العقود المزدحمة بالخسارات، والحروب الدّامية كتب علي الجندي لهاثه الذي اختار له وجع روحه، وقلقه الوجودي، وحزنه الشّفيف ووحدته، ورؤاه الملتاعة فاستحقّ دعابة الرّاحل محمود درويش الذي أعلن أنه يحب علي الجندي لأنه بالذّات “شاعر غير تقدمي” في تلميح ساخر إلى ضجره من طنين الشّعارات عند الآخرين.
هكذا انتحى ركنا قصيّا في الشّعر لم يسكنه سواه والرّاحل فواز عيد، رغم أنهما معا لم يكونا قصيّين عن المجالس والعيش الصّاخب، وكأنهما أرادا عن تصميم سابق أن ينغمسا في العيش فيما ينفردان في الشّعر.
علي الجندي هو أيضا “راية منكّسة” ظلّت تهدينا إلى الوجع كلّما داعب النعاس عيوننا وأوشكنا أن نغفو ، وكما هو شاعر اللّغة الفردية والمحتمية بضعفها وتلاوين ظلالها الرّمادية ،هو أيضا حضور الحب بتجلّياته في الرّوح، وفرادات أحزانه حين تعصف بقلب الشّاعر وتأخذه نحو مغامرات التجريب. شاعر كسول لا يحب ولا يرغب “أن يكون موظّفا عند قصائده” كما كان يردّد ، وهو لهذا السّبب نفسه لم يحتفل أبدا بشعره ولم يقم له صخبا من أي نوع ، بل لعلّه أكثر من ذلك كان “ينفض” يده من القصيدة فور انتهائه من كتابتها وكأن هاتف اللّحاق بالسّاهرين يطارده كي يلحق بالحياة كأنها “الباص الأخير” الذي سينقلّه إلى الأصدقاء.
حين صدرت أعماله الكاملة قبل سنوات وجدت نفسي أفتح بسرعة على ديوانه “الرّاية المنكّسة” ، لعلّي كنت أفتش في السّطور والكلمات عن سرّ تلك الجمرة التي لازمته حتى رمق حياته الأخير : اللّوعة.
غاب علي الجندي قبل سنوات طويلة من غيابه الأخير.
ترك مقعده في مجالسنا وترك رنين ضحكاته وأنين قصائده في زمان صار أكثر وحشة وأقل بهاء.
علي الجندي أنت معنا.
المستقبل
أجمل حوار مع يعسوب الشعراء وظريف دمشق علي الجندي
الجمل – نبيل صالح: دعت دار الجندي للنشر وجمعية أصدقاء سلمية لتكريم الشاعر علي الجندي يوم السبت 25 آب الساعة السادسة في المركز الثقافي العربي بسلمية. وبهذه المناسبة نعيد نشر (أجمل حوار مع علي الجندي) كما وصفه سامي الجندي بعد نشره في 23/3/1990 (بجريدة تشرين)، وكنت حينها أجري حوارات غيابية للشعراء السوريين بعد أن أحصل على موافقة الشاعر (بحضور شاهدين) وقد اشتهرت في جريدة تشرين في أواخر الثمانينات بواسطة هذا النوع من الحوارات الغيابية مع شعراء ودواوين شعر حيث قدمت نمطاً جديداً من ثقافة الصحافة في سورية ولاقت استحساناً من القراء والشعراء، وكان صديقنا المشاغب يعرب العيسى يفكر بإصدارها في كتاب، ثم أفلست دار (البلد) على اسمي، وهذا أفضل ما جرى لصاحبنا يعرب، حيث تحول من الأدب إلى ساحة الاقتصاد وبات يحتسي قهوته مع الوزراء والمستشارين الحكوميين الذين نشتمهم في (الجمل) التي ساهم يعرب بتأسيسها.. وحتى لا نطيل عليكم، نقدم لكم نموذجاً من حواراتنا الغيابية في أواخر ثمانينات القرن المنصرم وهي بعنوان:
علي الجندي:
موسيقي يستمع إلى صوت الطبيعة ويستمتع بمخالفة الأعراف في الحياة كما في الشعر
حملنا روحنا وذهبنا إليه:
– صباح الخير أيها الشاعر.. استقبلنا بابتسامة وأشار أن أجلس حتى لا تكدر استرسال الموسيقى اليونانية.. موسيقى زوربا وهي تنساب عبر اصص الزهور ثم ترفرف في الفضاء فوق البيوت المتناثرة في شعاب جبل الفقراء كما يدعوه هو.. في كل صباح يقف بنافذة بيته العالي كعش النسر ليتأمل حركة الناس في هذا الحي المخالف على اطراف جبل قاسيون.. يشرد مع الموسيقى.. عبر الدروب القديمة. خلال ضجيج الأزقة، يمضي مجرجراً خطواته المتعبة كأنه ينساب فوق وحول السنين، خائضاً لجة الذكريات..
