عن التخلف والظلم السياسي في الجزيرة السورية
محمد حاج صالح
المقصود بالمنطقة الشرقية “الجزيرة” هو المحافظات السورية الثلاث الرقة ودير الزور والحسكة.
بعض الأرقام:
تمثل مساحة المنطقة الشرقية 41% من الجمهورية العربية السورية، وتبلغ المساحة المزروعة فيها 42% من إجمالي المساحات المزروعة في سورية، كما تبلغ نسبة المراعي والمروج 42% من إجمالي مساحة المروج والمراعي في البلاد. كما تمثل الموارد المائية للمنطقة 57.6% من إجمالي موارد الجمهورية العربية السورية. ونسبة السكان تشكل 17% من إجمالي السكان.
تسهم المنطقة بقدر كبير من الإنتاج الحيواني، حيث تبلغ نسبة المواشي فيها 36.7% من مواشي البلاد، وإنتاج الصوف34.3%. أما إنتاج الحليب فيمثل 20.5% من إنتاج البلاد.
إنتاج القطن 69% من مجمل الإنتاج الوطني.
إنتاج القمح 70% من إجمالي الانتاج الوطني.
إنتاج الشوندر السكري 33% من الانتاج الوطني.
أمّا البترول فكله يُنتج في تلك المحافظات الثلاث.
يمكن للمرء إذن أن يقول أن الجزء الأهم من المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، والقسم الأهم من الدخل الوطني، متوطنٌ هناك.
معلومتان:
في سنوات الدراسة الجامعية كان لي جار لبناني الأ صل، وكان يكرر مفردة “حوراني” عندما يتحدث عن مرفأ بيروت “البور”. أخيراً فهمت أنه تثبّت عند مصطلح كان متداولاً في بيروت أيام الوحدة المصرية السورية. آنذاك كان يطلق على كل حمّال في البور “حوراني” نسبة إلى حوران، والسبب أن عدداً كبيرأ من عمال المرفأ كانوا من حوران “محافظة درعا”. ومعلوم أن سنوات الوحدة الثلاث، ولسوء الحظ، كانت سنوات قحط أسود في الإقليم الشمالي “سورية”. ومنذ أشهر تكررت الصدمة عندما سمعت أحد الأخوة اللبنانيين يتكلم عن “النّور” الذين يشتغلون كعمال أجراء في الزراعة في لبنان. النور أولاء هم النازحون من المحافظات السورية الثلاث ويا للأسف. سُمّوا بهذا الإسم لأن غالبيتهم تسكن خيماً من الخيش.
سياسة ظالمة أم تخلف أم كلاهما معاً؟
كم هو مؤلم لأولاء أن يُطلق عليهم هذا الاسم التبخيسي. إذْ من المعروف أن البنية الثقافية في تلك المنطقة لها ركيزة أساسية تتمثل في الافتخار بالأصل. لكن على ما يبدو؛ لا يدفع على شرب المر إلا “الأمرّ” منه.
فما السبب في مأساة المحافظات الشرقية التي تتراوح بين إعلانها مناطق منكوبة وجائعة وبين الغنى الفاحش نسبياً في ثرواتها وزراعتها وبترولها؟
إنها عوامل متعددة تقع في سياسة الدولة أولاً، وفي البنية المتخلفة للمجتمع ثانياً. واجتناباً لأغنية الهجاء المطولة ضد السلطة والتي لن تنتج خبزاً ولن تداوي مريضاً، يشعر المرء برغبة أكيدة في أن تنعدل سياسات الدولة إزاء تلك المنطقة المنكوبة، ويتمنى المرء حواراً وطنياً عاما لإنقاذ الناس، تكون السلطة فاعلاً أساسياً فيه باعتبارها المحتكرة للقرار السياسي والاقتصادي.
لا يماري منصف من أن البنية المجتمعية في المحافظات الثلاث متخلفة، وأن لا وجود لصناعة متقدمة نسبياً أو معقولة على الأقل، وأن العادات والخبرات الزراعية لم تتأصل بعد. فقبل ثلاثينيات القرن الماضي كانت الزراعة نزراً لا يذكر، بسبب قرنين من الفوضى إبان ضعف الدولة العثمانية. لم يكن المرء آمنا على حياته، فكيف له أن يزرع ويستقر. وما إن استقر الأمن في سورية ت، حتى اندلعت ثورة زراعية في منطقة الجزيرة في أربعينيات وخمسينيات وجزءٍ من ستينيات القرن الفائت، حيث استُصلحتْ أودية الفرات والبليخ وأنهار الحسكة جميعاً، إضافة إلى زراعة القمح والشعير شمال خط المطر. كانت ثورة حقيقية وبجهود أهلية بحتة، ودون شعارات أو رموز أو خطابات، ودون نَصْبِ ذاك التراكتور البائس الذي بدأ السوريون “يكحلون” عيونهم بمرآه منذ أواخر الستينيات على الطرقات العامة بين المدن، وقد خُط عليه وبالعريض الثورة الزراعية!
