صفحات ثقافية

عام على رحيل محمود درويش

null
محمود درويش الشاعر العائد في ذكرى رحيله الأولى

عام على غياب محمود درويش: التاسع من آب (أغسطس) 2008 بات يوماً غير عادي في «مفكرة» الشعر العربي وفي ذاكرة فلسطين المفتوحة على المستقبل الذي ليس بواضح.

حضر محمود درويش خلال العام الفائت بشدة ليس عبر موته الأليم الذي حل كمأساة، وليس عبر ديوانه البديع «لا أريد لهذي القصيدة ان تنتهي» الذي صدر بُعيد رحيله وأثار سجالاً لم ينته، بل من خلال المعنى الذي رسّخه هذا الغياب المفاجئ الذي لا يمكن وصفه إلا بالحضور الساطع. كانت الحاجة ماسة الى محمود درويش خلال عام غيابه، الشعر العربي الحديث افتقده، فلسطين الغارقة في مآسيها السياسية والجغرافية والإنسانية افتقدته، المنفى الذي اضحى الى لا نهاية افتقده ايضاً، الحياة افتقدته، الأصدقاء والأعداء…

لا نتذكر هنا محمود درويش، فهو من شدة حضوره كاد ينتصر على الغياب ليكون كما كان دوماً، نجماً ساحراً في ليل الحياة العربية. كاد ينتصر… بل انتصر حقاً.

محـمــود درويــش الأب الـثـانـي

عباس بيضون

في مجموعاته الأخيرة تراجع الموضوع الفلسطيني وغدا ضمنياً أو ضامراً في النسيج الشعري، لكن محمود درويش الذي استطاع أن يؤسس «زعامة» شعرية لا تتبع جمهورها بل توجهه ظل بهذا الموضوع وبدونه الرمز الأكبر للصراع الفلسطيني، والأرجح أن غيابه تكفل أكثر بتوطيد رمزيته فيما يأكل الصراع رموزاً كثيرة وأدى إلى كسوفها. يحتاج الشعب الفلسطيني الآن أكثر فأكثر إلى رمز كمحمود درويش، إلى شاعر لا إلى سياسي. السياسة في الانقسام والانسداد والاجترار والانتكاس الحالي، لا تفعل سوى دهورة التاريخ الفلسطيني وشرشحته وابتذاله، فيما يبدو في المثال الدرويشي على مستوى آخر هو مستوى المأساة الإغريقية والصراع الأنطولوجي والأسطورة الحديثة والسؤال الإشكالي.

رحل محمود درويش قبل مأساة غزة وقبل احتداد الصراع بين الإخوة الأعداء، أحداث كهذه لم تغط على ذكرى محمود درويش بل أضاءتها. الأرجح أنها استعارت رغم كل الاعتدادات، صوت محمود درويش الرثائي الذي يغني المهزومين والمعارك الخاسرة. صوت محمود درويش الذي يحمل عذابات الهوية ومفارقاتها والصراع شبه اليائس على الذاكرة وتيجان الخسارة والصمود والمصائر السيزيفية، فيما كانت فلسطين تتحول على أيدي السياسيين المتكالبين إلى لعبة وإلى تجارة يومية ظلت في شعر محمود درويش رمزاً. فلسطين الشتات الأوذيسي والهجرات والهوية الدامية والمصائر التراجيدية بقيت في شعر محمود درويش. إنها القصيدة لا المناكفات وفيها سيجد عشرات ألوف بل مئات ألوف الشهداء والمغلوبين والثكالى والأيتام بل والأماكن المسروقة والأشجار المقتلعة، كل هؤلاء سيجدون ذاكرة ومكاناً.

ينتصر الثقافي على السياسي في الظرف الفلسطيني الراهن ويغلب الشعر السياسة. السياسة في تدهورها تعجز عن الإحاطة بالواقع الفلسطيني وتمثل تاريخه، فهي الآن بلا تاريخ بقدر ما هي بعيدة عن الواقع. لكن الشعر يستطيع أن يحمل تاريخاً وأن يردد من جديد النبض الحقيقي للواقع، الشاعر المقيم على التلة يستطيع من وراء القبر أن يمنح هذا الشعب روحاً فيما يتناهب السياسيون أشلاءه.

كان المفترض مع الذكرى الأولى لرحيل محمود درويش أن يبدأ الفصل الصعب ما بين محمود درويش والصراع الفلسطيني، أن نتمكن من قراءة محمود درويش بدون الفضاء الفلسطيني الذي يشكل صفحة أخرى ونصا أوسع. كان مهما تخليص هذا الشعر من ظرفه وملابساته وقراءته شعراً فحسب. لا أعرف إذا كان هذا ممكناً لأي شاعر لكن في حال محمود درويش لا بد أن يتأجل وربما أعواما أخرى. هذا الشعر لا يزال يتفاعل في الظرف والصراع بل يبدو أنه يغدو مع الوقت، أكثر دينامية. شعر محمود درويش لا يتأثر بغيابه ما دام كله يتحدث عن غائب ومفقود وخسارة محمولة على الأعناق وعودة بلا طريق. ينضاف شعر محمود درويش إلى الفقدان الفسطيني ويغدو جزءاً من الغياب ومن الخسارة. وفي الصراع الفلسطيني يتساكن الموتى والأحياء ولا يبدو الأحياء في كثير من الأحوال أكثر حياة من الموتى. هكذا يمكن لساكن التلة ان يكون فاعلاً وحاضراً أكثر بكثير من أحياء لا يحملون على مناكبهم التاريخ ولا الحاضر.

يخدم شعر محمود درويش كجندي لكنه يخدم أكثر كمعزٍّ، انه يقدم لقارئه أكثر من الشعر، شيئاً من التعاطف والتطهير، معنى للخسارة والتضحية والفقدان. ويقدم له رغم كل شيء ومن داخل الألم نفسه ايجاباً، ونوعاً من الرجاء. هذه المساكنة مع الموتى والضحايا ومع الذاكرة والتيه العوليسي تحولت بفعل الشعر الى حاجة والى حقيقة، الى نوع من الحياة. سرت سريان الأغنية حاملة نوعاً من الوعد واسلوب حياة. كان شعر درويش في تواليه يفعل ما لم يستطعه المؤرخون (اذا وجدوا)، يلملم الشتات الفلسطيني المبعثر المتشظي في الزمان والمكان، يضيفه جزءاً الى جزء وصورة الى صورة، يرصه على جذع الذاكرة التي وحدها سلمت تقريباً. على هذا الجذع يضع الدائرة الأولى وتتوالى الدوائر صانعة ما يشبه الحكاية. مع البعد ومع الشتات القادم والأفق المسدود تعدو الحكاية حاجة بل تطلباً، يحتاج الفلسطيني اليوم الى هذه الحكاية ويجدها في الشعر لا في السياسة. لقد صنع محمود درويش لفلسطين اسطورتها الخاصة ويحصل اليوم ان يغدو الشعب بحاجة الى هذه الاسطورة. الى الرجاء غير الكاذب الذي تقدمه الى الجذور والآفاق التي تتضمنها. ربما لذلك يغدو الرجل المقيم لتلة أكثر حقيقية وأكثر استشرافا وفاعلية من الذين يخوضون في وحول الحاضر. يحتاجه الفلسطينيون اليوم أكثر وفي غيابه يغدو المؤسس الثاني والأب الجديد.

السفير
تأملات وانطباعات في الذكرى الاولى لرحيل محمود درويش: حامل عبء الأرض والقصيدة
أمجد ناصر
بعد ‘انقلاب غزة’ سألت محمود درويش عن رأيه في ما يجري. قال بنبرة مكتئبة: إحنا خيبة أمل يا أمجد! نحن خيبة أمل إذن؟ من نحن؟ النخبة السياسية الفلسطينية السائدة. اليوم نتذكر محمود لأكثر من سبب. لا نحتاج، في الواقع، سبباً لتذكره. فالذكرى قد تعني أيضاً النسيان.. يوم رحيله أو يوم ولادته مجرد ذرائع لاستحضار الغائب الحاضر. لكننا ننصاع لهذه السنَّة التي لا تليق بواحد له هذا الحضور (الذي ضاعفه غيابه).
‘ ‘ ‘
لمحمود وجه واحد هو القصيدة. حمل ألقاباً أخرى وظل لقب الشاعر أقرب إليه من حبل الوريد. قلة من الشعراء تجاوز تأثيرهم الحدود التي يتحرك الشعر داخلها. محمود من هذه القلة. هناك شعراء فلسطينيون عبروا عن زمن أو مرحلة في حياة الشعب الفلسطيني. نتذكر، على هذا الصعيد، ابراهيم طوقان، أبو سلمى، عبد الرحيم محمود، هارون هاشم رشيد، فدوى طوقان، معين بسيسو.. لكن لم يقيض لواحد من هؤلاء أن يصبح عنواناً لسردية كبرى. كثير هذا الحمل على القصيدة. كثير على شاعر مجازاته الأولى قمر وفراشة وزنبق وحبق وقهوة ونبيذ. لا نعرف كيف حصل ذلك. ربما لا يعرف دوريش نفسه كيف تحول ذلك الشاب النحيل، بين نحيلين مثله، إلى رواي ملحمة الاقتلاع والبقاء والأمل. الغريب أن تلك المواصفات تكاد تعيد دور الشاعر العربي القديم في قومه وأهله. لكن محمود درويش لم يكن شاعراً قديماً. لم يكن ‘وزير إعلام’ قومه أو الناطق باسمهم بحسب وصفنا لشعراء مدونتنا الكلاسيكية. درويش شاعر حديث. انهمك في ورشة قصيدة تدأب، دائماً، لتوسيع حدودها الجمالية. تعمل على الوصل مع القديم من جهة والقطع معه من جهة أخرى. تدرج نفسها، بدون مانفيستو، في قلب سجالات التجديد الشعري. تستضيف الأنا والآخر على هوّة الحضور والغياب. الميزة الأخيرة هي التي يلحظها التلقي الغربي في قصيدة درويش ويكاد يختصرها في خصلة واحدة من خصالها المتعددة.
‘ ‘ ‘
عام، إذن، مضى على رحيل الشاعر الناهض بـ ‘عبء الأرض’ وعبء القصيدة. سريعا يمكن تبين خسارته، خصوصاً، في ظل الوضع الذي تعرفه ‘الساحة الفلسطينية’ اليوم. هناك صوتان فلسطينيان نهضا، كل من موقعه، بقسط وافر من عبء السردية الفلسطينية المتكونة، بصعوبة، في مواجهة سردية اسرائيلية (يهودية ميثولوجية) طليقة السراح. الصوتان، كما نعرف، هما: محمود درويش وإدوارد سعيد. الصداقة التي جمعت بين الرجلين الراحلين قامت، أغلب الظن، على هذا الأساس. أحسب أن موقع درويش في تكوين السردية الفلسطينية جوهري. فهو صوت المقاوم للمحو، مثلما هو صوت الشعر القادر على مخاطبة وجدان أكبر مساحة مما تحسن السياسة مهما كان حسن تدبيرها وحصافتها.
نلاحظ، اليوم، الفراغ الذي تركه درويش على هذا الصعيد. فليس بين ليلة وضحاها يتم تكوين صوت مسموع لسردية ما مهما كانت الأجواء معدة لاستقباله. الأصوات التي تنهض بعبء السرديات تتكون تدريجاً وببطء شاق. اقتضى الأمر أكثر من أربعين عاما ليكون درويش صوتاً مسموعاً للسردية الفلسطينية خارج نطاقها الثقافي. أتحدث، هنا، عن صوت انساني عميق، قادر على ايصال خطاب الضحية، لكن المقاوِمة، بذكاء إلى ‘الآخر’، عن صنع رواية لحياة الضحية ومقاومتها الواقعية والرمزية للاجتثاث والمحو، عن استعادة الأصوات الضائعة في فضاء القوة. هذا هو الجانب المباشر لعمل السردية الفلسطينية التي لا تتحرك لوحدها في مجال ‘الآخر’ بل تواجه سردية الجاني والمحتل التي تحظى بشبه اجماع دولي. تحظى بالدعم المادي والرمزي لبقاء عمل القوة وتغطرسها وتحظى باعتراف ناجز بـ’هوية’ صنعتها على أنقاض شعب آخر شرد من أرضه وجرد من هويته. اقامتي في الغرب مكنتني من فهم عمل السرديات أفضل. خصوصاً، سرديات الشعوب التي تعمل على صنع هوية لها في مرحلة ‘ما بعد الاستعمار’. ليس صدفة أن عمل إدوارد سعيد الفكري تركز أيضاً على هذه الجبهة. فقد أصبحت أعماله الفكرية سلاحا مهما لتفكيك البنى الفكرية الواضحة والمخاتلة التي يتكون منها الاستعمار. هناك اليوم مدرسة فكرية ونقدية في الاكاديميا الغربية من تلاميذ إدوارد سعيد تشتغل على دراسات ‘ما بعد الاستعمار’ سواء في افريقيا أم آسيا. شعر محمود درويش أساسي في الأعمال الفكرية والنقدية التي تواجه الطمس. ليس الفلسطينيون وحدهم هم الذين يشهرونه سلاحاً بل يمكن لكثيرين في العالم أن يفعلوا. فقد استطاع درويش أن يتجاوز، بمنجزه الشعري، ‘محلية’ الصراع الى أفق كوني لا تبلغه إلا الأصوات الكبيرة.
بهذا المعنى تحول شعر درويش الى ما يشبه ‘هوية’ الضحية وصوت الانسان الضائع في فضاء تحكمه القوة والغطرسة والاستهانة بحيوات وثقافات تقع خارج ‘المركز’. بهذا المعنى يمكن للهندي الأحمر أن يستعيره وأن يتحرك من خلاله كما يمكن للافريقي أو الآسيوي التماهي به.
قيض لدرويش أن يلعب هذا الدور. لم يكن يخطط له. أنا أعرف، أيضاً، أنه لم يكن يرغب فيه. فذلك عبء كبير على شخص واحد. خصوصاً على شاعر لا يريد أن يحشر في خانة مهما كانت هذه الخانة نبيلة وضرورية. التفلت من الخانات هو، على ما نعلم، طبع الشاعر. القصيدة تدافع، دائما، عن مجالها التعبيري وتحاول تحصينه في مواجهة ‘إكراهات’ الزج والتوظيف. فعلت قصيدة درويش شيئا من هذا ولكنها وجدت نفسها، مطالبة، أيضاً، بعبء اضافي. كان عليها أن تنهض بهذا العبء من دون أن تتحول شعاراً وكليشيه.
هناك عناصر متعددة لا مجال لاستعراضها، هنا، لعبت دوراً في جعل محمود درويش صوت السردية الفلسطينية وراوي ملحمة البقاء والمقاومة والأمل، لكن شعره المجنح المتعدد المنفتح على الشقاء الانساني وتراقص الأمل هو، بلا شك، أبرز هذه العناصر. الشعر المتحقق في ذاته. أي المتحقق على أرض فنه وصنيعه وداخل شروطهما. ليس فيلم’ هوية الروح’ النرويجي، مثلا، الذي يفترض أن يتحدث عن قصيدة لهنريك إبسن آخر الأدلة على خسارة محمود درويش. فالفيلم الذي كان مخططاً له أن يكون مكرساً، بالكامل، لشاعر آخر صار فيلماً عن درويش وفلسطين والسردية الفلسطينية من خلال قصيدته ‘جندي يحلم بالزنابق البيضاء’، ليس الانقسام الفلسطيني غير المسبوق والتطلع إلى صوت يجمعُ هو آخر الأدلة. ستكون هناك أدلة كثيرة على فقدان تلك البوصلة الحساسة، ذلك الصوت المقاوم بهشاشة خطاب الضحية وصلابته في آن. فلم ينته العدو من عدوانه. لم تنتصر الضحية على جلادها حتى الآن. والضوء الذي كان يراه، في الحلم، رجل مات مسموماً لم يلح في نهاية النفق الطويل بعد.