– بعد ساعة من النشوة وأنا أتأمل انفعالات وجهه: وجه رجل في الستين عرف معنى النشوة وشغف الحياة.
* قلت:- كأنني أرى طيف زوربا في ملامح وجهك؟
قال: – قد سمعتها من كثيرين.. ولكني اؤكد لك أني اشبه بزوربا الذي كان يسكن روح كازاتنزاكي من ذاك الزوربا الواقعي الذي عاش معه في جزيرة كريت.
* والموسيقى، كيف بدأت علاقتك بها وكيف تموسقت مع لغتك الشعرية؟
– في طفولتي كانت اسرتي تعيش في بيت منعزل عن الضعية، وكنت كثير الحركة، ابحث دائماً عن شيء ألهو به في هذه العزلة، اتتبع أعشاش العصافير، أركض خلف السحالي واستمع إلى زمزمة النحل. وكان أكثر ما يفتنني صوت الحليب عندما يتدفق من ثدي البقرة.. بقرتي الوحيدة التي كنت ارعاها حافياً.. حتى الآن مازلت أذكر ذلك الصوت السحري، عندما أقطف ورقة تين وأكورها على شكل كأس تحت الثدي ثم أحلب الحلمة: بش بش.. كنت أحس بكل طمأنينة العالم وكل هذا الارتواء.
ومن يومها وأنا أحاول أن أنسق بين هذا الصوت الدافئ وبين موسيقى الشعر الذي افتتحت حياتي بها.
* هذي هي الموسيقى التي تعيد لك طفولتك.. ولكن ماهي الموسيقى التي تعيد لك شبابك؟
– موسيقى كعب حذاء نسائي يخطر خلفي على الرصيف، كأصابع فنان تعزف فوق مفاتيح البيانو.. في تلك اللحظة تتفتح مصاريع ذكرياتي وأشعر بالحنين لكل هذا العدد من الحسناوات اللواتي سأغادرهن يوماً.. ولكن، آه ياولعي المجنون بالحياة، اقفر الساح وعربد الأصيل..
* ألا تخشى من ان تسمعك زوجتك؟
– دلال؟ هذه آخر حسناء اقفلت علي الباب.. لقد ولت ايامي والصبايا الان ينادينني (عمو علي) وللحقيقة فقد غدا شعوري أبوياً نحوهن.
* ضحكت متخابثاً وأنا اردد مقولة زوربا: (عندما يفقد أحدنا أسنانه يصرخ قائلاً: من العار أن تعضوا أيها الأصحاب).
– هيه.. كن طيباً وإلا امتنعت عن الحوار معك!
* في هذه الحالة سأجري معك حواراً غيابياً..
– وأنا لا مانع عندي لقد مللت من اولئك الصحفيين الذي يسألونني عن تاريخ ولادتي واسم قريتي وشهاداتي واسماء مؤلفاتي ووزني أيضاً.. وما أرجوه هو الا يسألونني عن تاريخ وفاتي…
* الشعراء لا يموتون يا عزيزي، وانما يبقون احياء في اغاني الناس وذاكرتهم…
– اذن هيا بنا ننزل إلى الناس..
اعطاني آخر ديوان مخطوط له ريثما ينتهي من حلاقة ذقنه.. تأنق ثم تعطر ولما خرجنا زادت ابتسامته اتساعاً…
* هل ننزل في المصعد؟
– لا أحب السجون المغلقة.
* وهل جربتها يوماً؟
اختفت ابتسامته ثم أجاب:- لماذا تود تعكير مزاجي؟
* عفواً، (أبا لهب) لم أقصد ذلك.. ولكن، لماذا اخترت هذا الاسم المشاكس لابنك الأكبر: لهب؟
– كنت استمتع بمخالفة الاعراف، في الحياة مثلما في الشعر.
خرجنا إلى النور. وقبل ان نقطع الطريق صافح آذاننا صوت نسائي ناعم:- علي.. ياعلي.. انتبهت إلى سيدة اربعينية تحمل بيدها أكياس خضار قلت:
* هي زوجتك، السيدة دلال حاتم؟
– كيف عرفت!
* لانها نادت بـ علي (حاف) بكل بساطة.. أهلاً مدام.. تعارفنا ثم مدحنا بعضنا:
– كتاباتك لطيفة..
* شكراً لقد تربينا على قراءة قصصك في مجلة أسامة..
قبل ان تودعنا سألت مازحة: – ماهي اخبار بقرتك الثقافية؟
* انها تعكف على كتابة مذكراتها بعد تحسن وضعها المعيشي..
