صعود وهبوط الفضائيات السورية الخاصة: تخضع لابتزاز الدولة ورأس المال
أنور بدر
دمشق ـ ‘القدس العربي’ ما زالت الأوساط الإعلامية السورية تتناقل خبر طرد خمسة من الإعلاميين العاملين في تلفزيون ‘المشرق’، وكان سبق ذلك طرد تسعة من الفنيين الذين أسهم بعضهم في تأسيس هذه الفضائية.
بداية دعونا نثمن خطوة الإضراب التضامني الذي قام به بعض معدي ومقدمي البرامج في تلفزيون ‘المشرق’ احتجاجا على قرار الفصل التعسفي السابق، رغم أنها لم تكن أكثر من خطوة خجولة لم تتجاوز حدود الإعلان عنها، ولم تستطع أن تؤثر على عمل المحطة أو قرار إدارتها. كما أننا لم نشاهد أي فعل تضامني من قبل الصحافيين السوريين الآخرين أو من قبل اتحاد الصحافيين الذي يبدو أنه قد تخلى عن دوره المطلبي في حماية الصحافيين والدفاع عن حقوقهم إلى دور سياسي لا يُغني ولا يُفقر.
غير أنّ هذه الخطوة أعادتنا إلى التباسات الإعلام لخاص الذي انتشر في سورية مؤخراً، والذي نستطيع الجزم والتأكيد بأنه أفلح في دفعنا للترحم على زمن الإعلام الرسمي في سويته الفنية وحتى في مهنيته، رغم كثافة العلاقات البيروقراطية التي شابت المشهدين الفني والمهني.
وإذا كانت بعض الصحف، وبشكل خاص الصحافة الاقتصادية، قد نجحت في تقديم صورة معقولة، فإنّ الإعلام المرئي والمسموع كان حظه أسوأ من الإعلام المقروء لخطورة وصول الإعلام الأول إلى الناس بسهولة أكثر من الصحافة المكتوبة.
من هنا كانت إمكانية الحصول على ترخيص إذاعي أو تلفزيوني في سورية أصعب بكثير، وفي حال حصول هكذا تراخيص، نشاهد أنها اشترطت الابتعاد عن الشأنين الإخباري والسياسي، والاكتفاء بالجانب الفني والمنوعات الطربية والدرامية التي تشكل حاملا إعلانيا مهما لصاحب الترخيص، حتى أنك تمل من سماع أغاني فيروز الصباحية في إذاعات ‘FM’ الخاصة لتغلب المساحة الإعلانية فيها على صوت فيروز، أو أي صوت آخر.
أمّا بشأن الفضائيات تحديداً، فهذه مسألة كانت ولا زالت تبدو سيادية، بمعنى ارتباطها بسيادة الدولة والحزب الحاكم، فهل يجوز لفرد أو أفراد تملك حق البث الفضائي ومخاطبة الجمهور؟!! وكيف سيتم التحكم بالرسالة الإعلامية؟ وهل تكفي الرقابة على تلك الرسالة أم نبحث عن وسائل أخرى؟ كل هذه العلامات الاستفهامية جعلت وجود فضائيات خاصة في سورية يتأخر عن جيرانها العرب، وفجأة اكتشفنا أنه تمّ تشكيل إمبراطوريات إعلامية في الخليج أو لبنان وحتى في أنظمة مشابهة لنا نسبياً كمصر، كانت قادرة على التحكم بالأثير العربي، وتسويق الدراما مثلاً، وهي قضية مهمة في سورية، إضافة لأنها قطفت أكبر كمية من المحصول الإعلاني إن صح التعبير، وبات علينا التفكير بآليات ما للّحاق بهذه التجارب. طبعاً كانت التجربة المصرية هي الأقرب إلينا، فلماذا لا نسمح بوجود فضائيات أو بث فضائي مماثل من المنطقة الحرة، وهي منطقة حرة حتى بالمعنى السيادي؟!
بدأت التجربة مع تلفزيون ‘الشام’ الذي أنشئ في حاضنة التلفزيون السوري، وبدأ البث من خيمة في ساحة الأمويين، وعبر عربات وتجهيزات التلفزيون السوري لأغراض سياسية بالدرجة الأولى. لكن اللعبة كانت أكبر من استعارة عربة بث تلفزيوني أو استعارة مجموعة من الإعلاميين والفنيين، باتجاه توحيد الرسالة الإعلامية، حتى غدا تلفزيون ‘الشام’ أحد محطات التلفزيون السوري.
مع ذلك توقف فجأة بث تلفزيون ‘الشام’ وسُرّح عشرات الإعلاميين والفنيين العاملين فيه، وقرأنا لاحقاً عن إلقاء الحجز على أموال السيد ‘أكرم الجندي’ صاحب الترخيص لامتناعه عن تسديد أقساط قرض بمئات الملايين استفاد منه حين انتقل إلى القاهرة ليتابع رحلة البث من المنطقة الحرة هناك، وبذات الاسم التلفزيوني ‘الشام’، وقد دافع ‘الجندي’ أو برر عدم تسديده أقساط القرض جراء منعه من العمل في سورية، فماذا كانت النتيجة:
– خسرت الحكومة السورية ملايين القروض وفوائدها.
– خسرنا عشرات فرص العمل الإعلامي والفني، بل خسر هؤلاء المتعاقدين مع تلفزيون ‘الشام’ رواتب أشهر كانت متأخرة عن الدفع بسبب الخلاف بين صاحب المحطة وبين الحكومة السورية.