الأبعاد والعوامل التي صنعت محمود درويش وصنعها
مازن معروف

القارئ لبعض من سيرة حياة الشاعر الفلسطيني محمود درويش (1941- 2008)، لا بد من أن يستنتج انغماس هذا الشاعر في مآزق عديدة، ظلت متوارية خلف قامة الشعر، الذي حاول على الدوام مد خيوط لغته نحو الكوني والإنساني. فالتزامه مثلاً بقضية فلسطين (ما أوجد تحت خيمته الإنسانية عدواً يتشارك معه الحياة والخطاب حتى في الشعر)، ومن ثم انشقاقه في البدايات عن تقنية التفخيم الخطابي والمباشر ونزوحه نحو الشعر كلغة لا تشترط بعداً سوسيولوجياً أو ظرفاً سياسياً، بدل الشعر الموجه ليخاطب جماعة أو قبيلة أو شعباً (الفلسطينيين مثلاً)، ومن ثم خياره السياسي، وانتظامه بمنظمة التحرير الفلسطينية، ما سحب عليه أكثر من انتقال وطرد وحب لمدن عديدة أخلص لها، كبيروت وتونس وباريس وعمان ورام الله.
وجد درويش نفسه متورطاً منذ بداياته في قضية فلسطين بالمعنى السياسي، والنضالي، والواجب الطوبوغرافي، على حساب تورطه في الشعر، بالمعنى الجمالي أو التكتيكي. حاول درويش (على قدر وعيه الشعري آنذاك) أن يكون شاعراً رومانسياً، على غرار مؤثره، الشاعر نزار قباني. وفعلاً، تم تحرير أول مجموعة شعرية له وهو بعد لم يتجاوز التاسعة عشرة من العمر. كانت المجموعة بعنوان ‘عصافير بلا أجنحة’، وقد عكست في مجمل قصائدها تقليداً مباشراً لأسلوب قباني الشعري، أكثر مما بينت عن موهبة أو صوت خاص شعري لدى درويش. المجموعة صدرت في العام 1960، لكن درويش عاد ليتنكر لها، إذ لم تكن تحوي نضجه الشعري والسياسي، أكثر مما كانت مراهقة في الشعر. بعد أربع سنوات، كان ظهور أول مجموعاته الشعرية الفعلية ‘أوراق الزيتون’، التي قدم في قصائدها لغة خاصة، تجاوزت مهمة التبشير بالمقاومة الفلسطينية. صحيح أن تلك القصائد في مجملها، هي شكل مباشر في الكلام الشعري، وأحد أنماط الخطابيات السياسية الشعرية، والإيديولوجية العاكسة، ليسارية عميقة، كابن للحزب الشيوعي الإسرائيلي ‘ركاح’، لكن درويش كان قد طرح في تلك المجموعة، جزءاً كبيراً من ريش الشاعر الذي يكتب شعراً مقاوماً فقط. وما لا ننتبه له، هو أن درويش كان قد تجاوز منذ ‘أوراق الزيتون’ لقب ‘شاعر المقاومة الفلسطينية’ من خلال استقدامه للميثولوجيا كمقاربة للتحرر، وعزوفه عن مخاطبة العدو بشكل مباشر، متوجهاً نحو الإنسان أولاً وأخيراً، وإن كان هذا الانسان أحد أعدائه. أول أفخاخه كانت قصيدة ‘إلى القارئ’ التي يقول فيها ‘يا قارئي/ لا ترج مني الهمس لا ترج الطرب/هذا عزائي ضربة في الرمل طائشة وأخرى في السحب/../ حسبي بأني غاضب والنار أولها غضب’. هذه القصيدة تحمل اتجاهين متوازيين، أو متعاكسين، كثنائية ستتضح خطوطها ومكوناتها في دواوينه اللاحقة، وخصوصاً تلك التي نعتبرها منعطفات في شكل قصيدته (‘أحبك أو لا أحبك’ 1972، ‘مديح الظل العالي’ 1983، ‘أحد عشر كوكباً 1992 و’جدارية محمود درويش’ 1999).
في الاتجاه الأول، يحقن درويش أوردة قارئه بجرعة من المعنى السياسي نفسه (القضية/ استرجاع الأرض/ الحق بالعودة/ الحق بالصدام مع العدو الإسرائيلي/ العلاقة ما بين الكائن وأرضه، بما تتضمن من أبعاد إنسانية ونوستالجية/..)، وفي الاتجاه الثاني، يحاول أن يهدئ من التوتر المفروض على فحوى قصيدته، وعباراته، بأن يغلف مفرداته بإيديولوجيا شعرية، كبديل عن الإيديولوجيا السياسية والماركسية والنضالية (بمعنى العنفية)، التي شكلت فكي كماشة للعديد من شعراء ‘المقاومة’، لتجعلهم في نهاية الأمر كأحصنة مساقين بالعاطفة.
لهذا فإن درويش يدغم قصيدته بأبعاد جمالية وإنسانية تتجاوز الحالة الفلسطينية، وإن انطلقت منها كنقطة ارتكاز. وبذلك يقيم جسراً ما بين القارئ والشعر، أي ما بين قارئ فلسطيني تحديداً، هو شريحة من قارئ كوني، وشعر هو واحد من فنون، تتجاوز المنطق السياسي، ولا تؤدي وظيفة المنبر لترويج إيديولوجية ما. وعلى ما يبدو، فإن الأمر يعكس شيئين أساسيين في بسيكولوجيا الشاعر تحديداً، وهما: الوعي المبكر للمأزق السياسي ببعده الديمغرافي، وقلق انسحاب هذا على بعد وظيفة الشعر. وهنا كان مأزق درويش الأول. هذا المأزق لغوي، أو تقني بامتياز، وهو مأزق سيجعل الشاعر يبتكر إيقاعات جديدة في قصيدته وأن يتجاوز الموروث الكلاسيكي أو الريادي (آنذاك) للشعر. لكن هذا المأزق سينتفخ تدريجياً ليشكل مساءلات ذاتية للشاعر أثناء كتابته للقصيدة، وسيؤدي به إلى ابتكار أشكال شعرية في قصيدته الواحدة، لتقسم هذه مثلاً إلى قصائد صغيرة مستقلة، أو أن يناور في استعمال التفاعيل الشعرية، موجداً بذلك تنويعاً صوتياً في القصيدة الواحدة، وباعثاً فيها أبعاداً بصرية وملحمية مجازية، إلى جانب رؤيويته.
شعر محمود درويش مشى جنباً إلى جنب مع الممارسات السياسية لمنظمة التحرير لاستعادة الحقوق، لكنه لم يقدم تنازلات للمنظمة، على حساب كيان قصيدته وصورته كشاعر متميز. في المقابل، ظل درويش متشبثاً برؤياه الخاصة التي قفزت خارج سكة الشعبي لتتماهى مع الضفة السياسية للصراع، وخصوصاً مع ما فرضته اتفاقية أوسلو عام 1993 على الفلسطينيين من اشتراطات كان لها أن تمر إليهم عبر منظمة التحرير كممثل وحيد لشعب أعزل. فمن ‘إنني مندوب جرح لا يساوم/ علمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي وأمشي ثم أمشي وأقاوم’ (ديوان ‘آخر الليل’) إلى ‘وللصلح وقت’ (‘جدارية محمود درويش’)، كان هناك شيء يشبه التنازل في إيديولوجيا الخطاب، لكنه لم يكن تنازلاً حاداً، أو صادماً، لناحيتين: أولاً أن الشاعر مهد لهذا الأمر من خلال تعدد الأصوات في دواوينه، وعدم عزله للعدو خارج شعره، وقابليته الحوار مع هذا العدو في قصائد سابقة وقديمة (‘جندي يحلم بالزنابق البيضاء’ عام 1967)، وثانياً لأن بناء الجدارية اشترط حالة مرضية، وخوفاً من زوال الجسد، وهو خوف لا يستثني أياً كان، لذلك أتت الجدارية مكتوبة لتعزيز العمق الإنساني لإبعاد شبح الموت (كتب درويش موته، على أرضية ناورت هذا الموت وحاولت تفكيكه بشكل هادئ، بغية هزمه ‘هزمتك يا موت الفنون جميعها’). ربما ما كان أي شاعر ليأسر نفسه في منطق شعري أو أسلوب، لولا ارتباط شعره بعقدة الصراع الفلسطيني. كان درويش يخطط منذ البداية لجمهور عريض، وهذا الأمر ينبع من ثلاثة عوامل أساسية، أولها تأثره المبكر بنزار قباني كمصمم لثوب شعري استثنائي (سيبقى هذا الأمر فكرة في مساحة اللاوعي عنده) إلا أن محمود درويش خرج سريعاً من عباءة قباني، ليكوّن طين قصيدته من واقعه المغاير تماماً لثنائية شعر قباني البرجوازية- الرومانسية، وذلك بفضل ثقافته، وتعرفه على شعر لوركا، وتمكنه من الاطلاع مبكراً على ملاحم تاريخية ساعدته في إعادة تشكيل الشعب المشرذم خارج أرضه، مستعملاً الميثولوجيا كطريق هروب إلى الوراء، لتعزيز صورة الواقع، وشحنها بـ’الأمل’ الذي ظل المفتاح السري لغرفة محمود درويش الشعرية، المطلية بالألم (‘قصائدنا بلا لونٍ/ بلا طعمٍ.. بلا صوتِ/ إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيتِ/ وإن لم يفهم ‘البُسَطَا’ معانيها/ فأولى أن نُذَرِّيها/ ونخلد نحن..للصمتِ’). أما ثاني هذه العوامل، فهو إدراكه المبكر لتورطه في قضية فلسطين، أي منذ وقف في مدرسته الابتدائية، عام 1958 ليقرأ قصيدة ‘أخي العبري’ في ذكرى تأسيس دولة إسرائيل، فيهاجم الدولة العنصرية، مقارناً بين عيش طفل عربي وطفل إسرائيلي، مسببا ًحرجاً هائلاً لناظر المدرسة ومختار القرية اللذين وبخا الصبي (إلى جانب الحاكم العسكري) بعدما أقلق عليهما ولاءهما للدولة العبرية. والصبي محمود لم يبك عندما نهره الحاكم بقسوة آنذاك، لكنه بكى بمرارة في طريق عودته إلى البيت حين كانت ترن في رأسه كلمات هذا الأخير المهددة بحرمان والده من العمل. لذلك فإن تورطه الشخصي في القضية كان نابعاً من تورط شخصي في المعاناة. ثالث هذه العوامل، هو التحاقه بصفوف منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة بداية السبعينيات، التي سرعان ما أعلنته شاعرها، وإن ظل متحفظاً متجنباً تضارب صورته، مع سلطة عرفات المركزية في المنظمة، لذلك كان احتماؤه بالشعر كسبيل للخلاص بصورته، كما ولاختلافه عن سائر الكوادر السياسية والشخصيات المهمة. وبسبب ‘شعبية’ هذه المنظمة في السبعينيات (بكل ما تتضمنه كلمة ‘شعبية’ من مصالح مع المنظمة أو مخاوف منها)، فقد كان نجم درويش سريع الصعود، بل وشكل قطباً محصناً بكونه شكلاً جمالياً وإنسانياً، بخلاف التشوش الذي عانته المنظمة بسبب الأصوات التي علت لاحقاً في وجه أخطائها. إلا أن درويش اضطر في أوقات ما إلى أن يلعب دور الرسول في ترتيب المشهد الإبداعي الفلسطيني كما يريده عرفات، أو إزاحة الأصوات التي تشكل ‘نشازاً’ على المنظمة. وتورد بعض الكتب أن سجالاً حاداً دار بين درويش وفنان الكاريكاتور ناجي العلي، على خلفية رسومات لهذا الأخير، تنتقد عرفات وسياساته بشكل عنيف.
بقي محمود درويش ينشد المخيم الفلسطيني، كحالة سوسيولوجية مؤقتة، لكن اقترابه من المخيم لم يكن إلا شعرياً، ليتوحد هذا المخيم مع أساطير قديمة في الألم، والحب والوفاء والخسارة ورفض الظلم. وعلى كل حال فإن درويش يمثل حالة خاصة. هو ليس من لاجئي 1948 (بالمعنى القسري)، كما أنه ليس من لاجئي 1967. ابن قرية البروة طرد من أرضه عام 1948، لكن عائلته عادت وتسللت إلى فلسطين خلال هدنة عام 1949، لتسكن في قرية الجديدة، ولـ’يستقر’ الطفل داخل نظام سوسيولوجي فرضته قوانين الدولة العبرية، على سكان القرى الواقعة تحت الاحتلال. لذلك فإن مخيمه كان دائماً مخيماً بسيكولوجياً، لم يعكسه شعره. أضف إلى أنه أحد نجوم منظمة التحرير الذين عاشوا بعيداً عن المخيمات (بالمعنى المعيشي وليس المنبري). كما أن حدسه الشعري كان يدفعه لقراءة الأشياء ومتغيرات الوضع السياسي العام، بشكل غير مباشر. ظل المخيم مساحة أسطورية، أكثر من كونها اجتماعية، ولم ترد وجوه المخيم في شعر درويش إلا مقرونة بالدم، آخذة أحداثه عموماً مساراً ملحمياً – رومنتيكياً بفضل الصور الشعرية والحالة السياسية القائمة آنذاك في لبنان تحديداً.
شاعر فلسطيني من مواليد لبنان

أثره في بيروت
ناظم السيد

سنة كاملة مضت على رحيل محمود درويش. سنة مضى معها الرثاء ليبقى من هذا الشاعر شعره وسيرته التي لا تنفصل عن الأرض التي جاء منها. سنة قد تكون كافية لإعادة قراءة الصوت الذي مثّل نفسه ووطنه وأمته.
أظن ُّ أن عملية فصل محمود درويش عن شعره ليست بالأمر الهيّن. حين نقول محمود درويش نقول فلسطين. هذا أمر أقوى من الشعر. من الصعب أن نفصل العام عن شعر درويش. ثمة أرض واحتلال وموت وتهجير لن يكون في مقدور أي ناقد أو قارئ إزاحتها. في النهاية، هذه مضامين شعرية في قصائد محمود درويش ليس المطلوب القفز عليها. المضمون محرّك أساسي في شعرية درويش. من دونه سيكون الأمر عبثاً.
أظنُّ أن ثلاثة شعراء معاصرين تركوا تأثيرات بالغة في الشعراء الذين عاصروهم أو جاؤوا بعدهم: نزار قباني، بدر شاكر السياب، ومحمود درويش. ليس الأمر تقليلاً من شأن آخرين لديهم تأثيراتهم أمثال أدونيس، محمد الماغوط، سركون بولص، وديع سعادة وسواهم، لكن الثلاثة الذين ذكرتهم من أكثر الشعراء ‘إنجاباً’ في الشعر العربي المعاصر. أجيال خرجت من عباءة السيّاب كما يُقال. شعراء بالجملة قلدوا قباني. ومثلهم فعل شعراء عديدون مع درويش. ربما تقليد قباني كان الأسوأ بسبب الطبقة الرقيقة التي يتألف منها شعره، الطبقة التي من السهل اكتشافها في حالات التقليد. السياب ودرويش كان مقلدوهم أكثر خصوبة. إن شعرية كشعرية السياب ودرويش، تقوم على تعدد الطبقات، من لغة وصوت وبلاغة وطرح، تتيح مثل هذا التقليد. تعطي لمن يرغب هذا الامتياز.
لنترك جانباً نزار قباني وبدر شاكر السيّاب ونتحدث عن تأثير محمود درويش. هذا الأثر ليس قليلاً في لبنان على سبيل المثال. ثمة جيل كامل في لبنان وجد في درويش (وبالطبع في السيّاب في آن) حقلاً خصباً ومشروعية وسنداً. ما كان يُسمّى في لبنان ‘شعراء الجنوب’ تأثروا بدرويش كلٌّ بنسبة ما وبطريقة ما. شعراء أمثال محمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، وحسن عبد الله، والياس لحود، وجودت فخر الدين، وأحمد فرحات، ومحمد علي فرحات (قبل أن يترك الشعر)، ومحمد أبي سمرا (الذي لم ينشر كتاباً شعرياً وإنما مجموعة قصائد متفرقة ليتفرغ كلياً للرواية والصحافة)، وغسان مطر، وآخرين، هؤلاء الشعراء فيهم من درويش روائح كثيرة. بالطبع، كل شاعر من هؤلاء ذهب إلى لغته الخاصة وتجريبه الخاص، ولا يسع المجال هنا لتفنيد خصوصية كل شاعر منهم، لكنَّ درويش كان حاضراً في بداياتهم. كان حاضراً بلغته عالية الصوت، وصوره التي كانت حديثة وقتها في المزج ما بين التجريد والفيزياء، أو ما بين الواقع والغرابة، وفي اعتباره الشعر وسيلة مقاومة ومنتهىً مقاوماً. لقد عمل ‘شعراء الجنوب’ آنذاك على إيجاد معادل شعري ‘جنوبي’ للمقاومة الفلسطينية. ربما ساهم الاحتلال الإسرائيلي (العدو المشترك)، أي الاشتراك في المأساة والمقاومة، في تمتين العلاقة الشعرية ما بين ‘شعراء الأرض المحتلة’- وعلى رأسهم درويش- وما بين ‘شعراء الجنوب’ اللبناني. لكن هذه التجربة ينبغي ألا تعمينا عن الأثر الذي تركته بيروت في شعر درويش. إن ‘محاولة رقم 7’ يعدُّ نقلة أولى في شعر درويش. هذه النقلة ما كان لها أن تتم لولا بيروت. في هذه المدينة عرف الشاعر معنى المدينة للمرة الأولى. وهنا عاش الصراعات الأدبية والأيديولوجية عن قرب. ملاحظة كهذه لن أتوسّع بها لأنني سبق أن كتبت نصاً مطولاً عن درويش نشر في العدد الخاص الذي أعدته ‘القدس العربي’ عن الشاعر قبل نحو سنة.
هذا الأثر لم يلبث أن تمرّد عليه جيل ما بعد السبعينات، أي الجيل الذي عُرف بجيل ‘شعراء الحرب’ (مع الأخذ في الاعتبار أن شعراء كثيرين من جيل السبعينات كانوا يناقضون تجربة درويش كما هي الحال لدى بول شاوول، وعباس بيضون، ووديع سعادة، ومحمد العبد الله، وحمزة عبود، وأنطوان أبو زيد وغيرهم). لقد ترك شعراء الحرب اللغة العالية والبلاغات العضلية وشعر القضية، ليكتبوا بلغة مدمّرة، تماماً كالحرب، قصيدة الهامش والانسحاق والشواغل الخاصة التي لا تنفصل أيضاً عن هواجس الحرب وآثارها. ثم جاء جيل التسعينات الذي لم يجد أمامه من أثر درويش إلا تاريخ الرجل وصدى دويّه. ليس في جيل التسعينات ما يذكّر بشاعر المقاومة الفلسطينية، بمن فيهم الشعراء الفلسطينيون الذين يعيشون في لبنان (سامر أبو هواش، مازن معروف مثلاً). ربما الوحيد الذي فيه من أثر درويش هو سامح كعوش بشعره وتصوره للشعر.
المفارقة أن موت درويش لم يكن موت قضية سياسية. ثمة في لبنان من لا يزال يؤمن بالنضال السياسي والعسكري أيضاً. أظن أن قطع العلاقة بشعر درويش هو قطيعة لغوية مع تحفظي على كلمة قطيعة. ثم إن الشعر الجديد لم يعد رهينة المخيلة الشعرية وحدها، بل بات نتاج وسائط أخرى لم يكن شعر درويش على علاقة مباشرة بها إلى حدٍّ ما.
هكذا توارث الشعراء درويش لدرجة الاستهلاك. لدرجة أن شعراء قادمين باتوا ينفرون من ‘ريتا’ و’البندقية’ و’خبز أمي’. ألم يقل يحيى جابر في إحدى قصائده إنه يريد أن يطبخ جميع الحمامات التي في شعر محمود درويش؟ ألم يقل من قبل إن الصاروخ الذي سقط في طنجرة الكوسا طبخته أمه؟
شاعر من لبنان