في الطريق كانت التحيات تأتي من كل أهل الحارة مستفسرة عن أحوال الاستاذ..
* سألته: إلى أين يا مولانا؟
– إلى مطعم “الشرفة” لنعمل بنصيحة سيدنا المسيح: كثير من الخمر يفرح قلب الإنسان!
* قلت مصححاً: – قليل من…
– يجب ان تعلم أن قليل الانبياء كثير بالنسبة لنا…
حسنا، انك تشرح النصوص بطريقة ممتعة…
هاقد وصلنا إلى مبنى الاتحاد الفخم. المصعد معطل. نرتقي الدرج. كانت الساعة قد بلغت الثانية ظهراً وموظفي الاتحاد يغادرون.. بينما كنا نصعد التقينا برئيس الاتحاد وهو هابط سلاماً فكلاماً:
– اهلا استاذ علي.. امازلت تسرج القوافي؟
– لكنها تغير نحو الموت دونما أعنة..
تحيات سلامات… ابتسامات ليعسوب الشعراء وظريف دمشق.. في الطابق الرابع أخذه التعب.
* قلت ساخراً:- أنهم يقتلون الخيول؟
– هذا أفضل من أن تنفق مللاً…
* وهل تخشى الملل؟
– ولماذا برأيك نحن بحاجة للأولاد والأحباب والأصدقاء!؟ و.. اسمع .. هناك أسطورة تؤكد على أن الملل هو السبب في تطور الحياة!! تقول الأسطورة: أن الملال أصاب الآلهة فخلقوا الإنسان.. وأصاب الملال آدم لانه كان وحيداً فخلقت حواء.
وهكذا دخل الملال في العالم. وازداد بقدر ازدياد عدد السكان.. وكان آدم في ملال وحده، ثم أصاب الملال آدم وحوء معاً فأنتجوا أولاداً للتخلص من هذا الملال.. ثم أصاب الملال آدم وحواء وقابيل وهابيل كأسرة.. ثم ازداد عدد سكان العالم فأصبح المجموع في حالة ملال بالجملة كجماعة…
كنا لا نزال نصعد الدرج المتعرج عندما توقف من جديد:
– اسمع! هل تذكر ما قاله فاوست: ندور في حلقة مفرغة، على دروب متعرجة وقويمة.. واعرف جيداً أن الجهل مصيرنا. وهذا أكثر ما أبغض وأكره..) أكملت له المقطع: «وهذا أنا ضائع بين ركام من كتب يفتك بها الدود والغبار..».
أخيراً وصلنا إلى “شرفة” كتاب الوطن.. كان المكان فارغاً سوى من بعض الندلاء وشاعر شاب ينظر بلهفة إلى وجه صديقته وشفتيها اللتين تتحركان باستمرار.. قبل أن نجلس قطب علي الجندي وجهه فجأة وكأنه تذكر شيئاً!
– هيه؟ لماذا لم تقرأ في مخطوطتي التي أعطيتك إياها قبل أن تخرج.. شاهدتك وأنت تلقي بها جانباً يا… (قام بشتمي بطريقة فنية وناعمة).
* لأني أعتقد أن حياتك أكثر شعرية من شعرك، وأنا قد أتيت لمتابعة تفاصيلها بدلاً من تبديد الوقت في تصفح دواوين يمكنني قراءتها فيما بعد..
– أنت تشتم بطريقة ممتعة أيضاً..
جلسنا في الجهة الغربية لنطل على المساحات الخضراء المتبقية من هذي المدينة التي استعمرها الاسمنت.. وكأمير متقاعد كان الندلاء يحتفون بأبي لهب: غطاء الطاولة الأبيض والكؤوس البلورية الشفافة، قفص الطيور وعازف البيانو.. الجميع يخدمونه بسرور. امتلأت الطاولة وأترعت الكؤوس. وكنت أفكر بأننا سنعيش امتلاء اللحظة كحبة حنطة ناضجة.. أمسكت قلمي ثم تناولت ورقة وخططت عليها:
* وهذا أنا رهيف كسيف حزين/ وهذا رغيفي، وأنت.. أنا/ وكل الصحارى، وكل الندى تودع فصل الخريف/ وهذا بقايا الرغيف/ فهيئ لنا الزاد والمحبرة.
أخذ الورقة والقلم وخط عليها «وهذا زمان الحكايا الرديئة/ وتحت فروع الفلاسفة الصيد يورق صخر الخطيئة».
قلت له: – صحيح أن الفشل الدائم في الحب هو الذي يخلق الفلاسفة والفنانين..
– لأنه عندما يكون لديك أنياب قوية ومعدة جيدة لن يتوفر لديك الوقت للتفكير..
