حريق مبنى وزارة السياحة… آخر فصولها: دمشق الحرائق: صراع الذاكرة مع نيران الشر والصدفة
محمد منصور
(دمشق الحرائق)… عنوان مجموعة قصصية شهيرة للأديب السوري الكبير زكريا تامر.
وهو عنوان يصلح أيضاً للحديث عن ذاكرة دمشق العمرانية التي تتعرض للاحتراق، والتي تطارد الحرائق مبانيها التاريخية بين الحين والآخر.
آخر الشواهد على ذلك، كان حريق مبنى وزارة السياحة الملاصق للتكية السليمانية على ضفاف بردى… فما قصة هذا المبنى… وما هي القيمة الأثرية التي يتمتع بها… وما قصة دمشق مع النار التي تتهدد ذاكرتها في بعض الأحياء القديمة التي تعج بالمصانع والورش الدخيلة، أو في حريق مبنى كلية الحقوق قبل سنوات قليلة؟!
هنا إطلالة على ذاكرة الحرائق في دمشق المتحف المفتوح على التاريخ… وعودة لاستعراض أشهر الحرائق في تاريخ المدينة منذ العهد العثماني وحتى اليوم؟ّ!
حريق وزارة السياحة: التذكار العثماني الأخير!
فوجئ الدمشقيون يوم الجمعة في الثالث من شهر تموز (يوليو) الجاري، بحريق ضخم اندلع في مبنى وزارة السياحة الكائن في منطقة فيكتوريا في وسط دمشق التجاري، التهم الطابق الثاني كاملا من المبنى… وأتى على مكتب الوزير ومكاتب معاونيه وقاعة الاجتماعات.
وزير السياحة الدكتور سعد الله آغا القلعة أوضح سبب الحريق: ‘الحريق ناجم عن أعمال الترميم وكان هناك عناصر شرطة سياحية، حيث أنّ المبنى مجهز بالحراسة الدائمة، وحسب المعطيات الأولية نجم الحريق عن شرارة كهربائية نتيجة أعمال الصيانة للقسم المعدني في السقف وامتدت إلى القسم الخشبي سريع الاشتعال… والمهم بالدرجة الأولى عدم وجود إصابة بشرية، حيث اقتصرت الخسائر على الماديات’. وبعد قرابة شهر من وقوع الحريق بدا المبنى وقد فقد سقفه القرميدي المميز بالكامل، وظهرت آثار الحريق على القسم الحجري وتهشم زجاج النوافذ.
وربما لم يكن ليثر هذا الحريق المهتمين بتراث مدينة دمشق وذاكرتها لولا أن للمبنى قيمة تاريخية وأثرية هامة. فالبناء يقترب اليوم من إتمام القرن الأول من عمره… وقد بني عام 1911، وكان آخر ما شيده العثمانيون في دمشق إبان حكمهم الطويل لها، وكان ملحقاً بالتكية السليمانية لتنظيم شؤون طلابها ومعلميها، وقد اتخذ هذا المبنى مقراً لمعهد الحقوق الذي افتتح في الثاني عشر من تشرين الثاني عام 1919 في العهد الفيصلي (عهد حكم فيصل بن الحسين لسورية إثر خروج العثمانيين بين عام 1918- 1920 وقبيل دخول الفرنسيين)
وفي هذا المبنى الذي شكل مع المعهد الطبي نواة الجامعة السورية في مطلع القرن العشرين… مرت أسماء رجالات سورية الكبار فقد ترأس المعهد حينها عبد القادر المؤيد العظم، وخطب فيه: عبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري.. وعيسى اسكندر المعلوف وقد أرسل الملك فيصل مندوباً عنه لحضور الدرس الأول في المعهد.
ولم يكن معهد الحقوق محصوراً بالسوريين فقط، فقد تخرج من دفعته الأولى خمسة سوريين: (سعيد الغزي- نعمان- عبد الكريم الحسامي- مصطفى جميل الخضر- وجيه إسطواني- وثلاثة فلسطينيين هم: (حسن الخماش- عبد الرحمن النحوي- فخر الدين الحسيني) ولبناني واحد هو (زخريا أسعد زخريا) وقد استقبل المعهد أول طالبة فتاة هي (ملك كبارة) الدمشقية التي انتسبت إليه عام 1929.
وفي أثناء وجود معهد الحقوق في هذا المبنى، اتخذ قسم منه لإعطاء دروس التشريح، لطلاب المعهد الطبي… وقد شغلت وزارة التربية هذا المبنى لسنوات، قبل أن يصبح مقراً لوزارة السياحة!
حريق كلية الحقوق: ذاكرة الجامعة السورية!