عام عـلى غياب محمود  درويش: بهاء التورّط الشعري
“التورط”، أكثر المفردات التصاقا بالشعر. وإذا كانت الكتابة فعلاً ميكانيكيا، ونشاطا ذهنيا شاقا، يستخدمه الشاعر غالبا لتحرير كيانه الخاص المجتزأ من كيان عام، وإطلاق قدميه في عالم الأنا، فإنها هي في ذاتها الكتابة التي تتجاوز منطقها وأسلوبها، لتحيط عنق الشاعر بوجهات نظر مؤيدة له أو معاندة، من دون البحث هنا في مستوى صدقية هذه أو تلك. الشاعر في طبيعته، محكوم بالعنف، والسلطة على الكلمات والمخزون التقليدي للغة، التي بين يديه، وبأدواتها، ومجازاتها، ليتجاوز كل ما هو سابق، بحسب وعيه الشعري، وثقافته. اللغة في حد ذاتها، أرض بور، تدعوك الى تجريبها ولا تدعوك الى مجاراتها أو إعادة تشكيل كثبانها، أو بساطها. عليك دائما أن تغرس أصابعك في بطنها، وتقلب أحشاءها، إلى الخارج، وتعيد تكوين العبارة وإنتاج الجمالية، سواء أكان ذلك بالشعر أم بالأشكال الكتابية الأخرى. لكن هذه العملية في حاجة إلى الأمر الأول، الذي يتشكل عبر حدث يومي (تماه، خسارة، أمل، فقدان، حب…)، كجزء من حدث تاريخي عام، فيحفز مساحة ما من الدماغ تتيح للشاعر رؤية نفسه ومحيطه الآني عبر مرآة مهشمة يحاول وصل أجزائها بقيم جمالية، ليس كتعويض عن خسارة الأرض مثلا، بل كتعزيز للوجود الانساني عبر الفن. من هنا يبدأ تشكّل وعيه بهذا الحدث، سواء أكانت أبعاده عاطفية، إنسانية، سياسية، شخصية، أم جماعية. والشاعر إما أن ينصاع لهذا الواقع المتكثف في لحظة واحدة ثقيلة، وإما يسعى الى تضخيم هذه اللحظة، وتجاوزها عبر جعلها تتماهى مع التاريخ، والتراث الانساني والسوسيولوجي. وفي الحالين، هناك مأزق الصدام مع إيديولوجيات أو أسلوبيات أخرى تسعى الى تفكيك هذا الحدث، ومعالجته في ما بعد. أما التزام هذا الحدث فيمثل مأزقا، وخصوصا في بقعة مليئة بالرؤى الفكرية المتناحرة، لا يوفر أربابها جهدا لإلغاء بعضهم البعض، في أسوأ الأحوال.
قارئ بعض من سيرة حياة الشاعر الفلسطيني محمود درويش (1941- 2008)، لا بد أن يستنتج انغماس هذا الشاعر في مآزق عديدة، ظلت متوارية خلف قامة الشعر، الذي حاول على الدوام مد خيوط لغته نحو الكوني والانساني. فالتزامه مثلا قضية فلسطين، ومن ثم انشقاقه في البدايات عن تقنية التفخيم الخطابي والمباشر ونزوحه نحو الشعر كلغة لا تشترط بعدا سوسيولوجيا أو ظرفا سياسيا، بدل الشعر الموجه ليخاطب جماعة أو قبيلة أو شعبا، ومن ثم خياره السياسي، وانتظامه في منظمة التحرير الفلسطينية، ما سحب عليه أكثر من انتقال وطرد وحب لمدن عديدة أخلص اليها، كبيروت وتونس وباريس وعمان ورام الله.
وجد درويش نفسه متورطا منذ بداياته بقضية فلسطين، بحسب المعنى السياسي والنضالي والواجب الطوبوغرافي، على حساب تورطه في الشعر، بحسب المعنى الجمالي أو التكتيكي. حاول درويش على قدر وعيه الشعري آنذاك، أن يكون شاعرا رومنطيقيا، على غرار مؤثره، الشاعر نزار قباني. وفعلا، تم تحرير أول مجموعة شعرية لدرويش وهو بعد لم يتجاوز التاسعة عشرة من العمر. كانت المجموعة بعنوان “عصافير بلا أجنحة”، وقد عكست قصائدها تقليدا مباشرا لأسلوب قباني الشعري، أكثر مما بينت عن موهبة أو صوت خاص شعري. المجموعة صدرت في عام 1960، لكن درويش عاد ليتنكر لها، إذ لم تكن تحوي نضجه الشعري والسياسي. بعد أربع سنوات، كان ظهور أولى مجموعاته الشعرية الفعلية، “أوراق الزيتون”، التي قدّم في قصائدها لغة خاصة، تجاوزت مهمة التبشير بالمقاومة الفلسطينية. صحيح أن تلك القصائد في مجملها، هي شكل مباشر في الكلام الشعري، وأحد أنماط الخطابيات السياسية الشعرية والإيديولوجية العاكسة ليسارية عميقة، كإبن لحزب “راكاح” الشيوعي الإسرائيلي، لكن درويش كان قد طرح في تلك المجموعة، جزءا كبيرا من ريش الشاعر الذي يكتب شعرا مقاوما فقط. ما لا ننتبه اليه، أن درويش كان تجاوز منذ “أوراق الزيتون” لقب “شاعر المقاومة الفلسطينية” من خلال استقدامه الميثولوجيا كمقاربة للتحرر، وعزوفه عن مخاطبة العدو بشكل مباشر، متوجها نحو الإنسان أولا وأخيرا، وإن يكن هذا الانسان أحد أعدائه. أول فخاخه كانت قصيدة “إلى القارئ” التي يقول فيها “يا قارئي/ لا ترج مني الهمس لا ترج الطرب/ هذا عزائي ضربة في الرمل طائشة وأخرى في السحب/…./ حسبي بأني غاضب والنار أولها غضب”. هذه القصيدة تحمل اتجاهين متوازيين، أو متعاكسين، كثنائية تتضح خطوطها ومكوناتها في دواوينه اللاحقة، وخصوصا تلك التي نعتبرها منعطفات في شكل قصيدته (“أحبك او لا أحبك” 1972، “مديح الظل العالي” 1983، “أحد عشر كوكبا” 1992، و”جدارية محمود درويش” 1999).
في الاتجاه الأول، يحقن درويش أوردة قارئه بجرعة من المعنى السياسي نفسه: القضية، استرجاع الأرض، الحق في العودة، الحق في الصدام مع العدو الاسرائيلي، العلاقة بين الكائن وأرضه، بما تتضمن من أبعاد إنسانية ونوستالجية. في الاتجاه الثاني، يحاول أن يهدئ التوتر المفروض على فحوى قصيدته، وعباراته، بأن يغلف مفرداته بإيديولوجيا شعرية، كبديل من الإيديولوجيا السياسية والماركسية والنضالية التي شكلت فكَّي كماشة للعديد من شعراء “المقاومة”، لتجعلهم في نهاية الأمر كأحصنة مسوقة بالعاطفة.
لذا يدغم درويش قصيدته بأبعاد جمالية وإنسانية تتجاوز الحالة الفلسطينية، وإن انطلقت منها كنقطة ارتكاز. بذلك يقيم جسرا بين القارئ والشعر، أي بين قارئ فلسطيني تحديدا، هو شريحة من قارئ كوني، وشعر هو واحد من فنون تتجاوز المنطق السياسي، ولا تؤدي وظيفة المنبر لترويج إيديولوجيا ما. على ما يبدو، فإن الأمر يعكس شيئين أساسيين في بسيكولوجيا الشاعر تحديدا، هما الوعي المبكر للمأزق السياسي ببعده الديموغرافي، وقلق انسحاب هذا البعد على وظيفة الشعر. هنا كان مأزق درويش الأول. هذا المأزق لغوي، أو تقني بامتياز، جعل الشاعر يبتكر إيقاعات جديدة في قصيدته ويتجاوز الموروث الكلاسيكي أو الريادي آنذاك للشعر. لكن هذا المأزق انتفخ تدريجيا ليشكل مساءلات ذاتية للشاعر أثناء كتابته القصيدة، وأفضى به إلى ابتكار أشكال شعرية في قصيدته الواحدة، لتقسم هذه مثلا قصائد صغيرة مستقلة، أو الى استعمال التفاعيل الشعرية، موجدا بذلك تنويعا صوتيا في القصيدة الواحدة، وباعثا فيها أبعادا بصرية وملحمية مجازية، إلى جانب رؤيويته.
شعر محمود درويش  مشى جنبا إلى جنب مع الممارسات  السياسية لمنظمة التحرير لاستعادة الحقوق، لكنه لم يقدم تنازلات للمنظمة، على حساب كيان قصيدته وصورته كشاعر متميز. في المقابل، ظل متشبثا برؤياه الخاصة التي قفزت خارج سكّة الشعبي لتتماهى مع الضفة السياسية للصراع، وخصوصا مع ما فرضه اتفاق أوسلو عام 1993 على الفلسطينيين من اشتراطات كان لها أن تمر إليهم عبر منظمة التحرير كممثل وحيد لشعب أعزل. فمن “إنني مندوب جرح لا يساوم/ علّمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي وأمشي ثم أمشي وأقاوم” (ديوان آخر الليل) إلى “وللصلح وقت” (جدارية محمود درويش)، كان هناك شيء يشبه التنازل في إيديولوجيا الخطاب، لكنه لم يكن تنازلا حادا، أو صادما، لناحيتين: أولا أن الشاعر مهّد لهذا الأمر من خلال تعدد الأصوات في دواوينه، وعدم عزله العدو خارج شعره، وقابليته الحوار مع هذا العدو في قصائد سابقة وقديمة (“جندي يحلم بالزنابق البيضاء” عام 1967)، وثانيا لأن بناء الجدارية اشترط حالة مرضية، وخوفا من زوال الجسد، وهو خوف لا يستثني أيا يكن. لذلك أتت الجدارية مكتوبة لتعزيز العمق الانساني لإبعاد شبح الموت، ذلك ان درويش كتب موته، على أرضية ناورت هذا الموت وحاولت تفكيكه بشكل هادئ، بغية هزمه: “هزمتك يا موت الفنون جميعها”.
ربما ما كان لأي شاعر أن يأسر نفسه في منطق شعري أو أسلوب، لولا ارتباط شعره بعقدة الصراع الفلسطيني.
كان درويش يخطط منذ البداية لجمهور عريض، وهذا الأمر ينبع من ثلاثة عوامل أساسية، أولها  تأثره المبكر بنزار قباني كمصمم لثوب شعري استثنائي، حيث سيبقى هذا الأمر فكرة في مساحة اللاوعي عنده، إلا أن محمود درويش خرج سريعا من عباءة قباني، ليكوّن طين قصيدته من واقعه المغاير تماما لثنائية شعر قباني البورجوازية – الرومنطيقية، وذلك بفضل ثقافته، وتعرفه الى شعر لوركا، وتمكنه من الاطلاع مبكرا على ملاحم تاريخية ساعدته في إعادة تشكيل الشعب المشرذم خارج أرضه، مستعملا الميثولوجيا كطريق هروب إلى الوراء، لتعزيز صورة الواقع، وشحنها بـ”الأمل” الذي ظل المفتاح السري لغرفة محمود درويش الشعرية: “قصائدنا بلا لونٍ/ بلا طعمٍ… بلا صوتِ/ إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيتِ/ وإن لم يفهم “البُسَطَا” معانيها/ فأولى أن نُذَرِّيها/ ونخلد نحن… للصمتِ”. أما العامل الثاني، فإدراكه المبكر لتورطه في قضية فلسطين، أي منذ وقف في مدرسته الابتدائية، عام 1958 ليقرأ قصيدة “أخي العبري” في ذكرى تأسيس دولة إسرائيل، فيهاجم الدولة العنصرية، مقارنا بين عيش طفل عربي وطفل إسرائيلي، متسببا بحرج هائل لناظر المدرسة ومختار القرية اللذين وبّخا الصبي، إلى جانب الحاكم العسكري، بعدما أقلق عليهما ولاءهما للدولة العبرية. الصبي محمود، لم يبك عندما نهره الحاكم بقسوة آنذاك، لكنه بكى بمرارة في طريق عودته إلى البيت حين كانت ترنّ في رأسه كلمات هذا الأخير المهددة بحرمان والده من العمل. لذا، فإن تورطه الشخصي في القضية كان نابعا من تورط شخصي في المعاناة. ثالث هذه العوامل، التحاقه بصفوف منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة، بداية السبعينات، التي سرعان ما أعلنته شاعرها، وإن ظل متحفظا ومتجنبا تضارب صورته مع سلطة عرفات المركزية في المنظمة. لذلك كان احتماؤه بالشعر سبيلاً للخلاص بصورته، ولاختلافه عن الكوادر السياسية والشخصيات المهمة. وبسبب “شعبية” هذه المنظمة في السبعينات، بكل ما تتضمنه كلمة “شعبية” من مصالح مع المنظمة أو مخاوف منها، فقد كان نجم درويش سريع الصعود، بل شكّل قطبا محصّنا بكونه شكلا جماليا وإنسانيا، بخلاف التشوش الذي عانته المنظمة بسبب الأصوات التي علت لاحقا في وجه أخطائها. إلا أن درويش اضطر في أوقات ما إلى أن يلعب دور الرسول في ترتيب المشهد الفلسطيني الخلاّق كما يريده عرفات، أو إزاحة الأصوات التي تشكل “نشازا” على المنظمة. وتورد بعض الكتب أن سجالا حادا دار بين درويش وفنان الكاريكاتور ناجي العلي، على خلفية رسوم هذا الأخير، تنتقد عرفات وسياساته بشكل عنيف.
بقي محمود درويش ينشد المخيم الفلسطيني، كحالة سوسيولوجية موقتة، لكن اقترابه من المخيم لم يكن إلا شعريا، ليتوحد هذا المخيم مع أساطير قديمة في الألم والحب والوفاء والخسارة ورفض الظلم. على كل حال، فإن درويش يمثل حالة خاصة. هو ليس من لاجئي 1948 (بالمعنى القسري)، كما أنه ليس من لاجئي1967 . إبن قرية البروة طُرد من أرضه عام 1948، لكن عائلته عادت وتسللت إلى فلسطين خلال هدنة عام 1949، لتسكن في قرية الجديدة، ولـ”يستقر” الطفل داخل نظام سوسيولوجي فرضته قوانين الدولة العبرية، على سكان القرى الواقعة تحت الاحتلال. لذلك فإن مخيمه كان دائما مخيما بسيكولوجيا، لم يعكسه شعره. أضف أنه أحد نجوم منظمة التحرير الذين عاشوا بعيدا من المخيمات، بالمعنى المعيشي وليس المنبري. كما أن حدسه الشعري كان يدفعه الى قراءة الأشياء ومتغيرات الوضع السياسي العام، بشكل غير مباشر. ظل المخيم مساحة أسطورية، أكثر من كونها اجتماعية، ولم ترد وجوه المخيم في شعر درويش إلا مقرونة بالدم، آخذة أحداثه عموما الى مسار ملحمي – رومنطيقي، بفضل الصور الشعرية والحالة السياسية القائمة آنذاك في لبنان تحديدا.
لكن درويش الذي انفصل بشكل أنيق عن منظمة التحرير، رافضا مناصب سياسية قدّمها اليه عرفات كمنصب  وزير الثقافة الفلسطينية، متفرغا للغوص في اللغة، وجد نفسه أمام دعوات  إسلامية لمقاطعة شعره، في مقابل دعوات إسرائيلية مماثلة. فالتيارات الاسلامية هاجمته ككافر وملحد. وحتى بعيد وفاته، كانت الدعوات عبر مواقع إلكترونية، للاحتفال بموته، وشتمه وسبه، واعتبرت بكاءه في تونس مثلا، عيبا كبيرا وضعفا وهرطقة. تلك التيارات، ومنها “حماس”، رأت في درويش نقطتين أساسيتين لمقاطعته، فهو ينتمي أولا الى حزب شيوعي إسرائيلي، بغض النظر عن ظروف تأسيس هذا الحزب، وخطابه السياسي العام، وهو من ناحية ثانية حزب علماني، مناهض للشريعة الاسلامية ولأحكامها ونظمها. اعتبر درويش أحد الشعراء المقصرين تجاه قضيتهم الاسلامية، فهو ند أساسي للخطاب الاسلامي في فلسطين، وهو وصف حركة “حماس” ذات مرة بأنها عار على الديموقراطية. لا شك في أن هذا المأزق ظل يلاحقه، وإن بالمعنى غير المباشر، حتى آخر أيامه. وهو في أي حال، تعاظم ليصبح مأزقا غير شخصي، أي مأزق فلسطين بأكملها. فحين كان محمود درويش يقيم في فندق في مدينة هيوستن الأميركية قبيل موعد عمليته الأخيرة، كانت صدامات عنيفة تجري في حي الشجاعية في مدينة غزة، بين حركة “حماس” وأفراد من عائلة حلس الموالين لـ”فتح”. العالم شهد آنذاك تلك المواجهات التي شكلت صدمة للكثيرين، ما عدا درويش الذي تعذر عليه في الفندق، مشاهدة قنوات إخبارية عربية، الأمر الذي وفّر عليه بعض الألم، قبيل دخوله غرفة العمليات للمرة الأخيرة.

مازن معروف

النهار

محمود وقصيدة النثر… «أحبك أو لا أحبك»

حسين بن حمزة
هل كتب محمود درويش قصيدة النثر؟ الجواب هو: قطعاً، لا. مع ذلك، ظهرت مقالات، بعضها شديد الوجاهة، بعضها بتوقيع الناقد صبحي حديدي أو الشاعر أمجد ناصر، اقترح أصحابها منح جنسية قصيدة النثر لدرويش، بناءً على نصوص ومقاطع نثرية ضمَّنها في عدد من إصداراته الأخيرة، وخصوصاً «أثر الفراشة» المنشور تحت صفة «يوميات»، و«في حضرة الغياب» تحت صفة «نص»، إضافةً إلى مقاطع في ديوان أقدم هو «أحبك أو لا أحبك».
المشكلة أنّ درويش لم يسمِّ تلك النصوص قصائد نثر، ولو أراد لفعل ذلك. هنا، ثمة سؤالان متعاكسان لا بدّ من إثارتهما. الأول: لِمَ لمْ يبادر درويش إلى خلع صفة «قصيدة نثر» على ما كتبه؟ والثاني: لِمَ يتبرع سواه بفعل ذلك؟ للإجابة عن السؤال الأول يمكننا العودة إلى تصريحات يؤكد فيها الشاعر أنّه كتب نثراً لا قصيدة نثر. في حوار طويل مع عبده وازن، قال: «أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسمّيه نثراً»، وأيضاً: «ما دمت أكتبُ نثراً، فأنا أكتب النثر من دون أن أسميه قصيدة». وفي موضع آخر، أكَّد: «أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. أحب الموسيقى في الشعر. إنني مشبع بجماليات الإيقاع في الشعر العربي، ولا أستطيع أن أعبِّر عن نفسي شعرياً إلا بالكتابة الشعرية الموزونة».
من الواضح أن درويش فرَّق بشكل حاسم بين التعبير عن نفسه «شعرياً» وبين التعبير «نثرياً». هو شاعر في الشعر، وناثر في النثر. فلماذا نكتِّبه قصيدة النثر عنوةً؟ كان ناثراً موهوباً، ولم يكن يضيره أن يكون ذاك الناثر الموهوب إلى جانب كونه شاعراً مرموقاً. كان صاحب «جدارية» حريصاً على عدم الخلط بين الأمرين، لكنه، في الوقت عينه، لعب في السنوات التي سبقت رحيله على فكرة النثر عبر رهانٍ يقوم على إثبات براعته النثرية داخل قصيدته الموزونة. أراد أن يصحح علاقته الشاقة والمُساء فهمها مع قصيدة النثر، لكن ليس بكتابتها بل بالإفادة من خصوصياتها ومناخاتها. صادق قصيدة النثر لكنه لم يقع في غرامها. أغلب صداقاته الأخيرة كانت مع شعراء نثر. لقد اعترف محمود مراراً بأن ما يُكتب من قصائد نثر في العربية أكثر جودةً من أخواتها التفعيليات. استثمر علاقات النثر بذكاء شديد. أخفى الوزن في طيَّات الإيقاع الخافت ومجاهله. أدار ظهره للصوت العالي والرمزيات المباشرة والغنائية المفرطة. في مستهلِّ ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد»، استعان بتعبير أخَّاذ لأبي حيان التوحيدي: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم». أراد أن نعامل قصائده الأخيرة باعتبارها نثراً مكتوباً بالوزن. فرح حين اعتبر بعضُنا أن «في حضرة الغياب» قصيدة نثر طويلة. لعب الشاعر في ملعبنا النثري، لكنه لم يغادر ملعبه الفعلي ولم يبدِّل قميصه الإيقاعي بأيٍّ من قمصاننا النثرية.
كل هذا يقول لنا إن درويش أراد استيعاب النثر في شعره، ولم يقصد كتابة قصيدة النثر. ظل «النثر جار الشعر ونزهة الشاعر» وظل يمارس «اختلاس النظر إلى بحبوحة النثر» وفق تعبيره. وهنا الإجابة عن السؤال الثاني: لماذا ننسب بعض «نثريات» درويش إلى «قصيدة النثر»؟ الجواب أن درويش رغب أن يحمل بطاقة عضوية استثنائية أو فخرية في «نادي قصيدة النثر». أي أن تشفع له نثرياته بحيازة هوية «قصيدة النثر». ما حدث أن شاعراً بحجم درويش وكبريائه الإيقاعية طرق باب «قصيدة النثر»، فكان لا بدَّ لشعرائها أن يفتحوا ويرحّبوا به. خدعنا محمود درويش، وانطلت علينا الخدعة.

«الكمنجات» تنبعث من أوديسّة الشّتات

خليل صويلح
كنت كمن يدخل غرفة في غياب صاحبها، ويفتش محتوياتها، ويتلصّص على أسرار الغريب، كي يألف جدران الغرفة، وأدراج خزائنها، وألبوم الصّور، ورائحة السرير، ومرآة الحمّام. المرآة التي اعتادت وجه صاحبها، وخبّأت تضاريس وجهه برغوة معجون الحلاقة، والمواعيد الطارئة، وكمائن المجاز. كنت أنصت إلى الموسيقى تنبعث من مكان خفيّ في الحجرة. من أين يأتي صوت الكمنجات؟ هل غادر المايسترو قبل قليل تاركاً سلَّمه الموسيقي في أحد الأدراج، ولم يتمكن من إكمال النوتة إلى آخرها؟ ها هي آثار أصابعه عالقة على مقام النهوند، وعلى الكمنجات الثكلى. «الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس» و«الكمنجات تبكي على زمنٍ ضائع لن يعود» في حركتين متضادتين في الذهاب والإياب. سأجد الآلات الموسيقية، وأقواس الأوتار مبثوثة في نصوصه القديمة كما في بروفة لا تكتمل أبداً. ها هي «فانتازيا الناي» تتسرب من «هي أغنية، هي أغنية» كوجعٍ قديم في الضلوع. سيتكرر الناي مثل لازمة إلى نهاية القصيدة، وسيباغته حنين الشاعر إلى عشبه الأول «هل حلمنا يا ناي، كنز ضائع، أم حبل مشنقة؟».
يوزّع محمود درويش آلاته ومقاماته الموسيقية في متن قصائده كخطٍ موازٍ للإيقاع الشعري، وإن فارقت المعنى أحياناً، كما في قوله «هذا السراب يؤدي إلى النهوند». مقام النهوند «المينور» يسمى مقام الغبطة، فكيف اجتمع السراب مع الغبطة في معنىً واحد؟ لا يهمّ ما دام الشاعر مأخوذاً بالإيقاع. الإيقاع الذي يأخذه إلى غير مقاصده، حتى إنّه لفرط افتتانه بالإيقاع، يصل إلى التجريد الخالص الذي يتجاوز البلاغة إلى مستوى السماع والتطريب. مايسترو ينسى النوتة التي أمامه، ويذهب إلى أقاصي التوحّد والارتجال في حركاتٍ مباغتة. سنلتقط أسباب هذا الافتتان اللغوي في عبارةٍ لاحقة، تبدو كما لو أنها بيت القصيد «وددتُ لو أجد الإيقاع، لو أجدُ. والعزفُ منفردُ».
تراوح مقامات صاحب «لماذا تركت الحصان وحيداً» بين العزف المنفرد على آلة وترية، والحواريات السيمفونية. ناي، أو غيتار، أو كمنجة، في قصائد الألم الشخصي المبكر، ومكابدات الذات في وحشتها وعريها وشهواتها، وحوار آلات مختلفة في تراجيديا التيه الفلسطيني. يقول في المقام الأول: «لا أحد يرى أثر الكمنجة فيك»، و«انتظريني لئلا تفرُّ العنادل منّي فأخطئ في اللحن»… فيما تتجاور في المقام الثاني أصوات وإيقاعات ونبرات في نظام موسيقي يفصح عن حجم المأساة، وتشظّي أحوال بلاد منهوبة.
هل سعى محمود درويش إلى كتابة «إلياذة» فلسطين، و«أوديسّة» الشّتات؟ في الواقع سنلمح في نصوصه الملحمية، طروادة محاصرة، وأثينا مفجوعة، إضافةً إلى أندلس مفقودة. تمتزج الأسطورة بالخراب، والنفي، والحنين، وتأمل الكارثة في جوقة منشدين ولحنٍ جنائزي. هوميروس آخر يسجّل تفاصيل تراجيديا الشتات، أو إنّه «خليط من أثيني حالم، وإسبارطي تائه في شعاب التراجيديا» وفقاً لما يقوله نزيه أبو عفش عنه، ليصير نصّه أقرب إلى سوناتات باخ في اكتمالها.
في قصيدة «طباق» التي أهداها إلى إدوار سعيد، سيضاف «البيانو» إلى معجمه الموسيقي، حيث «إدوار يصحو على جرس الفجر، يعزف لحناً لموتسارت»، وستعبر القصيدة شوارع نيويورك، لتتوقف أخيراً عند «قدّاس جاز». لكن الكمنجات وحدها، ستبقى مفردة أثيرة تتكرر على الدوام بمقامات إيقاعية مختلفة «أشيّعُ نفسي بحاشية من كمنجات إسبانيا، ثم أمشي إلى المقبرة» كأن ظلال لوركا القتيل ما زالت تطارده، في أندلسٍ ضائع ومضيّع.
في «جدارية»، سيبني كونشيرتو أصوات، محاوراً أوركسترا الموت في أربع حركات أساسية، تنتهي بهزيمة الموت في الحركة الأخيرة على وقع نايٍ وكمنجة «وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي، ووقع الناي في أزلي»، و«وأبصرُ في الكمنجة هجرة الأشواقِ من بلدٍ ترابي إلى بلدٍ سماوي». كما سيحاور طرفة بن العبد والمعرّي ورينيه شار، في إيقاعات متفاوتة، في العلوّ والهبوط. وفي الصّخب والصمت، وفي البصر والبصيرة.
كان مرسيل خليفة أول من اكتشف البعد الإيقاعي المنجز نغمياً، في قصائد محمود درويش، فكانت أسطوانته «وعود من العاصفة» بمثابة تمرينات أوّلية على المزاوجة بين نصّ غاضب، وموسيقى تتلمّس قوة الهتاف والنبرة العالية، وصولاً إلى «يطير الحمام». التجربة التي توغلت في مسارب بعيدة، ونبشت ما هو مضمر في متن العبارة. فيما اشتغلت فرقة ثلاثي جبران على نصوص صاحب «سرير الغريبة» بارتجالات على العود تواكب الجملة الشعرية في فسحتين متناوبتين: الإلقاء الصوتي للشاعر مرةً، وجنون العود مرةً تالية، في حوارية عميقة بين ثلاث آلات، تفصح عن نبرة إيقاعية مشبعة لطبقات النص. لكن من يدوزن الإيقاع اليوم، في غياب صاحبه؟ هناك من عبث في المسوّدات.