مع ذلك ظلت المنطقة خارج التأثير السياسي في سورية، وظل ينظر إلى أهلها على أنهم بدوٌ وشوايا وأقليات. فقد كانت تسود في سورية ثقافة الاستهانة بالريف وبسكانه، وهي ثقافة عثمانية على ما نعتقد. ثقافة تحتقر الريفي وتعلي من شأن الحضري. الأمر الذي انتقم له التاريخ في انقلاب الأدوار مع مجيء البعث باستثناء الجزيرة، حيث تضاعفت المعاناة. فلا بلح الشام طالت ولا عنب حلب ولا أخيراً زيتون اللاذقية. يكفي المرء أن يلقي نظرة على النخب الحاكمة منذ الاستقلال وإلى الآن، ليعرف أن شخصيات جزيرية لا تزيد على أصابع اليد الواحدة كان لها تأثير عام في السياسة السورية. ولقد كانت نقطة علام فاقعة في تدهر مشاركة أهل الجزيرة في السياسة السورية في انتفاء الدور العسكري والأمني لضباط من أصول ديرية إبان حكم الرئيس السابق، قبل وإثر الحلاقة الناعمة لناجي جميل وصحبه.
طبعاً كان للقحط دور في أن يكنى أهل الجزيرة باسم بغيض عليهم، لكن أُس التدهور الاقتصادي كان وما يزال في المزيج المتفجر لسياسة الخطط الزراعية وسياسة تسعير المحاصيل. إذ من المعلوم أن الفلاحين والمزارعين أجبروا لأكثر من عقدين على زراعة نوع من المحاصيل وحسب الخطة الزراعية، وكان قسم منهم لا يجيد زراعته وربما لا يلائم وضعه، ومن المعلوم أن عماد العمل الزراعي هم أفراد الأسرة. هناك محاصيل يزيد من نجاح زراعتها تعدد الأفراد، بينما هناك أنواع أخرى لا تحتاج إلا إلى عدد قليل. والحال أن الأسر الكبيرة والصغيرة أجبرت على زراعة ما رآه “خبراء ومخططون!”. والمشهور أيضاً أن سياسة التسعير للقطن والقمح والشعير كانت مجحفة، ولم تسمح للفلاح والمزارع أن يراكم وفراً ينفعه ساعة الشدة أو يوظفه في مجال آخر. بالكاد كانت الأمور تسير، ما عدا من كانت لديه تكلفة نزح الماء والسقاية غير باهظة. حتى إذا ما وصلنا إلى الوضع الحالي، وجد فلاحون وزارعون كثر أنفسهم جوعى وبلا ادخار من أي نوع، حتى ولا سكناً معقولا. في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي مثلاً حابت السياسة التسعيرية الفلاحين والمزارعين الذين لايزرعون المحاصيل الاستراتيجية، وظلمت زارعي هذه المحاصيل أي القطن والقمح والشعير. والأنكى أن الدولة باعتبارها رب العمل الأكبر وبسياستها التسعيرية وبموهبتها في إعادة توزيع الثروة، ساهمت في تعزيز اقتصاديات وكلاء ومستوردي السيارات وشركات معينة للنقل العام، وبعض الزارعين للفواكه والزيتون والخضروات والبقول، والمتلاعبين بالتعهدات والعقارات، والأسوأ من كل هذا نهب المال العام الذي أدى إلى ظهور طبقة حديثة النعمة، عملت ولا زالت تعمل بنهم وجشع غير مسبوقين. وهل بنا حاجة لأن نقول أن مصدراً أساسياً للمال العام المنهوب ولإعادة توزيع الثروة، إن لم يكن الأساس، أتى ويأتي من تلك المنطقة المنكوبة، منطقة الجزيرة.
أرقام تدل على ظلم القرار السياسي والاقتصادي:
في منطقة الجزيرة مراكز حدودية غير مستغلة، والسبب برأينا هو الهاجس الأمني تجاه الأكراد، وتجاه العراق إبان العهد السابق، يكفي أن نشير أن عبور الحدود من المراكز الرسمية بين سورية والعراق كان شبه مستحيل طيلة عقدي الثمانينيات والتسعينيات، ويكفي أن نشير إلى “الطرفة” الأمنية التي كانت منتشرة في الجزيرة والتي تقول أن كل شخص من عرب الجزيرة هو عميل لصدام إلى أن يثبت العكس. يُصدر من هذه المراكز فقط (1%) من إجمالي ما تصدره المنافذ الوطنية، بينما لاتتعدى قيمة ما يستورد عبرها سوى (5‰)
أما قيمة الترانزيت فتمثل (16%) فقط من الإجمالي الوطني.
منشآت القطاع الصناعي الخاص تمثل 7% من إجمالي المنشآت الصناعية الخاصة في البلاد.
يبلغ إنتاج الشوندر السكري 33% من إجمالي إنتاج البلاد ونسبة مايصدر من المنطقة منه إلى خارجها (لعدم وجود مصانع كافية) يتجاوز 43%
والأسوأ أن انتاج القطن في المنطقة حوالي 70% من الإنتاج الوطني، بينما لا تتعدى نسبة إنتاج الغزول القطنية 10% من الإنتاج الوطني.
من الجليٌ هنا أن قرارات سياسية مهمة لم تتخذ طيلة العهود الوطنية والبعثية في تنمية المنطقة صناعياً، أيضاً إلى حد كبير خدمياً كما هو مشهور ومعروف.
(الأرقام الواردة في هذه المقالة مأخوذة عبر الانترنيت من مقدمة الخطة الخمسية العاشرة فيما يخص المنطقة، علماً أن الخطة لم تورد شيئاً لا من قريب ولا من بعيد عن البترول).
كاتب سوري