* ولكن، لماذا نحن ضعفاء أمام كل هاته النساء اللائي يحاولن امتلاكنا؟
– عندما تحبك المرأة أكثر مما ينبغي يصبح حبها سجناً لك.. وأنت كرجل معشوق تنتقل من ملكية الأم إلى ملكية الزوجة.. ما أغبانا ونحن الذين نظن أننا نحرك العالم! إنما النساء هن اللواتي حركن التاريخ. ولو أردت دراسة التاريخ لبحثت في سيرة زوجات السلاطين والفاتحين وعشيقاتهم.
صمت علي وسرح بصره فوق دمشق. كان في عينيه التماعة من حزن وحنين.
تنحنح ثم قال: -كانت أمي تسرّح لي شعري وتزرر لي قميصي. تقبلني ثم تربت على ظهري: – هيا إلى المدرسة يا حبيبي.. أيضاً زوجتي كانت تفعل الشيء نفسه قبل ذهابي للعمل.. أيتها النساء لقد تعبنا من حبكن..
* ولكنك قد أدمنت هذا التعب.
– لأنه يساعدني على فراق الأصدقاء.. كل هذا العدد من الذين أحببتهم وغابوا.. بعضهم ابتلعتهم الأرض، وآخرون ابتلعتهم ديمقراطية الغرب بعدما رحلوا..
* وأنت بقيت هنا كطائر مقيم.
– اعشب الحزب على ارماس أحبابي، ولم يبق لحقلي من تخوم.. «ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردا».
* سيف!.. ولكن البشر استغنوا عن السيوف هذه الأيام.. لقد غدا الشعر ترفاً أيها السيد.
– بعد ما كان خبزاً يقاتل البشر من أجله..
وبعفوية أخذ يخط على الورقة التي ملأها بالخطوط المتشابكة كحياته: جالس وحدي على مائدة الإيقاع أستجدي من الصمت قصيدة /طاعن في الوهم، لا شمس على دروبي، قوافيّ حزانى، وأمانيّ فريدة.
* أنت تبكي يا أبا لهب!
– لأن العالم مازال يصدمني، كالطفل ساعة الولادة: يبكي محتجاً لمجيئه إلى هذا العالم المجنون.
* مع ذلك فأنت تحب هذا العالم وتحاول تجميله بالشعر.. كم أنت شبيه بدون كيشوت..
تبسم من جديد وقال: -أهذا مديح أم شتيمة؟
* كلاهما معاً.. الشعراء فاشلون كبار، يقدمون حياتهم لإضاءة العالم.
والذي يحصل هو أن يحرقوا أنفسهم.. كل جيل يضم رجلين أو ثلاثة يضحى بهم من أجل الآخرين ومهمتهم أن ينشدوا في الآلام المروعة ما يستفيد منه سائر الناس. هذا ما كان يردده كير كيغارد..
بعد هذه الكلمات الجدية تابعت وبشيء من الشقاوة:
* أستاذ علي، أنت الآن في الستين. ألم تنته من اللهو بعد؟
– (شتيمة).. أنا أكبر من أن يرضيني اللعب واللهو، وأصغر من أن أحيا بلا رغبات.. كلما تقدّمنا في العمر تعلقنا بالحياة أكثر وعرفنا قيمتها.. وأنا لا أستطيع أن أعزف عنها عندما تهتز أمامي بكعب عال وساقين ممشوقتين.. كلما ابتعدت عن الماء عرفت قيمته أكثر يا صديقي الشاب..
كان يبحث عن فسحة بيضاء على الورقة الممتلئة فسارعت بوضع صفحة أخرى أمامه.. فبدأ يكتب بخط جميل:
وأمضي، أنقل خطوي برفق خلال المدينة/ إذا لاح طفل يحدق فيّ، يخيل لي أن أمسي يلوح بعينيه احزن/ يوقظ آلام عمري الدفينة، مررت على كل شيء قديم وصار يهلّ عليّ نشيد المطر/ لقد جمد اللحن في خاطري.. وأمسى جنون شبابي حجر!!
وعندما قرأت «نشيد المطر» علمت أنه تذكر صديقه الراحل بدر شاكر السياب فتركته لأشجانه ومضيت تاركاً إياه مع أحلامه القديمة المنسلة عبر شقوق المرارة والفرح وأنا عالم أني وأنتم وأنتن سنتسرب عبر رمال شبابنا داخل لعبة الزمن.. وكان لسان حالي يردد قوله:
كان نهر البكاء ينساب من أول الحقل المدمى إلى مشارف أهلي.. كنت من كوة الغيوب مطلاً، وعلى وهجها المريع.. أصلي.