الإصغاء لمحمود درويش بين جمهوره الفرنسي
يوسف بزّي
على طول الطريق المؤدي الى ساحة “بلاس دو مارشيه” احتشد سكان “لوديف” وزوارها من القرى المجاورة في الجنوب الفرنسي، إضافة الى السياح والقادمين من “مونبيلييه” أو حتى من باريس، منتظمين في صفوف طويلة، بانتظار دخولهم الى المسرح المرتجل في الهواء الطلق.
وبالقرب من مدخل المنصة الكبيرة وبوابة دخول الجمهور ارتفع علم فلسطين، ونصبت بسطة طويلة لبيع منتجات فلسطينية من حرفيات يدوية وصناعات زراعية ومنتوجات خزفية تم جلبها من نابلس وبيت لحم والخليل..
هناك في عمق فرنسا، كانت بلدة “لوديف” بمهرجانها الشعري الذي يكاد يكون “أفينيون” الشعر أو “كان” الشعراء، تجمع جمهوراً واسعاً لإحياء أمسية تكريمية في الذكرى السنوية الأولى لغياب الشاعر محمود درويش. وكانت صفوف الناس الطويلة مدعاة للعجب منا نحن الشعراء العرب، ضيوف المهرجان. فهي تليق بحفل غنائي او بنجم فني فرنسي مثلاً، فكيف لمحمود درويش الشاعر الفلسطيني الذي يكتب بالعربية، هذا “الحضور” وهذه “الشهرة”؟ رحنا نتساءل أيضاً ان كان هناك شاعر فرنسي يحظى بهذا الاهتمام من مواطنيه، مؤجلين السؤال الأصعب، وهو: ما سبب انجذاب أهل اللغة الفرنسية الى شعر محمود درويش خصوصاً؟
تناوبنا على المنصة في قراءة قصائد لمحمود درويش: غسان زقطان، نصر جميل شعث، فيديل سبيتي، هنادي زرقة. وتناوب على قراءة ترجمته الفرنسية كل من بيلار غونزاليس، بيار جوريس، ايوسيف فينتورا، كلاوديو بوزاني. اضافة الى اداء غنائي من الفنانتين رولا سفر وسافو.
بين اللغتين كان الجمهور يصغي في المرة الأولى لايقاعات اللغة العربية التي لا يفهمها، متنبهاً للصوت والنبرات، ويصغي في المرة الثانية لمعاني القصيدة وكلماتها المترجمة إلى الفرنسية، ويحاول تلمس دلالاتها والتقاطها من مخيلته التوراتية او من معرفته السياسية او من ثقافته “الاستشراقية” أو من ذائقته الأدبية فحسب.
بهذا المعنى، كان شعر درويش في تلك الليلة ينشئ تلك الصلات الصعبة بين الثقافات، او يوقط تلك الاحتكاكات بين الاختلافات الحضارية والسياسية. ولنقل ان ثمة سجالاً ضمنياً كانت تحرض عليه قصائده، بوصفها حمالة رموز واشارات تاريخية ودينية وايديولوجية، بقدر ما هي مختزنة لتراث فني ـ أدبي غير غربي، اضافة الى كونها في نهاية المطاف تعبيراً عن “قضية” و”صراع” و”هوية”.
محمود درويش “الفرنسي” بدأ اكثر رحابة من اسمه العربي وأوسع من معناه الفلسطيني، فهو بلغة فلوبير وراسين ورامبو كان قريباً من الأغاني التروبادورية، اي ان قصائده فجأة اكتسبت ايحاء اندلسياً، اذا صح التعبير، فقراءة الشاعر الايطالي كلاوديو بوزاني لدرويش اخذته الى ايقاع مرح وواثق ومشمس، في حين ان قراءته مع الشاعرة الاسبانية بيلار غونزاليس اعادته الى المزاج التراجيدي والارضي ليبدو شعر درويش الأندلسي كما شعر غارسيا لوركا مفعماً بالحزن والايقاعات الكئيبة.
في ذكرى غياب محمود درويش احتفل فرنسيو مهرجان “لوديف” به بأمسية كثيرة الجمهور، لنكتشف ان ترجمته الى الفرنسية التي أنجزها الياس صنبر وفاروق مردم بك، اعطت هذا الشاعر حياة جديدة وارضا جديدة ولغة جديدة. وهناك في فرنسا بدا درويش اكثر حضورا وشهرة من أي شاعر فرنسي، على نحو يدفعنا للاعتقاد أن قصائد درويش تقدم اقتراحاً هناك، في اللغات الأجنبية، لإعادة الصلة بين الشعر والقراء (او المستمعين)، اقتراح يحيي تقاليد شعرية قديمة، متجددة بالغناء والموسيقى.
لكن ايضا شهرة درويش هي من شهرة “فلسطين” التي تبدو فرنسياً، انهماكاً داخلياً في الثقافة والسياسة والافكار. فلسطين الفرنسية هي بطبيعة الحال متصلة بأسئلة القيم والمبادئ والمعتقدات المتعلقة بـ “حق تقرير المصير” و”حقوق الانسان” و”العدالة والحرية والمساواة.. الخ.. والمتقاطعة مع الشعور بالذنب والماضي الاستعماري والتعاطف مع المضطهد القديم (اليهودي) والمضطهد الجديد (الفلسطيني).
وهنا بالضبط تبرز أهمية قصائد درويش التي غالبا ما تمس تلك الالتباسات وأسئلتها، خصوصا تلك التي تتناول “العلاقة” مع الاسرائيلي ـ اليهودي، انها تقدم للقارئ الفرنسي الصياغة الشعرية لحيرته ازاء “القضية الفلسطينية” أولاً، وازاء “الثقافة العربية” ثانياً. وهكذا يعود درويش وشعره الى وظيفته الفائضة عن دور الشعر: السياسة.
ذلك ما عاد يقلل من قيمة القصيدة، طالما ان الشعر هو الذي “يصنع” السياسة. وذاك هو انجاز محمود درويش.
المستقبل

في ذكرى غيابه الأولى: محمود درويش… ماذا بقي منه؟
بيروت – محمد الحجيري

جملة نقاط يمكن الحديث عنها في ذكرى رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش الأولى، نقاط تتعلق بالذكرى نفسها والشعر وقصيدة النثر والموت وحضور درويش في العالم العربي.

كثر قالوا إن العالم العربي لم يعد يملك شاعراً جماهيرياً بعد رحيل درويش ومن قبله الشاعر السوري نزار قباني، وفي هذا الأمر إيجابية كبيرة، فليس على الشاعر أن يكون جماهيرياً يحشد الناس في الزوايا والصالات ويطلق فيهم أسمى عبارات الشعر والغزل أو «التحريض الثوري» أو الزجل المنبري. في المقابل كثر ممن يعلنون وداع الشاعر الجماهيري، حلمهم أن يكونوا في هذا المنحى أو الاتجاه، إنهم من «السلالة الطاووسية» التي لا ترى نفسها إلا في المرآة أو كنرسيس الذي يشاهد صورته في الماء.

من يتابع ظهور بعض الشعراء على شاشات التلفزة أو جلوسه في المقاهي، ومن يقرأ تصريحاته، وبعض الكتابات عنه يعرف أن نجومية درويش حلم كل واحد منهم. لكن المشكلة في أن معظم الشعراء العرب الآن لا يملك الشاعرية التي كان يتمتع درويش بها. إنهم رواد قصيدة البياض «الساذجة» وقصيدة السواد القائمة على الطلاسم أو القصيدة اليومية الهشة، أو هم أولياء «الموسيقى الداخلية» كما يتجرأون على تسميتها.

لنتخيل أحدهم يكتب عن نفسه في الصفحة التي يديرها بأنه قدّم أمسية شعرية وحبس الجمهور الأنفاس في الصالة، ولنتخيل أيضاً أن شاعراً يكتب عن ذاته بأنه حظي بتكريم ملكي في المغرب وآخر يضع خبر ترجمة ديوانه على الصفحة الأولى من الجريدة التي يعمل فيها، وشاعراً آخر يدخل المستشفى حين يعلم أن أدونيس مرشح لجائزة «نوبل».

النقطة الثانية في ذكرى رحيل درويش استعمالاته في الحفلات والكتب والمجلات والمقدمات والمهرجانات، فلا يتردد المغني اللبناني مارسيل خليفة في أن يسافر حول العالم ويهدي حفلاته إلى «روح محمود درويش». لا بأس في أن يكرم المغني صديقه وكاتب الكثير من أغنياته، لكن التكريم عند المغني أصبح أحد ديكورات حفلاته، أو «بسملة» لفظية يستعملها خليفة في السراء والضراء، في لزوم ما لا يلزم. الإهداء مثل «الجدل البيزنطي» حول كتاب درويش الأخير الذي وضعه الأصدقاء في المحرقة كما التجار الذي يطبعون كتب الشاعر. بدا كأننا نعيش بعد ديوان «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي؟ لحظة «الصراع على محمود درويش»، أو لحظة «تناتش» النجم بين الولاء والانتماء بين السياسية والأدب، بين الصداقة والتجارة، بين البحث في جرار مكتبه أو البث التلفزيوني من بيته، بين إيقاع قصائده أو الكتابة عنه.

النقطة الثالثة التي ربما تُطرح قريباً، هي السؤال ماذا بقي من محمود درويش؟ يعلم الجميع أن كتب نزار قباني كانت حاضرة بقوة لدى المراهقين والمراهقات على مر عقود، لكن بعد سنوات قليلة على غيابه بدا كأنه موضة انتهت إلى غير رجعة، وإن كان بعض المغنين يختار قصائد له، فحضوره لا يبدو على تلك الشاكلة اليوم، ولم نعد نرى كتبه في الواجهات. هل يصبح حضور درويش على هذه الشاكلة بعد سنوات، خصوصاً أن بعض الباعة في المكتبات أوضح أن كتاب الشاعر الراحل الأخير لم يحظ باهتمام القراء كما كتبه السابقة؟! طبعاً، لا أحد يعرف كيف تكون الصورة مستقبلاً، وكيف تكون علاقة القارئ بالشاعر ونصه، لكن الأكيد أن غياب درويش ترك فراغاً في الوسط الشعري.

لا نستطيع تأويل حضور درويش الآن، لكن بالتأكيد الجمهور يميل إلى النسيان، وحضور الشيء يلزمه الحضور الدائم في علم الوسائط والميديا.

قصيدة النثر

النقطة الرابعة التي حظيت باهتمام النقاد أخيراً علاقة درويش، شاعر الإيقاع والتفعلية، بالنثر عموماً وبقصيدة النثر تحديداً. إنه موضوع شائك وغني، حظي بنقاشات وكتابات كثيرة، بعضها جدي ورصين وبعضها الآخر اعتباطي على نحو ما هي المواقف العدائية ضد قصائد درويش التي تخص القضية الفلسطينية.

يرى البعض في آراء درويش عداءً واضحاً «لقصيدة النثر»، وهو استخلاص خاطئ، يستند إلى انحيازه هو إلى خياره الشعري «قصيدة التفعيلة»، فمن يقرأ تجربته الشعرية يلحظ أن عالمه الفني يقوم في ركن أساس منه على الاستفادة القصوى من إيقاعات الشعر العربي ومن الرواية ومن كتب اللغة، وهي استفادة زاوجت في صورة خلاقة بين المعنى والصورة الشعرية، وحتى مناخ القصيدة النفسي، وحواملها الشكلية في القلب. آراء درويش في قصيدة النثر فيها الكثير من رفض ما هو مطروح من نماذج تعتدي على الشعر، وتساهم في وجودها بكثرة، الصفحات الثقافية التي يشكو الشاعر من ركاكة بعض القيمين عليها، وهي شكوى محقة، على رغم أن درويش يؤكد في مساحة أخرى من الحوار أن «قصيدة النثر»، حققت مشروعيتها.

يرفض درويش المفاضلة بين النثر والشعر لأن لكل منهما جماليته. قال: «أليس النثر هو حقل الشعر المفتوح. أليس الشعر هو نثر الورد على الليل ليضيء الليل». وسبق أن كتبنا أن درويش منذ بواكيره الأولى، نافس فيه الناثر الشاعر، وكان توأمه، انبثق الشعر من فائض النثر، وانبثقت القصيدة من فائض الرواية، يكتب قصيدة كمن يروي حكاية رمزية، أو يقرأ مشاهدات وذكرياته أو ذاكرة عاشها أو يعيشها أو يتعايش معها. لا تبعد قصيدة درويش عن الواقع اليومي والحدثي، ولا تفصل اللحظة الوجدانية والذهنية من خلال الاستعارة. كتب: «في ظنّك أنك تخطّيت العتبة الفاصلة بين الأفق والهاوية، وتدرّبت على فتح الاستعارة لغياب يحضر وحضور يغيب بتلقائية تبدو مطيعة وتعرف أن المعنى في الشعر يتكون من حركة المعني، في إيقاع يتطلع فيه النثر إلى رعوية الشعر، ويتطلع فيه الشعر إلى أرستقراطية النثر».

محمود درويش الشاعر يحب كتب اللغة، تحديداً «لسان العرب»، والنثر عموماً والرواية خصوصاً التي كان يلتهمها أكثر مما يقرأ الشعر، ربما لأنها حقل أفكار الشعر ومصدر عباراته. ذكر درويش في حوار صحافي: «لدي حنين نحو النثر، وأتمنى أن أفشل شعرياً لأتجه الى النثر، لأنني أحبه وأنحاز إليه، وأعتبر أن فيه أحياناً شعرية متحققة أكثر من الشعر نفسه». ولإبراز التواشج الحار الذي يربط الشعر في النثر في إطار المشروع الإبداعي الدرويشي تستشهد الباحثة الأردنية تهاني شاكر في كتابها «محمود درويش ناثراً» بمقطع شعري من ديوان «حالة حصار» قال فيه درويش:

إلى الشعر: حاصر حصارك

إلى النثر: جرّ البراهين من

معجم الفقهاء إلى واقع دمرته

البراهين. واشرح غبارك

إلى الشعر والنثر: طيرا معاً

كجناحيْ سنونوة تحملان الربيع المبارك.

ثمة من يقول إن أبرز المشاكل التي تواجه الدارس في بعض كتبه النثرية اختلاط الفنون فيها، أو عدم تحديد الفن النثري الذي ينتمي إليه الكتاب.

يصعب تعريف الشعر بالنسبة إلى درويش، لكن ثمة ثوابت في تعريفه مثل الإيقاع. الإيقاع ليس الوزن، بل هو طريقة تنفس الشاعر وموسيقاه الداخلية، وليس حكراً على الوزن، وقد يتأتى من العلاقات بين الحروف والكلمات والدلالات حتى في نص نثري. لذلك لا نستطيع كتابة قصيدة نثر موزونة. خلاف درويش لم يكن مع قصيدة النثر التي أحبها كثيراً، خلافه كان مع الادعاءات النظرية التي تقول إنه لا شعر ولا حداثة خارج قصيدة النثر.

يُقال إن قصيدة النثر مشغولة بالتفصيلي والهامشي واليومي. هذا لا يكفي لتعريفها، لأن هذه الأمور قد تُكتب إيقاعياً وبالوزن التقليدي أيضاً. هذا ما قصده درويش حين قال: «إني أستطيع أن أستوعب خطاب قصيدة النثر في قصيدتي الموزونة». أفاد الشاعر كثيراً من قصيدة النثر، علاوة على انفتاحه على ما يُسمى «نثر الحياة»، وهو أكد مراراً أنه ليست لديه مشكلة مع قصيدة النثر، ولا مع النثر – يكتب النثر.

يبدو درويش عندما تقرأ أعماله النثرية ناثراً أكثر منه شاعراً، وعندما تقرأه كشاعر يبدو أكثر من ناثر، وقد اعترف أن قصيدة النثر كسبت معركتها لأجل الشرعية، لكنه أثار الانتباه إلى أن تيار القصيدة أو بعض ممثليه يريد جعل القصيدة الشكل السائد.

دعا درويش إلى الديمقراطية في الشعر، شعر تختفي فيه التصنيفات ويدمج الأجناس الأدبية في ما بينها، وهو في هذا السياق قال إنه يكتب نثراً، لكنه رفض أن يسميه قصيدة نثر لأنه ضد التصنيفات التي تقيد الشاعر في أحد الأشكال، وقد دعا إلى الانفتاح في الحكم على أعمال الآخرين، واعتقد أن أي قائمة لأهم ما كتب في العقود الأخيرة من شعر عربي ربما تكون من نصيب قصيدة النثر، لكن هذا لا يعطيها أو يعطي ممثليها إلغاء الأشكال الأخرى، فكما كانت مجلة «شعر» رائدة في دفع قصيدة النثر كانت «الآداب» رائدة في دعم الشعر الجديد أو قصيدة التفعيلة. ولم ينكر الشاعر هنا أن قصيدة النثر تتوافر على الإيقاع مثل قصيدة التفعيلة، أياً كان الإيقاع بقول داخلي أو عالي النبرة، فالمشكلة في كيفية ضبطه أو دوزنته كما يُضبط العود أو الوتر الموسيقي لإنتاج أجمل الألحان، وهل ثمة أجمل من هذه الشذارات:

– التفاحة عض الشكل بلا عقوبة المعرفة.

– الأجاصة نهد مثالي التكوين لا يزيد عن راحة اليد ولا ينقص.

– العنب نداء الشكر أن اعتصرني في فمك أو في الجرار.

– التين انفراج الشفتين بإصبعين لتلقي المعني الآيروسي دفعة واحدة.

– التين الشوكي. دفاع العذراء عن كنزها.

-الكرز اختصار المسافة بين شهوة العينين وصورة الشفتين.

– السفرجل مشاكسة الأنثى للذكر تترك غصّة في حلق الخائب.

– الرمان اختباء الياقوت في التورية.

لا ينتهي الكلام عن محمود درويش، هو الذي خرج في مقتبل عمره من فلسطين إلى المنفى الكبير، وعاد بعد 30 عاماً من المنفى الكبير إلى فلسطين التي لم يجدها، بل وجد جزءاً منها ما برح محاصراً بالخوف والقلق: «الطريق إلى البيت بات أجمل من البيت الذي لم أجده بعد عودتي». كانت هذه العبارة صاعقة بالنسبة الى كثيرين، صورة يمكن تفسير وجه فلسطين من خلالها، بل قد نعرف وجه المنفى من خلالها. عاد درويش إلى فلسطين، لكنه لم يجدها، كما عاد إدوارد سعيد الى بيته فوجد المحتلين فيه…

الزعيم

كان درويش يعبر من خلال قصائده عن واقع اليومي العام من فلسطين إلى العالم، من غزة إلى أميركا، من أبيه إلى إدوارد سعيد، ومن المرأة التي هي أمه إلى المرأة حبيبته. وهو في وقت نفسه، وإن كان في جانب من حياته «زعيماً» شعرياً، يأخذ أوسمة من الرئيس زين العابدين بن علي، أو مقرّباً بقوة من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لم ينج من التكفير بعد موته. فيما كان العالم يودعه، كان لحركة «حماس» الإسلامية موقف آخر من الرجل، واحتفلت برحيله على طريقتها الخاصة، اذ اعتبرت موته نفوقاً. ربما لهذه الأسباب كتب العلامة محمد حسن فضل الله عن درويش: «عندما ندرس الشاعر الفلسطيني العربي المجدِّد الكبير، محمود درويش، فإننا ندرس الشاعر الذي عاش فلسطين في عقله وقلبه ومشاعره وأحاسيسه وقلمه وقصائده، حتى تحوّل إلى فلسطين بعدما تجسّدت فلسطين فيه، فكان محمود درويش فلسطين التي عاش فيها مأساة قريته التي طُرِد منها مع أهله وأبناء مجتمعه، ثم اجتاحها اليهود فدمّروا بيوتها، واجتاحوا وجودها وكيانها… فإذا بهذه المعاناة تتعمّق في ذات الشاعر وكيانه، متّصلةً بإحساس الطفولة عنده، وهو الإحساس البريء الكامن في عمق أعماقه الذاتية الإنسانية، حتى بدأت تخترقه في حركة اللاشعور وانفتح على الآفاق الكونية الواسعة، فتماهت مع الكثير من القضايا والمشكلات والالتزامات التي يعالجها ويشعر بالمسؤولية نحوها. لقد عاش محمود درويش شاعراً إنسانياً، وحالة طوارئ إنسانية تحمل كلّ المعنى الإنساني، لأنه لم يعتبر أو يعتقد أن فلسطين هي مجرّد أرض، وإن كان الشاعر الشاعر يتجذّر من الأرض، ليعيش أنسنة الأرض، فالأرض ليست حجارةً، بل هي عمق الإنسان الذي وُلِد من ترابها، وتفيّأ ظلالها، وتنفّس هواءها، وعاش على ظهرها، ودُفنت عظامه فيها…

تابع: «إنني، وكشاعر إنسان، كنت أتابع محمود درويش في كل شعره، فأجد فيه انفتاح الشاعر على الحداثة المميّزة. فحداثة محمود درويش ليست حداثة الغموض، لكنها حداثة الوضوح الذي يتحرّك في عمق الفنّ، لأن هناك وضوحاً لا فنيّة أو فنّ فيه، وفناً لا وضوح فيه، بينما جمع الشاعر محمود درويش الاثنين معاً. إنني، ختاماً، حين أقرأ نقداً لمحمود درويش في التجربة الإسلامية المعاصرة، أرى أن ذلك لا يمكن أن يشكّل دافعاً أو مبرّراً للتكفير أو التضليل، لأن التجربة الإسلامية الإنسانية هي تجربة بشرية، تخطئ وتصيب، وليس في ذلك نقداً للإسلام، لأن البشر لا يمثّلون الإسلام بل يمارسونه… ولهذا فلا أتصوّر إنساناً يذوب في معنى شعبه وإنسانيته وقضيته مدافعاً ومنافحاً إلى حدّ الشهادة، وإن بغير مصطلحها، قد يكون ملحداً… وأما القضية الفلسطينية بعد رحيل الشاعر الكبير، فهي نتاج الإنسان المبدع، والفنّ الهادف، وكما تنتج فلسطين المجاهدين، فمن المؤكّد أنها ستنتج الفنّ الموحي بالإنسان السائر قدماً في خطّ التقدّم لا يقف ولا يتراجع».