– كما خسرنا حصة إعلانية كبيرة وما يوازيها من الضرائب أيضاً.
ومع ابتعاد تلفزيون ‘الشام’ عن الأثير السوري، ظهر تلفزيون ‘الدنيا’ بشكل أكثر تطوراً من تجربة ‘الشام’، حيث استعار مجموعة من إعلاميينا أكفأ في مجال التحرير والإعلام، وظهرت برامج وتغطيات ثقافية واجتماعية متميزة عن التلفزيون السوري، لكنه عجز عن التميّز في حقل البرامج السياسية والإخبارية، وفي مضمون وطبيعة هذه الرسائل.
وبدأت تظهر إشكالات إدارية طالت مدير المحطة ومدراء البرامج وكادر إعلامي مهم، وجدوا أنفسهم فجأة خارج تلك ‘الدنيا’ التي شكلت حلماً وردياً غازلهم لفترة من الزمن، حتى أنهم كانوا موضع حسد الكثير من زملائهم.
تجربة تلفزيون ‘المشرق’ جاءت مغايرة، إذ فشل ‘غسان عبود’ في الحصول على ترخيص من دمشق، فغادر إلى دبي ليبدأ البث التجريبي من المنطقة الحرة في جبل علي، ومن ثم أقلع بمجموعة من البرامج الواعدة، لتبدأ الإشكالات الإدارية تطفو على السطح حتى قبل أن تطفئ هذه المحطة شمعتها الأولى.
لن أتوقف كثيراً مع تجربة تلفزيون ‘الرأي’ وتجربة ‘مشعان الجبوري’ العراقي في السعي للحصول على حصة من الأثير السوري بشروط سيئة إعلامياً وفنياً، كذلك لن نتوقف مع بعض المحطات المعارضة التي ظهرت في أوروبا، لأنها محكومة بشروط عمل مختلفة.
ما يهمنا التأكيد عليه أنّ الإعلام السوري أو القائمين عليه يشعرون بضرورة انتزاع حصتهم من الأثير العربي والتي تتسيّد عليها فضائيات وإمبراطوريات بث فضائي أغلبها بدون هوية، ناهيك عن أصحاب الهويات المختلفة. لكنهم، أي القائمين على الإعلام السوري، لن يستطيعوا التحرر من هيمنة السيادة الرسمية للدولة ولخطابها الإيديولوجي ونسق المؤسسات الشمولية وحتى الكليانية، مع أنها وللمفارقة، خطت أشواطاً لا بأس بها من الخصخصة في مجالات الاقتصاد وحتى التعليم، لكن الإعلام يبدو القلعة الأخيرة التي يصعب عليهم التخلي عنها.
من هنا تبدو صعوبات اقتحام هذه القلعة إلا لقلة من المتمولين والرأسماليين المحدثين غير الإعلاميين، والذين لا ينظرون للفضائيات إلا باعتبارها مشروعاً تجارياً رابحاً، وحتى يكون رابحاً فإنهم معنيون بالحصة الإعلانية، وهذه النقطة كانت واضحة في تبرير محطة ‘المشرق’ لفصل إعلامييها والفنيين العاملين فيها، إذ كان اهتمامها بالبرامج الثقافية على حساب التسويق! وقد آن الأوان للإهتمام بالتسويق الآن، دون أن ندرك التضاد بين الإهتمامين، و دون أن تعتذر هذه المحطة على الأسلوب غير الحضاري لعملية الفصل، خاصة فيما يتعلق بعدم إبلاغ العاملين قرار فصلهم، بل والأخطر من ذلك أن يسمعوا لاحقاً بهذا القرار، وهم يؤدون مهامهم لصالح هذه القناة !!!
هذا يفتح بالضرورة على إشكاليات الإعلام الخاص، والفضائيات الخاصة تحديداً، إذ باستثناء صحيفة ‘بلدنا’ التابعة للمجموعة المتحدة لا توجد عقود عمل واضحة مع الإعلاميين، ولا توجد بنود للتأمين الصحي والاجتماعي للمتعاقدين. والأخطر من هذا وذاك غياب أي جهة نقابية تستطيع أن تدافع عن صفوف العاملين في هذا الإعلام، والذين اكتشف العشرات منهم أنهم فجأة بلا عمل. لذلك نكتشف أنّ الفضائيات السورية الخاصة واقعة ضحية ابتزازين، الأوّل مصدره الدولة التي تقيد حرية الإعلام وتقيّد وجود مؤسسات نقابية تستوعب الكادر الإعلامي الضخم الذي انخرط في لعبة الإعلام الخاص. بينما الابتزاز الثاني مصدره أصحاب الامتيازات والتراخيص الذين دخلوا هذا الحقل الملغم إمّا بقوة القرب من السلطة، وأصحاب القرار، أو بقوة النفوذ المادي. لكن أغلبهم لم ولن يكون صاحب مشروع إعلامي أو ثقافي حقيقي، ولا يتمتع بأقل تقدير باخلاقيات العمل الإعلامي. طالما أنّ الهدف هو مجرّد الحصول على حصة إعلانية. لذلك تراهم يتعاملون بأسوأ أخلاقيات السوق التجاري، وهم على استعداد لتحويلها إلى مجرّد إذاعة منوعات مرئية، طالما تضمّن هذه الإذاعة حصتهم الإعلانية، فلماذا اللهاث وراء برامج ثقافية وإعداد وإعلاميين أكفاء؟!
القدس العربي