“علم نفس الجماهير” لسيغموند فرويد: إلى أين تأخذنا الروح الجماعية أحيانـاً ؟
خالد غزال
شكل القرن العشرون ظاهرة صعود الجماهير بقوة من خلال انتصار الثورة البولشفية في روسيا على يد الحزب الشيوعي، وكذلك من خلال صعود الحركة النازية في المانيا التي اوصلت ادولف هتلر الى السلطة. اكتسبت الحركة الجماهيرية أبعادا في اكثر من مكان في العالم واستطاعت ان تحدد الكثير من الخيارات السياسية، سواء ما اتسم منها بالايجابية او تحول ظاهرة سلبية. شكلت انتفاضات الجماهير وحراكها مادة دراسة وتحليل اندمج فيها التحليل الاجتماعي بالسياسي والنفسي. سبق للكاتب الفرنسي غوستاف لوبون ان تناول هذه الظاهرة نهاية القرن التاسع عشر في كتابه “سيكولوجيا الجماهير”، انطلاقا من قراءته للحراك الجماهيري في فرنسا خلال القرن التاسع عشر، ووضع الأسس التي سيستند اليها علماء النفس في قراءة الظاهرة. مثّل سيغموند فرويد ابرز دارسي هذه الظاهرة، من خلال معايشته الحراك الجماهيري في روسيا الشيوعية وفي المانيا النازية، فأضاف الى غوستاف لوبون مقاربات حية في هذا المجال. كان كتابه “علم نفس الجماهير” ابرز الدراسات حول الظاهرة، وقد ترجمه جورج طرابيشي واصدرته “دار الطليعة للطباعة والنشر” في بيروت.
يحدد فرويد مصطلح الجمهور من وجهة النظر النفسية بالقول: “يمكن تكتلاً ما من البشر ان يمتلك خصائص جديدة مختلفة جدا عن خصائص كل فرد يشكله. فعندئذ تنطمس الشخصية الواعية للفرد، وتصبح عواطف الوحدات المصغرة المشكلة للجمهور وأفكارها، موجهة في الاتجاه نفسه. تتشكل عندئذ روح جماعية عابرة وموقتة، لكنها تتمتع بخصائص محددة ومتبلورة تماما. انها تشكل كينونة واحدة وتصبح خاضعة لقانون الوحدة العقلية للجماهير”. وقد ابرزت وقائع الحراك الجماهيري التحولات التي تصيب الجمهور النفسي خلال عملية الحراك، لجهة التحول الى جمهور يتمتع بنوع من الروح الجماعية، بصرف النظر عن اهتمامات افراده وامزجتهم ودرجات ذكائهم. هذه الروح الجماعية تجعل هذه المجموعات تحس وتفكر وتتحرك بكيفية مختلفة عن تلك التي كان سيحس بها ويفكر كل فرد، في ما لو كان منعزلا وغير منخرط في هذه الجموع.
يشدد فرويد على ان الجمهور النفسي يمكن ان يكون متشكلا من رجال عظام كما من أبناء الطبقات الدنيا، لكنه يعمل ويشتغل وفق نمط جمعي لا شعوري. في هذا النمط الجمعي يفقد البشر فرادتهم الذاتية، بل حريتهم الخاصة، بحيث تذوب كفاءاتهم العقلية والذهنية في الروح الجماعية. انطلاقا من هذه النقطة يمكن فهم سلوك الانسان الفرد الذي يتصرف ويقبل وينخرط في حركات تتصف بالبلاهة واللاعقلانية، يصعب عليه بل يستحيل ان يقوم بها لو كان مستمرا في فرادته ممتنعاً عن الانخراط في المجموع وحراكه وشعاراته وتوجهاته. لكن فرويد يرى جانبا آخر في طبيعة الحراك لجهة القوة التي تنجم عنه بشكل جماعي، وهو عنصر اساسي في التغييرات السياسية التي تتمكن الجماهير من فرضها في ذروة حراكها في سبيل قضية ما.
من موقعه كعالم في التحليل النفسي، وكمشدد على دور اللاوعي في تحديد سلوك الانسان، يرى فرويد ان هذا الجمهور النفسي الخاضع بقوة اللاشعور الطاغية، انما يشبه الانسان الخاضع لعملية التنويم المغناطيسي التي يلجأ اليها المحلل النفسي في معالجته لمريضه، لكن المنوّم هنا ليس عالم النفس بل هو القائد او الزعيم الذي تقوم علاقة خاصة بينه وبين جمهوره تتسم بطبيعة “ولائية” مطلقة، تشبه الحالة الدينية في الطاعة والتسليم للإله. فالزعيم بالنسبة الى الجمهور يشبه النبي “حيث يعتبر خارقا لجنس البشر ومستقطبا للعاطفة الدينية الجماعية على شكل خوف من القوة التي تعزى اليه، وخضوع اعمى لأوامره، واستحالة اي مناقشة لعقائده، ورغبة محمومة في نشر هذه العقائد، وميل الى اعتبار كل من يرفضون اعتناقها اعداء”. عايش فرويد علاقة الزعيم بجمهوره من معاينته لهتلر في المانيا ولستالين في روسيا، مما جعله يقدم شهادات حية على نظريته هذه.
هذا الولاء شبه الديني للزعيم، يجعل الانسان، سواء أكان متدينا ام غير متدين، في حالة يضع فيها كل طاقاته الروحية وكل ارادته في خدمة هذا الزعيم او تلك القضية. في المقابل يمكن القول ان هذا الجوهر الديني الذي تحمله العاطفة الجماهيرية هو العنصر المفسر لما يصيب الجماهير من تعصب واستبداد، والايمان بالافكار والعقائد بصفتها حقائق مطلقة، واعتبار كل ما عداها باطلاً ويستحق الحرب. وهو ايضا ما يفسر قابلية الجماهير لارتكاب ابشع الاعمال واكثرها تطرفا وهمجية، كما يفسر ايضا قدرة هذه الجماهير على اجتراح افعال بطولية والقيام بتضحيات كبيرة والتفاني العظيم من اجل قضايا وطنية اساسية. لكن فرويد يظل متشبثا بالجانب السلبي تجاه الجماهير قياسا على الجوانب الايجابية، فيصر على ان سرعة تأثر الجماهير وسذاجتها وتصديقها أي شيء من طريق التحريض، وخصوصا تحريض الزعماء الانتهازيين اصحاب الحسابات الصغيرة والدنيئة، ذلك كله يمكن ان يجعل من الجماهير قوة غاشمة قابلة في كل لحظة للانفلات من قيد العقل والاستسلام لمنطق الغرائز والعصبيات المدمرة.
على رغم مرور عقود على كتابات فرويد وغيره من العاملين في حقل التحليل النفسي وقراءة ظاهرة الجماهير، الا ان ما يشهده العالم العربي اليوم من انفلات للعصبيات العشائرية والطائفية والقبلية، بما تحمله من افكار ترفض الاعتراف بالاخر، وتستند الى ايديولوجيات دينية تتمكن بواسطتها من تجييش الجماهير اليوم، هذا الواقع المتصاعد يعبر عن نفسه في اكثر من مكان بحراك جماهيري يتصف بطابع مدمر اكثر منه جوابا عن قضية نبيلة، مما يضع علم نفس الجماهير اليوم في موقع اساسي تحتاج اليه المجتمعات ونخبها لفهم الانحرافات الكثيرة في هذا الحراك الجماهيري، بأشكاله المتنوعة والمتعددة.
النهار