احتفالية بذكرى رحيله

تقيم مكتبة الإسكندرية احتفالية اليوم لإحياء الذكرى الأولى لرحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش أحد رموز الشعر العربي الحديث، بحضور نخبة من الشعراء والنقاد المصريين.

يلقي مدير مكتبة الإسكندرية الدكتور إسماعيل سراج الدين كلمة الافتتاح، وتعقبها كلمة الشعراء المصريين التي يلقيها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، فيما يقرأ الشاعر مريد البرغوثي قصيدة في رثاء درويش باعتبارها كلمة شعراء فلسطين، خلال الجلسة الافتتاحية التي يديرها الشاعر فؤاد طمان.

وتأتي الجلسة النقدية الأولى بعنوان «التجربة الشعرية لمحمود درويش بين المحلية والعالمية»، أما الجلسة النقدية الثانية فبعنوان «العوامل المؤثرة في تجربة محمود درويش». وتختتم الاحتفالية في التاسعة مساءً بحفلة غنائية لأشهر القصائد المغناة لدرويش، مع قراءات من شعره على خشبة المسرح الصغير في المكتبة
الجريدة

الشاعر المعاند … بين بلاغة الإنشاد وسردية النثر

عابد اسماعيل

هاجسان اثنان ظلاّ يؤرّقان، فنّياً، محمود درويش، طوال مسيرته الشعرية الحافلة، الأول رغبته من التخفّف من وطأة التفعيلة الكلاسيكية الرّصينة، من خلال انفتاحه على إرهاصات النثر الغنية، والثاني تجاوزه مفهوم الالتزام بمعناه الأيديولوجي الضيّق، وفتح القصيدة أمام احتمالات جمالية شتّى. والمتتبع لأعمال درويش منذ مطلع الثمانينات، وبخاصّة بعد صدور ديوانيه «مديح الظلّ العالي» (1983)، و «حصار لمدائح البحر» (1984)، اللّذين يشكّلان نقطة تحوّل حقيقية في مسيرته الشعرية، سيلحظ بوضوح انشغال الشاعر المتزايد بهذين الهاجسين. فدرويش أراد التخفّف حقاً من الرّصانة الكلاسيكية، عبر تحرير نصّه من سطوة البنية العروضية، والالتفات إلى الحركية الإيقاعية الداخلية للقصيدة، من خلال جعلها أكثر رشاقةً وانسيابيةً وغنائيةً، وتخليصها من تجهّمها الهندسي عبر الإكثار من التنويع الرّمزي والمجازي والصرفي، فكان أن تسلّلت روح النثر إلى قصائده، الموزونة والمقفّاة، وبخاصة الأخيرة منها، واحتلت التفاصيل الحياتية، اليومية، موقع الصدارة، بدءاً من ديوانه «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995)، وانتهاءً بديوانه «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» (2009)، حيث نجد ما يشبه الحبكة السردية المشدودة، التي تتطلب التركيز على الجوانب الخبيئة والمنسية في السّيرة الذاتية، والتخفّف من التجريد البلاغي، وتفعيل طاقة الحواس في التقاط العابر والزائل والمهمل. هذا التحوّل في الأسلوب جعل قصيدة درويش مسرحاً يضجّ بالحركة.

ونعلم أن درويش ضاق ذرعاً بالنقد الأيديولوجي الذي لم يكن يرى في قصيدته سوى وثيقة نضالية تؤرّخ لمأساة جمعية فحسب. وهذا ما دفعه بقوة إلى تطوير مفهوم الالتزام، وربطه بالهاجس الجمالي أو اللغوي للقصيدة. فقد تخلّى عن الدوغمائية، من خلال الحفر في قيعان ذاته، التي أضحت مركزاً تشعّ منه رؤيته الكلّية للوجود. هذه الأنا، المنشطرة على نفسها، ببعديها الذاتي والكوني، بدأت تبرز للعيان في نصوصه الأخيرة، بدءاً من ديوانه «لا تعتذر عمّا فعلت» (2003)، حيث نلمس التركيز على الهمّ الوجودي الصرف الذي يتمحور حول مأساة فردية، ذات أبعاد كونية، يصغي من خلالها درويش إلى الصّوت الداخلي للأنا، ويترجم حيرتها وهشاشتها، طارحاً أسئلةً فلسفية عميقة تذهب إلى أحجية الوجود، وإلى لبّ علاقة الشاعر بصنيعه الشّعري، ومعنى الإقامة في اللغة. ترى الأنا صورتهَا متعدّدة وكثيرة وطيفية، تتقلّب على لظى حيرتها، حيث يصعبُ القبض على ملامحها: «أمّا أنتَ، فالمرآة قد خذلتكَ،/ أنتَ… ولستَ أنتَ، تقول: أين تركتُ وجهي؟». يسلّط الشاعر الضوء على تلك الفجوة بين الاسم والمسمّى، أو بين صورة الأنا في اللغة، وصورتها في التاريخ: «ولم يتساءلوا عمّا سيحدثُ للمسمّى عندما/ يقسو عليه الاسمُ، أو يملي عليه/ كلامَه فيصيرُ تابعَه… فأين أنا؟».

هذا السؤال عن ماهية الأنا الشعرية، وحوارها مع التسمية، يظلّ مشرعاً في ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد» (2005)، حيث يوغل درويش في مساءلة ذاته واستجوابها، لتتقلّب أناه بين أقنعة شعرية كثيرة، تستعير الضمائر «أنت»، «هو»، «أنا»، «هي»، في تنوّعها وتقلّبها، وهنا يحدّق الشاعر في تلك الهوة العميقة التي تفصل الذّات عن شروط كينونتها، فتكرّرُ لحظات الانشطار والتشظّي الداخلية، وينكفئ الصوتُ الشعري نحو الداخل، صاهراً الهمّ العامّ بالخاص، والذاتي بالكوني، في رحلة البحث عن معنى الذات، فرديةً كانت أم جمعية: «هل كان ذاك الذي كنتُهُ – هو؟/ أم كان ذاك الذي لم أكنهُ – أنا؟». وللإجابة عن السؤال، يستخدم المتكلم استراتيجيات شعرية متعددة، يتقدّمها السّرد الدرامي، المنساب في نسيج القصيدة الواحدة، ودائماً ضمن سياق العلاقة المرآوية بين الأنا وصورتها: «أنا اثنان في واحدٍ/ أو واحدٌ يتشظّى إلى اثنين». هذا الحفر في طبقات الأنا أفرز بنية شعرية مركّبة، موشورية بامتياز، تجلّت في استخدام طيف واسع من الأصوات الشعرية، المنبثقة من بؤر دلالية ومجازية متعدّدة، معرفية ونفسية وفلسفية، في افتراق نوعي واضح عن خطابه الإنشادي القديم، الأحادي النبرة، الذي ألفناه في أشعاره الأولى، والذي كان يلعب فيه هاجس الالتزام دوراً محورياً حاسماً.

مع ذلك، فإنّ درويش، في قصائد عدة، يخرج مراراً من قبو ذاته، ومن ذاكرة قصيدته ذاتها، ليلتفت إلى لحظات شعرية نادرة، تقوم على تمجيد الشغف الجمالي بأشياء الطبيعة الصامتة، بعيداً من الترجيعات المعرفية والفكرية والسياسية، كما هو الحال في مقطع بديع في ديوانه «لماذا تركت الحصان وحيداً»، يخاطب فيه الفراشة، رمز الجمال الصافي، التي يريدها أن تكون خفيفة مثل هبّة نسيم طارئة، سرابية كالحلم، متماهياً معها كرمز للتخييل الشعري اللامتناهي: «يا فراشةُ! يا أختَ نفسكِ، كوني/ كما شئتِ، قبل حنيني وبعد حنيني./ ولكن خذيني أخاً لجناحكِ يبقَ جنوني/ معي ساخناً! يا فراشةُ! يا أمّ/ نفسكِ، لا تتركيني لما صمّم الحرفيون/ لي من صناديق… لا تتركيني». لا يريد درويش أن يُترك وحيداً لصناديق الأيديولوجيين وأزاميلهم، ولنظرياتهم الخشبية، وما تعبّر عنه القصيدة هو تلك الرغبة بالانعتاق من كلّ قيد، والتحرّر من كلّ عرف، واللجوء إلى لحظة الفراشة، بكلّ ضعفها وألقها وصفائها. هذا يتكرّر لاحقاً في وصف «زهر اللوز»، الذي لا يريد درويش أن يحمّله أية دلالات ما ورائية، إذ يكتفي بوصف حقيقته البيضاء، حسيةً، ساطعةً، ملموسةً: «فكيف يشعّ زهرُ اللّوز في لغتي أنا/ وأنا الصّدى/ وهو الشفيفُ كضحكةٍ مائيةٍ نبتت/ على الأغصان من خَفر الندى…/ وهو الخفيفُ كجملةٍ بيضاء موسيقيةٍ…». هنا، كما في قصائد عدة أخرى، يكسرُ درويش المفهوم اليقيني للالتزام، موسّعاً حدقة الرؤيا الجمالية، ولافتاً النظر إلى الغنى البصري الصرف للمشهد الطبيعي. بل يخال لنا أنه كان يمنيّ النفس بكتابة القصيدة الصافية، التي لا تشير إلاّ إلى ذاتها، متحرّرةً من كل إحالة خارجية، عائداً إلى لحظة الفراشة القصوى، التي تضمرُ ما لا تفصح عنه القصيدة: «الفراشةُ/ ما لا تقول القصيدةُ/ من فرط خفّتها تكسرُ الكلمات».

وعلى رغم أنه يحافظ على أسلوبه الغنائي الفريد، لكنه يتطلّع دائماً إلى استثمار طاقة النثر الكامنة في البنى السردية العميقة، بإيقاعاتها النحوية والصرفية والبلاغية. وهذا يفسّر اقتباساً يورده من كتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي، الذي يدعو فيه الى المزج بين روح النثر وروح النظم: «أحسنُ الكلام ما… قامت صورتُهُ بين نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم». ونعلم أنّ انحراف درويش عن نسق البنية الكلاسيكية للقصيدة لن يتوقّف عند التخفّف من موسيقى العروض الخارجية، بل سيتجاوزها إلى استخدام التفاصيل اليومية التي تمثّل بحدّ ذاتها إيقاعاً موازياً، لا يقلّ أهميةً عن تفاعيل العروض.

هذه الرغبة في رأب الصّدع بين النثر والشعر تبلغ ذروتها في ديوان درويش «في حضرة الغياب» (2006)، حيث ينجح الشاعر، إلى حد بعيد، بجسر الهوة بين نمطين من الكتابة، وتحديداً النثر والشعر، وذلك عبر اللجوء إلى استراتيجيات الاستعارة والترميز، وتوظيف إيقاعات النثر المضمرة لإغناء تفاعيل الوزن والقافية. ولأنّ الاختلاف بين النثر والشعر اختلاف في الدرجة وليس النوع، يعمد درويش إلى تقريب المسافة بينهما، في أكثر من نصّ، ليجد الشعر الهارب من التفعيلة ضالّته في النثر الحرّ، الموقّع، المتمرّد على الوزن والقافية، والمحافظ، في الآن عينه، على الإيقاع الداخلي للنبر والتجويد والتنغيم. ونعلم أنّ غنائية درويش تتأتى من اختياره السّرد الذاتي طريقة مثلى في التعبير، حيث يدوّن المتكّلم سيرته الذاتية عبر سلسلة من الصور المتدفقة التي تروي أحداث تاريخ دامٍ، يمتزج فيه الشخصي بالعام، والواقعي بالرمزي.

في ديوانه «أثر الفراشة» (2008)، نجد أنّ النصّ الإنشادي، الذي يعتمد الخطابة الغنائية، يتجاور أو يتآخى مع النصّ النثري الذي يعتمد الاسترسال السردي المفتوح. وفي كلا النموذجين، لا يزيح درويش قيد أنملة عن غنائيته الفريدة، المتأتية أسلوبياً من المزج بين إيقاع العروض ونبر البلاغة، كما يعبر هذا المقطع البديع عن طفلة تتضرع عبثاً لأبيها بأن ينهض، حرفياً ورمزياً، من موته: «لأنَّ يداً من ضبابْ/ يداً ما إلهيَّةً أَسْعَفَتْها، فنادتْ: أَبي/ يا أَبي! قُمْ لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!/ لم يُجبها أبوها المُسَجَّي على ظلِّهِ/ في مهبِّ الغيابْ». وفي قصيدة أخرى من المجموعة ذاتها يطالعنا نص نثري يشفّ ويخفّ في نبرته وإيقاعه، وينضمّ بقوة إلى نثرية عالية، يختار لها درويش عنواناً دالاً هو: «كقصيدةٍ نثريّة»، محاولاً بناء قصيدة نثر على طريقته، لا تخلو من نظمٍ دفين. يتعمّد درويش هنا التفريق بين الإنشاد، الذي يقرنه بالرّفعة، وبين النثر الذي يرمز إليه بصيف أرضي يهبط خجولاً على الناس، لا يكترث بالنسور المحلّقة في الأعالي. وكأنّ درويش يفرّق بين الغنائية الإنشادية، بصفتها انعكاساً للبلاغة الدينية أو السّماوية، الموزونة والمقفّاة بالطبع، وبين التقشّف اللغوي، بصفته ترجمة حية وحرّة، لكلام الناس وأحلامهم الأرضـية. بمعنى آخر، يـريد درويـش أن يمدّ جسراً بين بلاغة الأمـس وسـردية الحـاضر، ليـحقّق معادلة أبي حيان التوحيدي الصعبة، في كتابة نصّ يصهرُ النظمَ والنثرَ في نسيج واحد.

في تلك الجدلية الأزلية بين النثر والشعر، يقترب درويش أكثر من منتهى قصيدته المشتهاة، التي عرفت كيف تجمع بين نداء الحداثة وصوت التقليد، وتصبحُ جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة اللّغة الشعرية، بأبعادها الرّمزية والأسطورية والجمالية.

الحياة

حيفا وبيروت، باريس وتونس، رام الله وعمّان…

القدس المحتلة ـــ نجوان درويش
هل تغيّر شيء في نظرتنا إلى شعره بعد سنة على رحيله؟ هل تتضاعف رمزيته التي أحرزها عبر عقود من الكدح الشعري الدؤوب من جهة، وتماهيه مع صورة فلسطين وسؤالها الأخلاقي المفتوح على العالم؟ هل غياب الشاعر صاحب الكاريزما سيتيح لشعره قراءة أكثر تحرراً من سطوة الظاهرة التي تقاطعت فيها جملة عناصر ومكوّنات؟ ظاهرة تظل شعرية في الأساس، رغم ما دَخَل عليها من أثقال السياسة والأدوار والتوازنات الصعبة. ثم من هو الشاعر في النهاية؟ وهل بالإمكان فصل شيء عن آخر حين نتحدث عن عملية القراءة وبقية أشكال التلقي؟
ثم أين نعثر على الأجوبة؟ في مجلدات أعماله الشعرية؟ في فتوّته عند ضفاف المتوسط في حيفا وبيروت؟ في كهولته بين رام الله وعمان؟ في الناس الذين خرج منهم؟ في الشقق والعمارات والشوارع؟ في مدوّنة الشعر العربي وتحولاته؟ في الغياب؟ لا أحد يمكنه التنبؤ بمفعول هذا الإكسير العجيب (الغياب) على الأعمال الفنية، والزمن، هذا الماكر، لا نعرف ماذا يخبئ «الغياب» للذين عرفوا بريق الشهرة في حياتهم، أو مكثوا في ظلمة الهامش. نتذكر الآن أحمد شوقي ونزار قباني. والأعلى ذائقةً سيتذكرون لوركا ونيرودا. هذه السلالات الشعرية التي يمكن إرجاع محمود درويش إليها.
أما السؤال عن التركة الشعرية لشاعر ما، فيُحوّل تلقائياً إلى ثلاثة: النقد الأدبي وذائقة الأجيال الجديدة والزمن. وكل واحد يجيب بطريقته. وإن ظن بعضنا أنها ليست سوى جهة واحدة تتخفى بثلاثة أسماء.
هل نقف عند أطراف سيرته؟ الولادة في آذار (مارس) 1941 في قرية عربية فلسطينية لها اسم دقيق كأنما من الحنطة: «البروة». سرعان ما سيهجّر أهلها وتدمّر عام 1948. في العام نفسه، ترجع العائلة من نزوح قصير إلى لبنان، لتستقر في قرية «الجديدة» قرب عكا. سيتذكر حبال غسيلها دوماً. هناك في مدرسة قرية «دير الأسد»، سيعرف معنى كلمة لاجئ. تتضاعف قسوة الكلمة حين ينشأ المرء لاجئاً في بلده. هذا لجوء مركب يشبه الفقر واليتم كأن الأرض تهرب من تحتك. كلمة لاجئ مثّلت له تحدياً حتى النهاية، وقد مثّل في حياته ــــ واعياً لهذا التمثيل على الأغلب ــــ نموذج الفلسطيني الذي يثير الحبّ والحسد لا الشفقة.
عكا وحيفا في الستينيات، فتوة لا ينقصها الصخب، وغسان كنفاني (1936 ــــ 1972) يصدر كتابه «أدب المقاومة» (1966). هذا التيار الذي حمل معه كثيراً من الأخشاب الميتة. في حيفا، يلتحق بـ«راكاح» (الحزب الشيوعي الإسرائيلي)، عن طريق المؤرخ الشيوعي إميل توما (1919 ــــ 1985). تبدو علاقته مع توما نموذجاً مصغراً، أو تمريناً لعلاقته اللاحقة بياسر عرفات الذي بقي مقرّباً منه حتى الاغتيال الغامض للأخير في باريس.
ذات يوم في رام الله، تناقشنا معه حول أمسيته الحيفاويّة التي أثارت نقاشاً عارماً عام 2007، خصوصاً أنّ جانباً من الحساسيات المثارة حولها حينذاك مردّه إلى أنّ «الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة» (وريثة الحزب الشيوعي الإسرائيلي) هي من نظّم الأمسية، ما أعطاها «أبعاداً» كانت في غنى عنها. فوجئنا يومذاك بردّه على التساؤلات النقديّة: «… ولكنه حزبي!». استغربنا أن يكون الشاعر ما زال يعتبر نفسه من هذا الحزب، فيما الصورة الملازمة له كان قد طغى عليها ارتباطه بـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، وانقطاعه الطويل عن العمل السياسي داخل فلسطين المحتلة منذ التحاقه بمنظمة التحرير بداية السبعينيات. بل إنّ بعض أقطاب هذا الحزب نددوا بخروجه من البلاد في ذلك الوقت (1972)، بنبرة تذكّر بما سيتعرض له بعدها بسنوات طويلة المفكر والقائد السياسي عزمي بشارة.
أولى محاولاته تعود إلى المجموعة الشعريّة التي أسقطها لاحقاً، وحملت عنوان «عصافير بلا أجنحة» (1960). اعتبر محمود «أوراق الزيتون» (1964) مجموعته الأولى. وطوال ربع قرن من عمله الشعري، لم يكن بإمكانه إلا أن يعترف: «خرجت من عباءة نزار قباني». تأثير لوركا لم يكن قليلاً في تكوينه الشعري. ولاحقاً كان كثير الإفادة من لغة معاصريه بدرجات وأشكال متفاوتة: أدونيس وسعدي يوسف وسليم بركات وغيرهم. وفي شعره المتأخر، سنجد تأثيرات مختلفة تبدأ بـ ت. س. إليوت ولا تنتهي بكنوت أو ديغارد. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إنّه لم يكن بعيداً عن التأثر بحساسيات شعرية مختلفة في قصيدة النثر كنوري الجراح وعبّاس بيضون وغيرهما. آخر قصيدة نشرها محمود في حياته بعنوان «لاعب النرد»، لا يمكن إلا أن تذكّرنا في مطلعها بقصيدة «صور» لعباس بيضون.
موسكو والقاهرة وبيروت بين 1972 و1982: إنّها فترة «صعود نجم» الشاعر. تونس وباريس حتى 1995: «لماذا تركت الحصان وحيداً». هذا الديوان انعطافة كبيرة في شعر محمود درويش. رام الله وعمّان حتى 2008: غزارة لافتة في الإنتاج، وفي متابعة النجاح الأدبي وتلقي التقدير من الجماهير، والتكريم والأوسمة من السلطات العربية… لقد اتسع الاهتمام العالمي بشعره، وكان يبدو شديد الحرص على نجاحه. وفي السنوات الأخيرة بدا كأنه لم يعد يؤمن بجدوى مشروع مقاومة أو نهضة في المنطقة العربية! العبارة في مجموعاته الشعرية الأخيرة كانت تتسع وتشفّ وتتموج… وتتكرر أيضاً. في شهر آب/ أغسطس الماضي، وصف أحد أصدقائه رحيله المباغت بـ«وثبة غزال»… كأنه يقفز الآن!