حريق مبنى وزارة السياحة الأثري.. يعيد إلى الأذهان الحريق الذي شب في مبنى كلية الحقوق بدمشق في الرابع عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2004، والطريف في الأمر أن تصريحات المسؤولين حول سبب الحريق تطابقت بالحرف تقريباً مع تبرير حريق مبنى وزارة السياحة الأخير، حيث قال وزير الإدارة المحلية السوري هلال الأطرش لـ’الشرق الأوسط’ بتاريخ (15/9/2004) أن (الحريق شب أثناء تنفيذ عملية ترميم في سقف الطابق العلوي من كلية الحقوق جراء ماس كهربائي). كما أبلغ وزير التعليم العالي السوري هاني مرتضى ‘الشرق الأوسط’ أن فرق الإطفاء سيطرت على مركز الحريق وحددت جهة انتشار النيران، مؤكداً عدم وجود أية إصابات في الأرواح وأن الخسائر اقتصرت على الماديات وحصراً في الزاوية الشمالية الشرقية من مبنى الكلية).
ومبنى كلية الحقوق ليس مكاناً تعليمياً فقط، بل هو مرتبط أيضاً بتاريخ دمشق وتراثها المعماري… وهو يعود إلى العهد العثماني… حيث كان يعرف بـ (القشلة الحميدية) والقشلة كلمة محرفة عن التركية تعني (قِشلاق) ومعناها مأوى الجند. ويذكر أحمد الإيبش ود. قتيبة الشهابي في كتابهما (معالم دمشق التاريخية) أن القشلة الحميدية أقيمت أيام السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، الذي أمر ببنائها لتكون جامعة في الأصل، إلا أن الظروف حالت دون ذلك، فصارت تستعمل ثكنة عسكرية يقيم بها جنود الجيش الرابع العثماني المتمركز في دمشق إبان الحرب العالمية الأولى، وقد استعملت في بنائها أعداد كبيرة من حجارة قلعة دمشق. وقد أقيم إبان الولاية الأولى لحسين ناظم باشا والي الشام (1895- 1907) إلا أن الباحث عبد القادر الريحاوي يذكر أنها عمرت عام 1873. وعند دخول الفرنسيين لسورية عام 1920 اتخذ هذا البناء مقراً لحامية دمشق من قوات المغاربة (المغربية) التابعة لجيش الشرق الفرنسي… واستمر هذا الحال حتى الجلاء، فنقلت إليها عام 1946 معاهد الجامعة السورية، ثم استقرت فيها كليات الحقوق والشريعة والعلوم…
ومبنى كلية الحقوق الذي يشغل القسم الأساسي من هذا المبنى التاريخي، يعرفه المشاهد العربي والسوري بالطبع، فهو المبنى الذي اعتاد صناع المسلسلات التلفزيونية أن يصوروا فيه المشاهد التي تدور في رحاب الجامعة السورية في معظم المسلسلات التي تتناول تاريخ سورية المعاصر.. لأنه من الأمكنة القليلة التي تختصر ذاكرة الجامعة السورية تاريخياً وبصرياً.
حرائق المصانع الداخلية في دمشق القديمة!
وبعيداً عن هذه المباني التاريخية، تصارع بيوت دمشق القديمة الحرائق والرغبة العارمة في التغيير أيضاً… وخلال السنوات الأخيرة اندلعت الكثير من الحرائق في بيوت دمشقية تحولها بعضها إلى مخازن تجارية أو مصانع تريكو ومطاط أو منسوجات أو سوى ذلك… والسبب في هذا قربها من الأسواق التقليدية القديمة التي تباع محلاتها بالملايين.. فكان الحل هو اللجوء إلى بيوت مهجورة أو أخرى يتنازع عليها الورثة، أو ثالثة مات عشاقها وهجرها الأبناء والأحفاد.. واستثمارها تجارياً بمبالغ تفوق تلك التي يمكن أن يحققها العائد السكني.
وهكذا بين الحين والآخر… وبسبب سوء الخدمات التي تقدمها محافظة دمشق، وإهمال لجنة حماية التراث، أو قلة الإجراءات الاحتياطية التي تتخذها الجهات المعنية بالسلامة العامة، يتسبب ماس كهربائي أو أي عطل فني آخر في اندلاع حرائق تلتهم بيوت دمشق القديمة، وتمحو من الذاكرة شيئاً فشيئاً تراثاً معمارياً فريداً… يبدو أن دمشق كانت مستعدة كي تقارع النار من أجله على الدوام!
حريق الجامع الأموي: حدث روّع الدمشقيين!