شاعر البدايات الدائمة
عبده وازن

الذكرى الأولى لرحيل محمود درويش كانت الفرصة الملائمة لإصدار ديوانه الأخير «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» في طبعة جديدة، خالية من الأخطاء التي اعترتها، عروضية كانت أم طباعية. فهذا الديوان الذي لا يحمل صفة «الديوان الأخير» يستحق أن يُقرأ في منأى عن السجال الذي دار حول أخطائه ومَن ارتكبها وكيف. هذا ديوان ليس بـ «الأخير»، بحسب ما جاء على غلافه الأول، وإن كان صدر بُعيد رحيل شاعره. وقد لا يكون أصلاً ديواناً إذا قورن بمفهوم محمود درويش للديوان، لا سيما في الأعوام الأخيرة عندما كان الشاعر ينصرف الى بناء ديوانه أو تشييده، لغة ومناخاً ورؤية، حتى ليمسي أشبه بالمعمار الذي لا يمكن المسّاس به. هذا ديوان ناقص إذا تم وصفه وفق العيار «الدرويشي» أو انطلاقاً من نظرة الشاعر الى الديوان، ديوان «مركّب» من قصائد كانت مبعثرة في الأدراج وبين الأوراق، وكان الشاعر، على ما بدا، يؤجل النظر فيها، مرة تلو مرة، مع أنه لم يكن يخفي حبه لبعضها. ولعله كان يحدس أن هذه القصائد كتبت كيلا تجمع في ديوان، أو لتبقى مبعثرة في الذاكرة وعلى الورق بخط يده. بل لعله كان يحدس أن هذه القصائد كتبت لئلا تنتهي، أي لتظل قصائد مفتوحة على الصدفة التي هي قدرها المجهول.

لم يتخيّل محمود درويش قصائده هذه، التي كتبها في فترات وظروف وأحوال شديدة الاختلاف، تجتمع في ديوان لم يمرَّ عليه قلمه، حاذفاً بضع مفردات هنا أو مضيفاً بضعاً هناك، ديوان لم يلق على صفحاته نظرة أخيرة، ثاقبة، تنم عن مراسه الصعب في «ترويض» القصيدة وبلورة اللغة. لكن الديوان صدر حاملاً اسمه وصفة «الديوان الأخير» وكان من المفترض أن يحمل صفة «ديوان ما بعد الرحيل» كما يحصل في الغرب عندما تُنشر الأعمال بعد موت أصحابها، لا سيما إذا لم يتسنّ لهم إكمالها ووضع اللمسات الأخيرة عليها. وبدت الصفة هذه على تناقضٍ مع جوّ القصائد التي ضمّها الديوان، وبعضها بديع حقاً ويستحق النشر. وكان العنوان كافياً ليدل على عدم اكتمال الشعر هنا أو المشروع الشعريّ الذي لم يرد الشاعر أن ينهيه ويغلق نوافذه التي تطل على اللانهائي. ومَن يقرأ القصيدة التي حمل الديوان عنوانها يدرك أن الشاعر لم يكن البتة أمام ديوانه الأخير، ولا أمام نهاية مشروعه الشعري الفريد. و هذا سرّ محمود درويش الذي كلما أحس أن النهاية تتهدده شرع في بداية جديدة. فهو شاعر البدايات الدائمة، البدايات التي تعقبها بدايات ولو اكتسبت طابع المغامرة الجريئة أو الخطرة في أحيان.

لكن نشر هذه القصائد المتناثرة والمبعثرة لم يسئ اليها على رغم الهنات التي اعترت الديوان، بل هو أتاح لجمهور الشاعر أن يستعيد قصائد كان قرأها سابقاً أو سمع عنها أو يجهلها تماماً. وكان لا بد لهذه القصائد من أن تصدر فلا تظلّ رهينة الأدراج على رغم الصيغة المضطربة التي ظهرت فيها. وبعض هذه القصائد من أجمل ما كتب الشاعر وأعمق ما كتب، وفيها يبلغ القمم التي ارتادها سابقاً. وقد تكون بضع قصائد قصيرة أشبه بـ «اللقى» الشعرية ذات الصوت الخفيض والوهج الخفي، ومنها على سبيل المثل قصيدة «كلمات» و «عينان»… ناهيك عن القصائد التي تحمل في صميمها ما يشبه «البيان» الشعري الأخير الذي يندّ عن نظرة الشاعر الى الشعر واللغة كمرآتين يتجلّى الموت على صفحتيهما. ولا يمكن نسيان القصائد التي بدت تحلّق في فضاء الذات والأنا والجمال، متحرّرة من ثقل التاريخ، الشخصي والعام.

واللافت في هذا الديوان الذي ليس بديوان تام، أن قصائده تخفي الكثير من المفاتيح التي لا بدّ منها لدخول عالم الشاعر، بأسراره وسماته الفريدة. يشعر القارئ الحصيف أن ملامح عالم محمود درويش تتوزّع القصائد هنا، متراوحة بين الغنائية العالية ونثر الحياة اليومية والتخييل والترميز والسرد والماوراء والواقعية المباشرة… كأن عالم الشاعر يتجلى كله هنا، متناثراً ومضيئاً مثل قطع البلّور: الحب والموت والمنفى الداخلي والخارجي، بؤس التاريخ، مأسوية الحياة، العبث واللاجدوى، الألم المجهول، السراب، الصمت، الغناء المجروح، الحلم… لو تسنّى للشاعر أن يصنع هذا «الديوان» وأن يهذّبه ويبنيه لكان حتماً من أجمل دواوينه! ولكن لا ضير أن يصدر بعد رحيله ليكون شاهداً له، شاهداً لشعرّيته الكبيرة.

يكتب محمود درويش قصيدة بعنوان «عينان» قد تكون احدى أطرف القصائد التي كتبت عن «عيني» امرأة. والطرافة هنا تعني الغرابة ممزوجة بالجمال والسحر. انها قصيدة فريدة في لغتها كما في مقاربتها لصورة «العينين» اللتين تضفي عليهما ألواناً تشبه ألوان قوس قزح أرضي أو حلميّ. كأن درويش يهتك في هذه القصيدة، القاعدة التي قام عليها شعر «العينين» أو «غزل» العينين بالأحرى. فالعينان الأنثويتان هنا لا لون واحداً لهما بل هما «تائهتان في الألوان»: عينان «خضراوان قبل العشب، زرقاوان قبل الفجر…». عينان «لا تقولان الحقيقة»، عينان «تكبران إذا النجوم تنزّهت فوق السطوح وتصغران على سرير الحب»… نادراً ما كتب عن «العينين» بمثل هذه الفتنة أو بمثل هذا الالتباس أو الغموض. العينان ليستا «غابتي نخيل» كما وصفهما بدر شاكر السياب ولا هما الأعجوبة التي سحرت الشعراء على مرّ العصور من المتنبي الى نزار قباني وأنسي الحاج، ولا هما مرآة الطبيعة البهية، كما تخيلهما الشاعر الفرنسي لويس أراغون، انهما بحسب محمود درويش، «تهربان من المرايا»، عينان «صافيتان، غائمتان، صادقتان، كاذبتان»، انهما عيناها… ثم يقول الشاعر خاتماً قصيدته بما يشبه المفاجأة الساطعة سائلاً: «ولكن من هي؟». كأن كل غزله بهاتين العينين هو غزل بعينين لا امرأة لهما، عينين هما كل العيون وليستا لامرأة يسميها امرأته.

هذه القصيدة البديعة هي من المفاجآت التي حملها الديوان «الناقص» الذي يصعب وصفه بـ «الأخير» ما دامت قصائده كُتبت لتبدأ ثم تبدأ ثم… وما أكثر القصائد التي تماثلها فتنة واغواء، في هذا الديوان الذي كان يستحق أن يقرأ في الذكرى الأولى لرحيل شاعره، في طبعة أخرى، خلو من الأخطاء، العروضية والطباعية التي ارتكبها سواه.

عام على رحيل محمود درويش! ما أصعب الكلام عن هذا الشاعر في صيغة الغائب، هذا الشاعر الذي يحمل في قلبه «ثقباً سماوياً» والذي «يمشى على أطلاله… خفيفاً مثل أوراق الشحيرات».

الحياة

القصيدة محتفظة بأسرارها

الرباط ـــ محمود عبد الغني
درويش الذي قرأه جمهور واسع من المغاربة، هو بحقّ مخترع التركيبات الشعرية الجديدة. هو ليس صاحب قصيدة مؤثرة فحسب، بل مهندس جمالية خاصة وقوية. وهو بذلك أسهم في تشكيل وعي معين بالشعر وبالنثر أيضاً. وما هذا التأثير القوي إلا لأنّه يعمل بدقة على قصيدته. والدقة هنا هي بالمعنى الذي حدّده كالفينو: تصميم محدّد ومحسوب، استحضار صور بصرية صافية، مؤثرة وخالدة ولغة دقيقة سواء لجهة المعجم أو تحقيق الفوارق الدقيقة للفكر والخيال.
وفي وقت كان فيه معظم الشعراء يستعملون اللغة بشكل عشوائي ومهمل، كان درويش يعتمد على أدواته الثلاث تلك لكتابة قصيدة دقيقة، تطرح قضية أكثر دقة تتصل بالذات والوطن. هنا بالضبط كانت قصيدته تستجيب لمبدأ الوظيفة. وجد الشعراء المغاربة فيه شاعراً يترك أدواته في قصيدته، فالتقطوا تلك الأدوات وبدأوا يشكّلون بها قصيدتهم.
ليس هناك أخطر من شاعر يترك أدواته وراءه. لاحقاً، بدأ درويش يخفي أدواته، ليس بنيّة مواراتها عن الآخرين، بل لأنه وصل إلى السنّ التي ينزع فيها الإنسان إلى إخفاء كل شيء… إلى درجة أنّه بدا كأنه يخفي حتى نحو اللغة التي يكتب بها. في هذه اللحظة بالضبط، أصبح طلاب الكليات وهواة الشعر في حيرة من أمرهم، كيف يمشون على خطى شاعر لم يترك أثراً وراءه؟ حدث هذا خصوصاً مع المجموعات التي نشرها درويش لدى «دار توبقال» في المغرب: «ورد أقل»، «أحد عشر كوكباً»، «أرى ما أريد» … انطرحت بإلحاح مشكلة: كل مَن يقلِّد هذا الشاعر بالاعتماد على أدواته يبدو كمن يضع على رأسه شعراً مستعاراً، يثير الشفقة والسخرية في آن.

رفض أن يكبر، ورحل بلا ورثة ولا مجدّدين

محمد خير
لم يتح الزمن لمحمود درويش أن يشيخ مع قصائده أو بها، فلم يهبط منحناها ولم تبدُ أسطره الأخيرة ابنة تعب، بل ظلت شابة في عنفوانها، حتى وهي تناجي الموت وتجادله. كانت القصائد الأخيرة لكنها ـــــ مع ذلك ـــــ لم تكن تشبه قصائد النهايات، بل تميزت بخصوبة وطزاجة لعلّها السبب في ذلك الشعور المتناقض الذي سكن كل من فوجئ بالرحيل. إذ امتزج الحزن بالطمأنينة في تركيبة نادرة، الطمأنينة لأنّ ذلك الشاعر الكبير منحنا الكثير من الشعر، حتى إننا لن نستطيع أن نفتقده، والحزن لأن ذلك العنفوان المتبدي حتى السطر الأخير، كان ينبئ بالمزيد من القصائد والصور التي وقفت تنتظر دورها فلم تسنح لها الفرصة.
كان شاباً إلى النهاية، وربما لهذا لم يكن له تلاميذ، بل مقلّدون وغيارى وباحثون عن شفرة امتلكها درويش وحده. يندر ـــــ خاصة في التراث العربي ـــــ ألا يكون لشاعر بهذا الحجم مدرسة،
تجربة حافلة بالدروس التي لا يستطيع تطبيقها الآخرون

حتى لو ظن بعضهم أنّها موجودة، لكن عباءة الشاعر لم تنجب سوى نسخ صغيرة ذابت فيه. أما بعدما وضعت النقطة الأخيرة في نهاية السطر الأخير للقصيدة الدرويشية الأخيرة، فلا ورثة ولا مجددون، بل طرق أخرى مختلفة تماماً يتقاطع أصحابها مع درويش في أسئلته الإنسانية، لا في لغته. يفيدون من تجربته معرفياً، لا أسلوبياً.
فرادة درويش أنّه ارتدى مجده ثياباً كلاسيكية في مقهى عصري، صعدت قصيدة النثر العربية ونمت وتطورت حول درويش في كل مكان، فلم تمسّ منه ولم يمسّ منها، ولم يلتقيا في موعد، لا حبّ ولا كراهية، فقط بضع كلمات هنا أو هناك من لزوميات الإجابة عند السؤال. كأنه وتلك القصيدة الحديثة عالمان منفصلان لا يرى أحدهما الآخر، فلا يأخذ واحدهما من مكانة الثاني، لا يحاربه ولا يخوض معاركه، لا يزيده ولا ينقص منه.
لأنه لم يكن مدرسة، فإن محاولة استخلاص درس منه ستنتج حلولاً غريبة. صحيح أنه برهن على اتساع الشكل القديم لمعانٍ جديدة، وعلى ازدهار الصورة الشعرية في عالم الصورة البصرية، وعلى بقاء الشاعر رمزاً وبقاء الشعر نصاً مقروءاً في الوسع. ولكن مشكلة كل تلك «الدروس» أنّها ارتبطت بدرويش نفسه، ولم تبرهن بعد على قابلية إعادة التطبيق في واقع تضيق فيه مساحة قراءة الشعر على رغم اتساع السوق، وغزارة الأدب.
وما زال الشعراء الجماهيريّون الآخرون في معظمهم لا يليقون بأن يكونوا زملاء درويش، بل يداعبون في الشعر أجهله، ويلجأون إلى الكلمات التي تكملها آذان المتلقّين تلقائياً لكثرة ما سمعوها من قبل… أما في القصيدة الحديثة، فتضيق دائرة المتلقين حتى تكاد تقتصر أحياناً على كتّاب تلك القصيدة أنفسهم. وهي حالة لم يغيّر منها كثيراً تقدم وسائل النشر والاتصال، وزادت من تدهورها مسابقات الشعر التلفزيونية التي أكملت الجريمة المعرفية التي بدأتها مناهج التعليم. ومع ذلك، تواصل القصيدة الجديدة ازدهار «الكتابة» لا الانتشار. وفي خضم صراع كتابها ضد حراس الماضي، يستثنون محمود درويش من غضبهم، لأنّه أشعر من أن يعاديه أحد!

هنا يرقد، بعيداً عن الجليل

رام الله ـــ زياد خدّاش
أجلس على حجر قرب ضريحه. إنّها الواحدة ظهراً، والشمس فقدت عقلها. كيف نترك رجلاً أهدانا ظلال المعاني والأمكنة والأحلام، وظلال الأوطان والمنافي والدروب، في الشمس وحده؟ قربي شرطي ضجر، يجلس في ظل بيت حديدي. خلفي مباشرة مزبلة رام الله الرئيسة. تُحرق القمامة ليلاً، فيطير دخانها في المكان. متى ستنقل المزبلة بعيداً؟ يجيبني موظفٌ في البلدية متلعثماً «المزبلة لن تنقل قبل ثلاث سنوات».
تستطيع أن ترى تلّة الضريح، ما إن تصل إلى «قصر الثقافة الفلسطينية»، وتنظر جنوباً. أمامك، طريق عشبي محاط بسلك معدني ومصابيح كهربائية. تلج عبر بوابة حديدية مساحة دائرية عشبية، فيها ثلاث شجرات صفراء. حول تراب محمود درويش، قفص زجاجي بشع، وضع لردّ هجمات الكلاب الضالّة، بانتظار استبداله بنصب تذكاري ينجزه المعمار جعفر إبراهيم طوقان، لكنّه لن يكتمل قبل تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.
بلدية رام الله مقصِّرة: يكفي أن ترى الغبار فوق القفص الزجاجي وأشكالاً بدائية لقمامة تتكوّن ببطء قرب الضريح… مناشدات المثقفين الفلسطينيين لتعيين حارس مدني لم تلقَ تجاوباً رغم تحطيم مصابيح الكهرباء مراراً من قبل عابثين. الشرطة عيّنت حرّاساً مسلحين، إلّا أنّ مظاهر السلاح قرب ضريح شاعر بدت منفِّرة. أمّا «مؤسسة محمود درويش» فما زالت غير مكتملة مالياً وتنظيمياً. كانت ستعلن انطلاقتها في الذكرى الأولى لرحيل الشاعر، إلّا أن عدم اكتمال النصب أجّل ذلك، رغم وضعها الحجر الأساس لمتحف ومسرح وحديقة قرب الضريح. عائداً إلى البيت، حاذيت نافورة ماء على مدخل قصر الثقافة. لماذا يُحرم ضريح محمود درويش المجاور من هذا الماء الدافق؟

بيت عمّان يسكنه «الغياب»

عمّان ــ أحمد الزعتري
أن تدخل منزل غائب، يعني أن تشعر بثقل غيابه، أن تأخذ الأشياء شكل حارسها النائم. أن تترك الباب موارباً، يعني ألا تنتظر أحداً، أو… أن تتركه يتسلّل خفيفاً. هكذا كان باب منزل محمود درويش في عمّان موارباً، فتحه شقيقه أحمد ذلك اليوم ولم يغلقه. نام في سريره وفكّر «كيف كان ينام وحده؟». يزور أحمد منزل شقيقه كل فترة؛ يفتح الستائر ويحاول تقليد القهوة الدرويشيّة. لا شيء هنا يوحي بترفٍ. عندما انتقل من باريس إلى عمّان لم يصطحب معه إلا مكتبته، ومرآة مزخرفة تحتلّ جداراً في الردهة، والمكتب. تحتلّ المكتبة جداراً كاملاً. تستقرّ على رفّ «فصوص الحكم» و«المواقف» للنفّري و«ألف ليلة وليلة»… وفي الشِّعر، يحتفظ درويش بدواوين المتنبّي، المعرّي، أبو نوّاس، طرفة بن العبد… ومن الشعراء المعاصرين، يحتفظ بأعمال أمجد ناصر، عبّاس بيضون، سعدي يوسف، سليم بركات، قاسم حدّاد، والراحلين: معين بسيسو، ممدوح عدوان والماغوط، إضافة إلى أعمال لبول شاوول، محمد بنيس، عبد الفتاح كيليطو وإدوار سعيد…
غرفة المكتب متقشّفة: بضع لوحات، صوفا وكرسيان وتلفزيون. يقول أحمد: «تركتُ كل شيء كما كان». لا يعرف أحد مصير المنزل، لكنّ «مؤسسة محمود درويش» التي تتكوّن من صديقيه حاملي نوبل وولي سوينكا وبرايتن برايتنباخ، ستقيم قريباً ضريحاً في مكان القبر ومتحفاً وحديقة ومسرحاً وتمثالاً للشاعر.
عمّان التي استقرّ فيها درويش لأنّها «هادئة وشعبها طيّب»، تستترُ وراء حجرها الأبيض، غبر مبالية بمنزل يسكنه «الغياب»… عندما حاول أحمد وصف عنوان المنزل، لم يعرف «عمّان كلّها حجر، وين بدّي دلّك؟».

في البدء كانت القاهرة

القاهرة ـــ محمد شعير
لو لم تكن شاعراً فماذا تتمنّى أن تكون؟ أجاب فوراً: رساماً. الإجابة لم تكن هروباً من سؤال يعدّه بعضهم «محرجاً» بقدر ما تكشف الرغبة الدفينة التي تسكن محمود درويش. رسام. لكنّ الرسم مكلف للعائلة. الأب يخرج صباحاً ليعمل في المحاجر، ولا يملك ثمن الألوان وكرّاسات الرسم، فضلاً عن تكاليف الدراسة. كبت الصغير هوايته وأخبر أستاذه: «أنا أكتب الشعر». صدّق الأستاذ وطلب منه أن ينشد في طابور الصباح إحدى قصائده.
بالفعل، قرأ الصغير قصيدته الأولى على زملائه. قصيدة عن «طفل يعود إلى قريته، فلا يجد من بيته سوى الأطلال، وأرضه سرقت… ولم يعد يملك شيئاً سوى الغربة. في اليوم التالي، جاء عساكر الاحتلال للتحقيق مع محمود الذي لم يكن يتجاوز الثانية عشرة… شعر بالرعب لكنّه اكتشف أيضاً أن الشعر سلاح قوي، يخشاه الغزاة والطغاة! وفي تلك اللحظة فقط، قرر أن يكون «شاعراً»، يداعب أساتذته بالقصيدة، كما فعل عندما كتب إلى معلمه شكيب جهشان: «ضحك القرنفل فاستبد بخاطري، وأهاج شوقاً للجمال العابر».
هل قابل الشاعر عبد الناصر في موسكو؟

وبدأ ينشر ما يكتب في الصحف المحلية. وعندما وصل إلى المرحلة الثانوية، كما يروي شقيقه أحمد، «صار ضيفاً على المهرجانات التي كان يقيمها الحزب الشيوعي في مناسبات مثل الأممية وأول أيار والانتصار على النازية». وفي هذه المناسبات، كان محمود يذكر كثيراً مفردات الحنين والعودة واللاجئين، وهي المفردات التي ستكون الأساسية في شعره. وقد تسبّبت واحدة من تلك القصائد بأن يفقد والده عمله لتصبح العائلة كلها بلا مصدر دخل! هذه الحكايات البسيطة تريح النقاد الباحثين عن «المرحلة الأكثر تأثيراً» في قصيدة درويش. هل كانت القاهرة أم بيروت أم باريس؟
كل الوقائع تؤكد أنّه كان «نجماً» في سماء القصيدة الفلسطينية قبل أن يترك فلسطين، وكان نجماً في القاهرة قبل أن تطأ قدماه المدينة، وكثيرون هم أصحاب الفضل في ذلك. ترى الكاتبة صافيناز كاظم أنّ الراحل أحمد بهاء الدين هو مَن احتضن درويش في البداية، عند مجيئه إلى القاهرة… بل قبل مجيئه، منذ بدأ ينشر مقالات عن شعر محمود درويش. وكانت أولاها في «المصور» (2 أيار/ مايو 1967) بتوقيع غسان كنفاني: «محمود سليم درويش شاعر المقاومة الفلسطينية». تناول كنفاني قصيدة «بطاقة هوية» التي باتت معروفة أكثر بأوّل سطر فيها «سجل أنا عربي»، وختم معتبراً أنّ «درويش يمثل علامة طليعية بين رفاقه الشعراء العرب في الأرض المحتلة، وقد وضعه شعره الحاد في حرب مع العدو، حورب فيها برزقه أولاً، ثم أبعد عن قريته، ثم وضع في السجن، ومن داخل ذلك السجن كتب أجود شعره وأكثره عنفاً وتحدياً».
ولاحقاً، كتب رجاء النقاش كتابه «درويش شاعر المقاومة» الذي صدر عام 1969. وبعد ذلك باتت الحكاية معروفة: حين وصل درويش إلى القاهرة لم يكن شاعراً مجهولاً. كان ذلك في شباط (فبراير) 1971 بعد رحيل عبد الناصر، علماً أنّ الكاتب محمد حسنين هيكل يصرّ على أن درويش وعبد الناصر التقيا شخصيّاً. وهو أمر لم ينفه شقيقه أحمد، الذي أكّد أن «موسكو شهدت لقاءً بين الشاعر والزعيم». وبالفعل، زار عبد الناصر العاصمة الروسية للعلاج في الفترة التي كان محمود مقيماً فيها.
في القاهرة التقى درويش الصحافي عبد الملك خليل، وانتقل مباشرةً إلى «فندق شبرد» للإقامة، ثم إلى «إذاعة صوت العرب» حيث صدر قرار بتعيينه، وطلب منه مدير صوت العرب في ذلك الوقت محمد عروق أن يسافر مع المذيع عبد الوهاب قتاية إلى الأقصر وأسوان لأيام. وبالفعل سافر درويش لمشاهدة الآثار المصرية. وحكى قتاية عن هذه الرحلة أنّ أكثر ما أسعد درويش أنّ «محافظ أسوان رتب لنا زيارة إلى مدرسة نائية فى أطراف المحافظة وزرناها وذهبنا إلى أحد الفصول حيث راح الأطفال ينشدون إحدى قصائد درويش بألحان مصرية، فإذا بالدموع تكرّ على وجنتي الشاعر».
ما إن وصل درويش من تلك الرحلة حتى أقيم له مؤتمر صحافي أعلن خلاله أنّه برحيله إلى القاهرة، لم يرحل عن «المعركة»، وأنه غيّر «موقعه» ولم يغيّر «موقفه»، وأن الخطوة التي اتخذها جاءت «ليضع حقيقة ما يعانيه أهله في فلسطين أمام الرأي العام». ثم اصطحبه الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وصافيناز كاظم في رحلة عبر مدينة القاهرة التاريخية، سجّلا وقائعها في مجلة «المصور» التي عُيِّن فيها لشهور قبل أن يطلب منه محمد حسنين هيكل الانتقال إلى «الأهرام».
هناك، بدأ درويش ينشر قصائده ومقالاته (لم تجمع حتى الآن في كتاب). وكانت إقامته في القاهرة مثار جدل بين الشعراء: رحّب به صلاح عبد الصبور واحتفى بأعماله، وكان من أوائل الشعراء الذين كتبوا عنه عام 1968 مقالة بعنوان «القديس المقاتل» نشرتها مجلة «الهلال». وهناك شعراء آخرون، كما تقول صافيناز كاظم، أيّدوا منطق نجيب سرور الساخر: «اشمعنى محمود درويش مدلل في فندق شبرد، ما احنا كمان شعراء الأرض المحتلة»!
لم يمكث درويش طويلاً في القاهرة. غادرها بعدما تغيرت الأحوال وقام السادات بثورة 15 مايو، أو ما سمّاه «ثورة التصحيح»، ليجد الشاعر أن أصدقاءه أصبحوا في السجون. هكذا انتقل للاستقرار في بيروت، حيث ستغتني تجربته الشعريّة، وتعيش قصيدته تحوّلاتها الحاسمة الأولى.

بين «تانيا» وعيوني…

أنا الآن على ظهر «عمارة إميل توما» في شارع عبّاس بحيفا. سطح العمارة تابع للبيت الصغير الذي قضيتُ فيه ليلتي مع أصدقاء. تحتنا شقة الشاعر الشاب محمود درويش في ستينيات القرن الماضي! لم يكن يسكنها وحده، اعتاد تقاسم الشقق مع أصدقائه، بسبب الإيجار على الأرجح. المصادفة وحدها قادتني إلى هذه العمارة من دون بقية بيوت حيفا. إذ قرر أحد الأصدقاء أن تكون بقية السهرة عنده.
بمجرد أن ركنتُ السيارة في آخر شارع عبّاس ومشينا إلى البيت الرقم 45، وقبل أن نصعد الأدراج، قيل لي «هنا كان يسكن محمود درويش، في الطابق الثاني. هذه العمارة كانت لإميل توما، وفيها كان بيته». «واللهِ؟» أجبتُ مندهشاً، فيما قلت لنفسي: «حتى إلى هنا يسبقني»، متذكراً أن عليّ تسليم مقالتين للجريدة ليظهرا في الملف الخاص بذكراه الأولى. المقال الأول عن التركة الشعرية لدرويش كما يراها شاعر من جيلي (هكذا طُلب مني)… والمقال الثاني عن قصة الشخصية الحقيقية لـ «ريتا» التي شاع اسمها مع أغنية مرسيل خليفة. إذ يقال في دوائر ضيقة إنّها تانيا رينهارت التي توفيت قبل سنتين في نيويورك، بأزمة قلبية مفاجئة(قبل ذلك بأشهر، اعتدى عليها متطرفون صهاينة خلال تقديمها محاضرة في «مكتبة المقاومة» في باريس)… ولدت تانيا عام 1943 وتربّت مع أمها الشيوعية في حيفا.. وكما تتلمذت على يد تشومسكي في اللغويات، فقد ذهبت مثله بقوة للكتابة السياسيةً. وحتى وفاتها المفاجئة، كان شغلها فضح سياسة إسرائيل والدول الغربية، إضافةً إلى كونها من مناصري المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل.. كنت معجباً بتانيا وحزنت حين ماتت. إعجاب لا علاقة له بخرافة «اليسار الإسرائيلي» التي يستعملها بعضهم لتغطية التطبيع مع المشروع الصهيوني.. أجرّب أن أُغنّي: «بين (تانيا) وعيوني بندقية.. والذي يعرف (تانيا) ينحني ويصلّي لإله في العيون العسلية».
تانيا الآن ميتة ومحمود ميت، ونحن نصعد الأدراج التي كانا يهبطان منها في الصباح إلى شارع عبّاس. قطع مخيلتي كلام آخر أثناء صعودنا درج العمارة النظيف. أسماء عربية لسكان البيوت ما زالت على الأبواب. وإن لم يعد «عباس» كما كان، صار مكتظاً وفقد رونقه، كما قال لي أحد الرفاق صباح اليوم التالي.
ينفتح البيت على سطح العمارة الذي ألحقه بها مالك الشقة الجديد. هناك، بدأت السهرة من منتصف الليل حتى ساعات الفجر الأولى. السهر فعل جنوني، والكلام أرجوحة مسننة نتأرجح عليها حتى نسقط صرعى النوم… البحر قبالتنا نائم في البحر، والسماء سهرانة وثلاث سروات متفاوتة الطول تتمايل رؤوسها قرب سطوح العمارات رغم علوّها.
لم أتمكن من النوم، إلا بشكل متقطّع، بسبب حرارة شهر آب في حيفا ورطوبته، مقارنةً بصيف القدس المعتدل. بعد العاشرة صباحاً فقط، راح الهواء يلعب في الغرفة محرّكاً روزنامة رمادية على الحائط، عليها صور محمود درويش، صدف أن كانت قبالة فراشي. أغمض عينيّ محاولاً النوم. أفتحهما فأرى الروزنامة تتحرك، وعليها صورة الشاعر ومقاطع من قصائده. يلحّ عليّ من جديد (مثل تلميذ يؤرّقه واجبه المدرسي) موضوع المقالتين لـ«الأخبار». لست قادراً على الحسم: هل ريتا هي تانيا رينهارت؟ هل نعلنها على ذمة الرواة؟ أتمسّك بالحكاية، رغم أنّنا لا نستطيع حتّى الآن تبنّيها كحقيقة تاريخية.
الأصدقاء استيقظوا باكراً وخرجوا إلى أشغالهم. لم يبقَ في الشقة إلا أنا ورفيقة تنام في الغرفة الأخرى. بعد قليل سنخرج، سننزل إلى المدينة التي ستكون أول ما سيُحرّر من فلسطين، كما صرت أؤمن بعد تموز 2006. سنترك «ريتا» ومحمود نائمين في البيت الرقم 45 في شارع عباس، الذي تغمره شمس الستينيات. أما «تركة محمود الشعرية»، فهذا آخر ما يمكن أن يتحدث عنه وارثٌ متلاف!
نجوان…

رفاق حيفا يتذكّرون السنوات الشيوعيّة

حيفا ــــ غالب كيوان
على رغم الانتقاد الذي تعرّض له عندما أقام أمسية شعرية في حيفا عام 2007، ورغم الفكرة السائدة بأنّ هذه الزيارة هي الأولى له إلى حيفا، إلا أنّ محمود درويش زار البلاد كثيراً قبل ذلك. لم يزرها فقط في عام 1996 للمشاركة في جنازة الأديب والصحافي وعضو الكنيست السابق إميل حبيبي الذي كان له أثرٌ كبيرٌ في حياته. بل كانت لدرويش زيارات أخرى للمشاركة في مناسبات مختلفة، بينها زيارة عام 1999، حين سُمح له بزيارة أمه وعائلته. هذا ما يؤكده عصام خوري أحد أبرز أصدقاء درويش: «عاد محمود بعد أوسلو إلى رام الله. وخلال فترة حكومة رابين ـــــ بيريز، دخل البلاد مرات عدة في «زيارات شخصية»، وكنت أذهبُ بنفسي لإحضاره من جنين».
الشاعر سالم جبران الذي قطن معه في حيفا، وكان زميله على مقاعد الدراسة خلال فترة الثانوية في كفر ياسيف، يقول: «أنهينا المرحلة الثانوية… ولم يكن ممكناً أن نعمل في سلك التربية والتعليم بسبب الأشعار التي كنّا ننشرها. هكذا، ذهب محمود للعمل في عكا في «مطبعة القبس»، وأنا عملتُ في مطعم. وفي السنة عينها، اتّصل بنا المرحوم إميل حبيبي بواسطة رفاق في الحزب، ودخل محمود للعمل في مجلة «الجديد»، وأنا في مجلة «الغد». ثم صدرَ ضدنا أمرٌ عسكري بما يسمى الإقامة المنزلية. وهذا يعني أنّك حرٌّ في النهار وطليقٌ في حيفا. لكن في الليل، يجب أن تكون في بيتك. وفي تلك الفترة، سافر المؤرخ والقيادي الشيوعي إميل توما للدراسة في الاتحاد السوفياتي وقطنا معاً في منزله في شارع عبّاس».
كان يتهيّأ لخطابات عبد الناصر كمن يؤدّي طقساً مقدّساً

الشاعر سميح القاسم يروي قصة مختلفة عن انضمام محمود درويش إلى الحزب وصحافته. يقول: «عمل محمود مراسلاً في صحيفة «المرصاد» التابعة لحزب «مبام». وخلال مؤتمر في مدينة عكا حول قضية الأرض، راح يطرح بعض الأسئلة على حنا نقارة الذي سأله: من أنتَ؟ فأجاب: أنا محمود درويش من البروة. فقال له: أنت مكانك في صحيفة «الاتحاد»، وهكذا بدأ محمود العمل في صحافة الحزب».
الحزب الشيوعي الإسرائيلي في تلك الحقبة كانت لديه مؤسساته الإعلامية كصحيفة «الاتحاد» اليومية، ومجلات مختلفة، من أبرزها «الجديد» و«الغد»… وهذا ما دفع الحزب إلى تجنيد شعراء ومثقفين لم يجدوا منصةً للتعبير سوى من خلال الحزب في تلك الفترة.
وبحسب إحدى الشهادات التي رفض صاحبها أن يفصح عن اسمه، فإن انضمام محمود درويش إلى صفوف الحزب الشيوعي، يقع على كاهل المؤرخ والقيادي الشيوعي البارز إميل توما الذي كان درويش يكنّ له احتراماً كبيراً. يومها، قال توما لدرويش في إحدى جلساته معه: لا يعقل أن تبقى خارج صفوف الحزب، وأنت تكتب في صحافته. وبحسب الشهادة عينها، قال درويش لأشخاص مقرّبين: «أنا لا أستطيع أن أرفض طلباً لإميل توما».
في المقابل، يفتخر سميح القاسم ويقول: «أنا أول صحافي أعمل من دون شرط الانتماء إلى الحزب الشيوعي. في تلك الفترة، كنّا أنا ومحمود أصدقاء للحزب، لكننا كنا مؤيدين للتيار القومي الناصري. لقد كنّا أيضاً قريبين جداً من «حركة الأرض». لكن عندما بدأ الخلاف بين «حركة الأرض» والحزب الشيوعي، ملنا أكثر إلى الحزب».
الشاعر سالم جبران يؤكّد بدوره أنّه ودرويش، كانا متأثرين بالتيار القومي الناصري: «في فترة الثانوية، جمعتني أنا ومحمود صداقة متينة مع أستاذنا مطانس مطانس الذي كان يدرّسنا اللغة العربية. كنا نتردّد على بيته ويختار لنا الكتب، وبينها دواوين الياس أبو شبكة، ويوسف الخال، والجواهري، وعمر أبو ريشة وغيرهم من الذين لم تكن كتبهم متوافرة إلا في مكتبات المثقفين الانتدابيين. وكان أستاذنا يدير معنا نقاشات عميقة ويقول دائماً: فلسطين راحت، لكن فلسطين في وعيكم واللغة العربية في وعيكم. وإذا حافظتم على وعيكم، فلا شيء يضيع».
ويمضي جبران: «تأثّرنا باللغة والأدب والشعر العربي، وملاحظات أستاذنا حول الوعي وحبّ اللغة العربية والتاريخ والرموز، إضافة إلى قراءاتنا… كل هذا شدّنا بلا محالة إلى التيار القومي. في الليلة التي كان يخطب فيها عبد الناصر، كنّا نستحمّ ونتطيّب كما لو أنّنا نستعدّ لتأدية طقوس مقدّسة… ثم نستمع إليه على الراديو».

الشاعر الذي فضّل الحبّ على النساء

محمود درويش تزوج مرتين، لكنّ الفشل كان دائماً من نصيبه. الأصدقاء القدامى يدافعون عنه. يقول عصام خوري «الشعر لمحمود مشروع حياة. كان يحب حياته الخاصة جداً، لكنّها لم تكن تتناسب مع الحياة الزوجية، لهذا فشلت محاولات الزواج».
سالم جبران، الذي قطن مع درويش فترة طويلة، يكشف أسرار علاقات درويش الغرامية: «كان على علاقة مع خمس أو ست شابات، ونحن في حيفا. لكن كان يصعب عليه أن ينام في غرفة مع أحد. كان يغلق غرفته ويمارس حياته الخاصة مع الشعر. وكان يوقظني مراراً في ساعات الليل ويقول: استيقظ هنالك قصيدة جديدة. ويقرأها لي في الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً».
ويكشف عصام خوري أنّ درويش أقام العديد من العلاقات مع شابات يهوديات، معظمهن يساريات أو منخرطات في الحزب الشيوعي: «لقد كان محمود انتقائياً في كل شيء. في شعره، هو انتقائي، حتى في طعامه وشربه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى النساء. جميع صديقاته كنّ جميلات للغاية. لكن الحديث عن علاقة مع خمس أو ست شابات أمر مبالغ فيه. أعتقد أنّه كان على علاقة مع شابتين أو ثلاث».
وحول السؤال من هي «ريتا»، التي كتب درويش قصيدة عن علاقته معها، وهل كانت هذه العلاقة جدية للغاية، أم هي «ريتا» وهمية تمثّل فلسطين؟ يقول خوري إنّ «ريتا» هي فتاة يهودية، وكان محمود على علاقة معها، وهي ليست حبّه الأزلي ومأساة حياته. ولقد أحبّ نساءً أخريات غيرها في ما بعد».
وبحسب عصام خوري، فإنّ محمود كان يضع حدوداً في علاقته مع أصدقائه بالنسبة إلى حياته الخاصة. ولم يسأله يوماً، على سبيل المثال، لماذا لا يسعى لإنجاب طفل، يقول: «أنا لم أطرح عليه يوماً هذا السؤال كي لا أمسّ خصوصياته. لكن زوجتي كانت تفعل، وكان يجيب مازحاً: سأجلب المرة القادمة معي عروساً جميلة».
ويضيف خوري: «لقد كان إنساناً كريماً وموهوباً ليس فقط في كتابة الشعر، بل في صرف الأموال أيضاً (يضحك). المال لم يكن يوهمه بتاتاً. كان بالنسبة إليه وسيلة للعيش». عدا الشعر، كان درويش يحبّ السهر مع الأصدقاء وقضاء الوقت الممتع. كان يحبّ المطاعم الجيّدة، وجلسات الأنس في المنازل، واحتساء النبيذ و… العرق اللبناني.
غ. ك.

خمسون عاماً بلا لوركا (نصّ لم يصدر في كتاب)
محمود درويش
لم يكن المغني يغني، كان ينبثق من بلور لوركا المكسور. لم يكن أمانيثيو برادا يغني لنا، كان يلم شتات الروح. وكان علينا أن نصرخ لنشفى من حريق الورد: أُلِّي… الله، في مساء مدينة البرتقال الإسباني فالينسيا.

لم يكف خوان غويتسولو عن تأكيد البهجة: إن سوناتات الحب المعتم هذه، هي أحب قصائد لوركا على قلبي.