والواقع فإن تاريخ دمشق مع الحرائق ليس وليد السنوات الأخيرة بالطبع، فالتاريخ يذكر الكثير من الوقائع المؤثرة في هذا السياق، ولعل أكثر الحرائق ترويعاً للدمشقيين هو حريق الجامع الأموي الشهير عام 1893، والذي كان سبباً في إنشاء مصلحة (الإطفاء) لأول مرة في المدينة، وقد نقل الشيخ علي الطنطاوي صورة عنه في كتابه عن (الجامع الأموي) فقال يصف المشهد نقلا عن شهود عيان كان قد عاصرهم:
(ترك التجار مخازنهم مفتوحة ووثبوا ينظرون، وصعدت النساء على السطوح، وتراكض الناس من كل جهة، وإذا الدخان ينبعث من سقف الجامع، – ولم يكن في دمشق مصلحة إطفاء قد أنشئت على إثر الحادث- وحار الناس ما يصنعون، فتسابقوا إلى سجاد المسجد ومصاحفه يُخرجون ما يصلون إليه منها، وعمد بعضهم إلى الماء يصبونه، وإلى المعاول علهم يحصرون النار، ولكن النار كانت أسرع منهم، إذ كان خشب السقف قديماً جافاً، وعليه من الأصبغة والدهان طبقات، فما شم رائحة النار حتى صار السقف كله شعلة واحدة، وجعلت قطع النيران تتساقط في كل مكان، فالتهب المسجد كله، ولم يعد أحد يستطيع أن يقترب منه، فوقفوا ينظرون وكأن النار التي تأكل مسجدهم تأكل قلوبهم)
لكن الدمشقيين سرعان ما تحدوا الخراب الذي أحدثته النيران في إحدى مفاخر مدينتهم الخالدة، ويرسم الطنطاوي صورة مؤثرة وحية لمجتمع دمشق وهو يهب لحماية تاريخ وتراث مدينته بدءاً من الطريقة التي تناوبوا فيها على تنظيف المسجد من أنقاض الحريق المتراكمة: (كان يشتغل أهل كل محلة يوماً، يجيئون جميعاً كهولهم وشبابهم أغنياؤهم وفقراؤهم، يعملون بأيديهم إيماناً واحتساباً، ينقلون التراب والحجارة، ويتسابق الأغنياء إلى إطعامهم فيتكفل أغنياء الحي بإعداد الطعام للعاملين فيتغدون في المسجد، فكان ذلك مظهراً رائعاً للأخوة والبذل، وغدا الناس كأنهم أسرة واحدة، يعملون جميعاً في بيت الله… وينزلون ضيوفاً عليه، حت إذا نظف المسجد من الأنقاض، ألفت في كل حي لجنة لجمع المال لعمارة المسجد، وهبّت دمشق إحدى هباتها المؤمنة العجيبة، وتزاحم الناس على البذل، فمنهم من خرج عن ماله كله، ومنهم من أعطى نصف ماله، وكلُّ ساعد بعقله وفنه وصناعته، والفقير عمل مجاناً بيده)
حي الحريقة… وحريق البرلمان!
وفي تاريخ دمشق أيضاً أكثر من حدث حريق مؤثر ارتبط بفترة الاحتلال الفرنسي لسورية، لعل أكثرها إيلاماً وحضوراً في الذاكرة حريق حي سيدي عامود الذي كان قائماً بين سوق الحميدية وسوق مدحت باشا، وكان واحداً من أفخم أحياء المدينة، وفيه الكثير من الدور الدمشقية العريقة الغنية بالزخارف والنقوش… وقد أصيب هذا الحي بنكبة مفجعة عندما فتحت نيران المدفعية الفرنسية المنصوبة على جبال المزة، نيرانها باتجاهه يوم الثامن عشر من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1925، فاندلعت النيران وانتشرت في أحيائه بالكامل، وبقي الحي يشتعل أياماً عدة، فلم ينجُ منه سوى (البيمارستان النوري) وقد نسي الدمشقيون فيما بعد اسم الحي الأصلي، وسموه حي (الحريقة) لأنه بقي شاهداً على أسوأ حريق تعرضت له المدينة… وقد بقي الحي لسنوات مجرد خرائب وأطلال، قبل أن يتحول إلى مركز تجاري خال من البيوت السكنية… ومنطقة تمثل الثقل التقليدي لتجار الشام ولعراقة دمشق التجارية.
وبعيد عشرين عاماً من جريمة القوات الفرنسية بقصف دمشق وإحراق أحد أعرق أحيائها السكنية عن بكرة أبيه، قامت القوات الفرنسية بجريمة أخرى حين هاجمت يوم 29 أيار (مايو) عام 1945 مبنى البرلمان، وقامت بقصفه وإحراقه، كما اعتدت على حامية الدرك السوري التي كانت تحرس المبنى وتدافع عنه، والتي استشهد عدد كبير من رجالها، بعد أن مثل مرتزقة الجيش الفرنسي بجثثهم مثلما مثلوا بالمبنى من قبل.
لكن حريق البرلمان لم يكن ناراً تنطلق في سماء دمشق وحسب… فسرعان ما اضطرمت نيرانه في الصدور، وأثارت نقمة عارمة لعبت الدور الكبير في جلاء الفرنسيين واستقلال سورية.
وهكذا كان صراع دمشق مع الحرائق، هو صراع النار مع ذاكرة التاريخ… صراع الأثر الخالد مع تقلبات الزمن، أو اعتداء المحتل… أو حتى إهمال سادة الحاضر لتراث وأوابد الماضي… إهمال قد يتخذ صفة الصدفة حيناً، وقد يكون ملتبساً بغيرها حيناً آخر!
القدس العربي