إسبانيا في كل أرجاء الذاكرة. إسبانيا في تمام إيقاعها المحاذي لموت يقدَّس. ونحن على هامش الهامش. لا ندخل ولا نخرج، نتحرر قليلاً من عقدة الخوف من الطرب. ولكن، من هو هذا المغني الذي يتلاشى، جسدياً، مع الأغنية؟

إنه متخصص في غناء قصائد لوركا… إنه يسبح ضد التيار الجارف الذي يعزل الغناء عن الشعر، كما فعل لوركا وهو يقاوم عزل الشعر عن الغناء.

كان لوركا ينشد. كان لوركا يقول إن الشعر يحتاج إلى ناقل، يحتاج إلى كائن حي، سواء كان هذا الناقل مغنياً أو منشداً. وكان لوركا يمتحن حاسة الذوق، ويمتحن القصيدة ذاتها بالإلقاء. كان يبحث عن العلاقة المباشرة بين الصوت والقلب. فالشعر ليس فناً بصرياً. لا بد من إذن. لا بد من جرْس.

ساعة واحدة. ساعة واحدة فقط كانت كافية لأن تنقلنا مما نحن فيه، من زماننا ومكاننا إلى… ما لا ندري، بشفافية الشعر، وفضة الصوت، وأمهات البرتقال الإسباني. لماذا نُصاب بهذا الفرح، وبهذا الشجن، لماذا ننتفض؟ هل نسينا أن هذه الرهافة، وهذا الغياب، هما وطن الشعر، الذي لا وطن له؟ وهل نسينا هذا الزواج الأبدي السعيد بين الشعر والموسيقى، لتعيد لنا تلك الساعة مشهد الروح وهي تحوّل البصري إلى صوت، وتطلع من الصوت رائحة الخريف؟

نسمة ملح تنقش أسماءنا على الرخام. إيقاعات زهر تنثر في الدم دبابيس الرغبة. بعيد يبتعد. ويد تحضن الكلام نوافير من ضوء ينسكب من بين غصون. إسبانيا، لوركا، خوف من قمر يرى ويفضح. لا نفهم هذه اللغة، ولكننا نحس ونؤلف كلاماً لمشهد يُطل علينا منّا. لذلك، ندرك الشعر الذي تقوله، لأنه أشكال داخلنا، ولأننا نعرف ما حدث في تلك الليلة، التي نحاول طردها عنّا، كما نطرد ذبابة بمروحة، على رغم أن سلفادور دالي واصل تناول السردين بشهية حين قالوا له إنهم قتلوا لوركا. هناك دالي، وهنا بابلو بيكاسو، الذي احتاج عشرين سنة أخرى ليرسم الحمام.

خمسون سنة على غياب لوركا. خمسون سنة على غياب وعد الجمهورية. ماذا نفعل بلا لوركا، ماذا نفعل بلا جمهورية؟

المغني يبوح بحساسية أخرى، باعتراف مظلم هو جزء من حرية. ولكن كنائس الكلام كانت تنتشر فينا كغابة صنوبر متباعدة الأشجار. إذ ليس لوركا فينا، سرّه الشخصي، بقدر ما هو فضيحة الإبداع المعدية… ولا أستطيع التحرر من الإحساس بأنهم يقتلون لوركا الآن. هنا، أمامي. لقد فتحت لي الأغنية باب خوفي الأوّل من القمر، الذي كان يكبّر الأشباح، وأعادتني إلى درسي الأوّل، الحاد الغامض، في قابلية الألفاظ الحسية على نشر مشاهد بصرية. هو… هو الذي أخذني إلى هذه الظلال، إلى هذا المزيج الناري، وإلى تسليط القلب على «الطبيعة الميتة» كما يقول الرسامون، وعلى إغراء العقل في التسلل العلني إلى القصيدة. هو الذي علمني شد الوتر من الحجر، والسير في غابات الزيتون. هو الذي دلني إلى طريق الخيل والمطر فوق منحدرات الجيتار. وهو الذي علمني الرحيل إلى قرطبة…

خمسون سنة على غيابه. ماذا فعلنا في غيابه؟ لقد توقف الجسد الإسباني، ذو السلالة العربية، عن التساؤل الخبيث: هل الأسطورة هي التي خلقت الشاعر، أم الشاعر هو الذي خلق الأسطورة؟ يريدون، لكي لا يحجبهم ضوؤه، أن يستبدلوا مجال الشاعرية بساحة إعدام. الشفقة لا الحب. ويريدون أن يقايضوا جداول حبنا القادمة من ينبوع شعر نادر برصاصة تثير التعاطف الشهير. لقد توقف هذا الجسد الإسباني، منذ عجزت الحواس عن العمل بلا أصوات لوركا الملونة، ومنذ عجز الديكتاتور القابع في القصر، وصغار الضباط المندسين في الشعر، عن الحيلولة دون انبثاق أغنية لوركا من كل أعضاء الجسد، ومن كل مجالات الروح التي تمتد إلى قدمي الراقصة الإسبانية الطامحة إلى الإقلاع عن جاذبية الأرض، ومنذ عجزوا عن اقتلاع أشجار الزيتون من أي حلق أندلسي، ومنذ عجزوا عن تحويل الغجري إلى موظف.

لوركا! من يستطيع وقف الرعشة إزاء هذا الاسم المكهرب؟

المغني يتسلل على حبل الظل. يرسم أغنية لوركا الهشّة. يتلوى، يصلّي، يزني، يعود على حافة الوتر الذي يجرح الهواء. ونحن نصفق لما تبقى فينا من قدرة على الافتتان: أولِّي… أُلِّي… الله. هل نسينا طابع الشعر هذا، هذا الطابع؟ وهل في وسع الشعر أن يجدد إنتاج حياته بغير هذا الحلق… وبغير هذه الأذن… وبغير هذا الاتصال؟ ليس مقياس الشاعرية أن يُقرأ الشعر – منْ وضع هذا المقياس؟ – بل أن يُسمع، أن يُغنى، وأن يُعاد إنتاجه على مستوى علاقة – منْ رفض هذا المقياس؟

خواطر. فرح. من سمَّى هذا الطرب عيباً؟ سؤال يُحال إلى عملية التدمير الذاتي التي يُمارسها الشعراء بتطهير شعرهم من العاطفة، وباستبدال غموض الأحاسيس المعلقة على أشجار الليل بوضوح الرياضيات، الذي لا يُفهم. أهذا ما يريده الذين ضاقوا ذرعاً، أو جهلاً بالموسيقى فحاولوا استحضارها من الكيمياء؟

غنِّ أكثر، أيها الكائن الحيّ، غنِّ أكثر يا ناقل الأغنية إلينا، نحن الجمهور. الموسيقى تعلن انتسابها العضوي، ولا تشرح. الموسيقى تنبثق ولا تصاحب. الموسيقى أحد أرواح الشعر، ما أُعلن منها، وما بُطِّن. غنِّ أكثر، ولكن لا تذكر كلمة «لونا». لا تذكر القمر. الليلة قتلوا لوركا…

وهكذا قدّم القاتل شهادته في رواية فيلالونغا: «ذهبتُ في طلب لوركا، في منتصف ليلة التاسع عشر من آب (أغسطس). انهض… هذا هو الموعد. قال: متى شئت أنا جاهز. نظرت إلى ساعتي: على مهلك. معنا وقت. قال لوركا: أحب ألا يحدث ذلك في المقبرة، فالمقابر ليست ليموت الناس فيها. إنها، فقط، للصمت والأزهار والغيوم. ولا أحب الموت على مرأى من القمر.

«… وحين وصلنا ساده فرح غامر فهمت معناه: لا يوجد قمر. توقفت السيارة. نزل منها رجال الفصيل السبعة. كما ترجّل قس طرّز على ثوبه الكهنوتي قلب يسوع المقدس. وضعت إصبعاً على كتف الشاعر، وقلت له: تقدّم… وأنا أدله على الطريق. سار راكضاً في الطريق المحاذي لمجرى ساقية جاف. وبعد دقائق عدة من المشي توقف. ظهرت أمامه في الأفق لاسييرا، وقد غطاها ضباب الليل الأزرق، وقربها وراء غابة الحور السوداء، قرية الشاعر ومسقط رأسه. سمعته يتمتم مرتين: لماذا يا ربي… لماذا؟ كان أحد رجال الفصيل يمشي إلى جانبي، ومسدسه في يده. أدخل فوهته في صُلب الشاعر، وانتهره بجلافة: إمشِ، وإلا بقرت بطنك. استأنف لوركا سيره متعثراً بالـحجـارة، وسـقط ثلاث مرّات على ركبتيه.

وفجأة توقف وسألني: قل لي الحقيقة… هل هذا مؤلم كثيراً؟

«… فجأة ندّت صرخة… صرخة لا يبدو أنها خرجت من حنجرة إنسان. توقف لوركا عند حافة الجرف… أخدود عريض حفر في بطن الأرض، كاشفاً عن جذور الأشجار العميقة… عشرات القبور أخذت شكل الأجسام المواراة تحت التراب الرمادي الناعم… وهناك على مرأى من أبصارنا، منظر فاحش فظيع: ساق امرأة عارية ظلت خارج القبر، فوق التراب المحرّك منذ وقت قريب. أجهش لوركا بالبكاء…

«… تقدّم الكاهن، وفي يده صليب. قال للشاعر:

اعترف؟

تساءل: بماذا أعترف؟

قال الكاهن: بما تريد…

مد لوركا يده وأبعد الكاهن. عبّأ رجال الفصيل سلاحهم. قلت له: اركض! نظر إليّ، وهو لا يفهم قصدي، وأنا أؤكد: أقول لك اركض. قال: بأي اتجاه؟ قلت: على خط مستقيم… إلى أمام!

ركض عشرين متراً تقريباً في شكل يثير الشفقة، وتوقف. اركض، أيضاً. استأنف الركض، ويداه تهتزان، ورأسه يتداعى كأنه تمثال لا حياة فيه. وأصدرت أمري: نار.

ولما اقتربت منه رأيت وجهه معفراً بالدم والتراب الأحمر. كانت عيناه جاحظتين. قال بصوت خافت: أنا ما زلتُ حيّاً. حشوت مسدسي، وصوّبته إلى الصدغ. انطلقت رصاصة، ونفذت من البطن. ودفناه عند جذع شجرة زيتون».

غنِّ أكثر، أيها الكائن الحي، لنصدق أن على مثل هذه الأرض المجبولة بالجريمة، شيئاً ما يستحق الحياة. إنهم يذبحون الشاعر كالأرنب. وحين يعجزون عن ذبح الأغنية، يحيلون هذه المهمة إلى شعراء آخرين، يحيلونها بدورهم إلى نقاد آخرين. وحين ينتابنا الخوف من قمر أو خنجر، نتحسس قلوبنا.

وبقدر ما نجد لوركا نواصل البحث عن الروح في الغناء، والبحث عن الغناء في الروح.

خمسون عاماً بلا فيدريكو غارسيا لوركا…

شعراء أكثر، وشعر أقل.

دأب محمود درويش على كتابة مقال اسبوعي في مجلة «اليوم السابع» الصادرة في باريس، بدءاً من العام 1986 حتى توقفها. ويعمل حالياً الناقد الفلسطيني حسن خضر على جمع هذه المقالات بغية اصدارها في كتاب خاص. هذا المقال الذي يستعيد الذكرى الخمسين لرحيل الشاعر الاسباني لوركا نشر في المجلة في 23/6/1986.

ذاهبون الى القصيدة (الى بابلو نيرودا)
محمود درويش
في العام 1975، بعد نحو ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب في لبنان، صدر العدد السادس والأربعون من مجلة «شؤون فلسطينية» (حزيران/ يونيو) حاملاً قصيدة للشاعر محمود درويش عـنوانها «ذاهبون الى القصيدة – الى بابلو نيرودا». لكن ظروف الحرب حالت دون انتشار العدد من المجلة التي كان درويش يرأس تحريرها، ما جعل القصيدة تبقى مجهولة أو شبه مجهولة، على رغم أهمّيتها، ونبرتها الغنائية الجديدة التي ستتجلّى من ثمّ في أعمال الشاعر اللاحقة. كان درويش أصدر آخر دواوينه حينذاك «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» وكان يتهيّأ لنشر ديوانه الجديد «أعراس». وعندما صدر «أعراس» لم تكن هذه القصيدة ذات الطابع المختلف في عداد قصائـده. ثم تـوالت دواويـن درويـش ولـم يحـمـل أيٌّ منـها هذه القصيدة. لم ينس محمود قصيدته هذه ولم يتناسَها، لكنه لم يجد لها موقعاً في دواوينه التي تعاقبت حاملة سماتها الخاصة، فظلت القصيدة مجهولة أو شبه مجهولة، مع أن الشاعر كان يحبها ويكنّ لها عاطفة وذكرى، وكان يردّد مقاطع منها أمام أصدقائه في الجلسات الحميمة. وكان دوماً يقول أن لا بد لها من أن تجد مكاناً لها في ديوان. وغاب محمود درويش ولم تصدر القصيدة في ديوان، فظلّت أسيرة ذلك العدد من «شؤون فلسطينية».

ولعل فرادة هذه القصيدة تكمن في انتمائها الى بدايات المرحلة الجديدة التي كان يخوضها الشاعر مشرعاً نوافذ الشعر على آفاق متعدّدة، هي آفاق الذات الإنسانية والغنائية العالية واللغة المحدثة.

يتسلّقُ الجيتارَ:

ستُّ سنابل تأتي من الأسرارِ.

تنهمرُ الجهاتُ عليه – منه. وهكذا تأتي الخلاصةُ:

إنّ خمس أنامل تحمي المحيطَ من الجفاف.

ويغضبُ الجيتارُ:

ستُّ زوابعٍ تأتي من الصمتِ المهدِّدِ.

هكذا تأتي الخلاصة: إنّ خمس أصابع

تحمي الصباح من التردّدِ.

إنّ نيرودا

يُغنّي

بين الفراشة واللهيب يسافرُ الشعراءُ

بين السيف والدم فوق حدّ السيف ينتظرون وردتهم

يُحبّون القصيدة حيث تفلت من هواجسهم وينتحرون في أوجِ القصيدةْ

الموتُ يسكنهم ولا يدرون… ينفجرون مثل شقائق النعمان في يومٍ

ربيعيّ قصيرْ.

بين القصيدة والقصيدة يطردون البحرَ…

ينتقمون من زَبَدٍ يفرّ من الأصابعِ

يذهبون إلى الشوارع عاجزين ومُتعبين

كأيّ بوليس يفتّشُ عن علاقات مُحرّمة ليكتبَ أيّ

شيء ضدّ أي شيء…

يكذبون على النساء…

يزوّرون الحبرَ والقبلاتِ…

عاديّون عاديّون ما بين القصيدة والقصيدة يسأمون الشّعر والفجر

المبكّر و… الوطن.

… وكما يموت النّسرُ ينطلقونَ

نيرودا!

جَمَعْتَ لنا الندى من كلّ زنبقة وجمجمةٍ

شربتَ هدير هذا البحر نخبَ يدٍ تقاومُ في حقول الموزِ –

والأصدافُ بين يديكَ –

كان الشرقُ يغسل وجههُ في لهجةٍ صينيّةٍ

والحربُ تجعل كلّ شيء واضحاً كالخبزِ

هل يتمهّلُ الزلزال أمسيةً لنخرجَ من قواميس اللغات إلى

ضواحي الصوت؟

فلّاحوكَ

صيّادوكَ

جلّادوكَ

يحتشدون فوق أصابع الجيتار…

أحصنةٌ تدور مع الرياح السودِ

إمرأةٌ تهاجمها بأغنيةٍ، وتسقطُ في البنفسجِ

تستطيعُ وتستطيعُ وتستطيعْ.

دمُنا على المحراثِ

نيرودا! تُغنّي أمْ تروّض غابةً

تمشي على الإيقاع أم يتجوّل البركانُ فيكَ

وحارسُ البستان يختزن الأفاعي خلفَ صوتكَ.

إنّ جمهوريةً أخرى تُعيد قصيدة أخرى إلى أفراحها…

لكن شطآن القصيدة لا تُدجّنها البحيرةُ –

كان فيدريكو يموت على «سياجٍ يحجبُ القمر» الحبيبُ يموتُ.

أجراسٌ تدقّ وتختفي في القلبِ…

كان الموتُ يجعلُ كلّ شيء واضحاً كالعشبِ

هل يتمهّل الزلزال أمسيةً لنجمع عن خناجرهم دمَ الأطفال

والشعراءِ؟

كان الليل أوضحَ من خطى الشهداءِ

لكنّ المياه تسيلُ من وَتَرٍ يقاومُ صخرةً صمّاء…

نيرودا! سننتصرُ

القيود لنا – سننتصرُ

النشيدُ لنا – سننتصرُ

الضروعُ مليئةٌ بالبرقِ – ننتصرُ

الضلوع منازلٌ للعشق – ننتصرُ

الجيادُ السودُ تهبط من مكانٍ ما – سننتصرُ

النهايةُ تنتهي

هذا هو الجيتارُ أرضٌ في تمامِ الصوت تزخر بالوضوح من الوريد

إلى الوريد…

وها همُ الشعراءُ في أوجِ القصيدةِ ذاهبون إلى القصيدةِ في

شباكِ الصيّدِ

يولدُ فوجُ ضبّاط جديدٌ. سورةُ الموتى تزيدُ. وعاملُ التعدين

يدخل عامه السبعين. والشعراء يختارون هاجسهمْ

وينتحرونَ خلف البرلمانِ…

منذ البدايةِ: إنّ هذا المسرحَ الخالي من الجمهور والجدران

ينتظر البشارةَ في الأغاني.

ها نحنُ نتّفقُ: الغزالةُ لا تحبّ الشعرَ

والشعراء حقلٌ أزرقٌ لم يُفتَرعْ إلا بأقدام الغزالةْ.

ها نحن نختلفُ: الجبالُ بعيدةٌ…

نتسلّقُ الجيتارَ. ستّ زنابقٍ تأتي من الفحم. الجهاتُ تعودُ

من ساحات غربتها وتأوي للنوافذِ. إنّ خمس أصابع تحمي الفضاء

من البقاء على سطوح البرلمانِ.

وإنّ

نيرودا

يغنّي.

ها نحن نختلفُ – اتفقنا

ها نحن نتّفقُ – اختلفنا.

للجبالِ يدٌ هي المطرُ. القصيدة ملء هذا المسرح الخالي من

الجدرانِ

للأرضِ ارتعاشاتٌ هي الدمُ. حين ينهمرُ الرصاص عليكَ – منك

ومن لصوص الليلِ تصرخُ في وضوحْ

إنّ الجروح هي الجروحْ.

لكنّ هذا البحر أزرقْ

لكنّ هذا الحقل أخضرْ

ودم المغنّي أبيضٌ فوق الشوارعِ والأصابعِ.

عاملُ التعدين يدخل عامه السبعين…

يقرأ أبجديّة قلبه المشويّ فوق الفحم فحماً…

والرغيفُ غزالةٌ تعدو وتعدو في القيودِ..

وفوج ضبّاط جديدٌ يُتقن السهر الطويلَ على حدود الخبزِ…

قد مرّوا «جماجم من رصاص» مرةً أخرى… ونيرودا يموتُ.

«خيولهم سوداء». نيرودا يموتُ على قصيدته… فتذهب في الفضاء…

وعاملُ التعدين يقرأ صفحةً أخرى ويسقط في البنفسجِ

يغضبُ الجيتارُ

ستُّ زاوبعٍ

تأتي من الصمت المهدِّدِ

إن خمس أصابعٍ

تحمي

الصباحَ

من

التردّدِ.

كان نيرودا يغنّي

ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ بين أيدينا.

دمُ الشعراء محراثٌ

ويحتفلُ الترابْ.

ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ بين أيدينا.

لأجلك يرجعُ البطّ المخيِّمُ في جنوب البحرِ

نيرودا! لأجلكَ نكتفي بالعمر أغنيةً وكأساً من سحاب.

مدنٌ تنام على السلالم في انتظاركَ. آه نيرودا. شواطئ هذه

الأرض الصغيرة – عبر صوتك – قبلةٌ مفتوحةٌ للنورس الباكي وللبجع

الذي يتعلّم الرقص المميتَ

لكَ القرنفلُ. شهرُ أيارَ. البديلُ الاشتراكيُّ. المدارسُ. أبجديّةُ

عامل الميناء. تمثال الصدى والعطرِ. أوّل خطوة بعد الزنازين.

الأغاني في حوانيت الفواكهِ

آه نيرودا! حدودُ الأرض في ليمون صوتكَ ملعبُ الكرةِ،

المظاهرةُ، احتفالُ الذاهبين إلى الجحيم. لك اعترافاتُ النساء العاشقاتِ.

لك النشيدُ الأزرقُ… الحريةُ الزرقاءُ… أبعدُ قريةٍ في الأرض

لكنْ / بعد موتك

عبر موتك

قرب موتكَ

كلُّ فجرٍ كان ينتظرُ انطفاءك كي يضيءْ

وكلُّ صوت كان ينتظر اختفاءك كي يجيءْ.

ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ لا تحبّ الشعرَ في الزمن الرديءْ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى