هل أخطأ الحريري بقبول التكليف؟
د. خالد الدخيل
الأسبوع الماضي، وفي معمعة تشكيل الحكومة، وجد رئيس الوزراء اللبناني المكلف، سعد الحريري، نفسه فجأة في موقف مربك، توقفت على إثره مشاورات التشكيل. والسبب أن حليفه في 14 آذار، وليد جنبلاط، أعلن فجأة ثلاثة مواقف: مهاجمة المبادئ التي يقوم عليها التحالف، معلناً عودته إلى ما أسماه \”العروبة واليسار\”، وأن وجوده في هذا التحالف كان بحكم الضرورة، وأن هذا التحالف لا ينبغي له أن يستمر. أمام حجم المفاجأة وتوقيتها، قرر الحريري الابتعاد عن بيروت، بل وعن لبنان تحت عنوان \”إجازة مع العائلة\”. نحن هنا أمام موقف لافت يطرح مباشرة مسألتين مهمتين: دلالة استدارة جنبلاط بالنسبة لقبول الحريري فكرة رئاسة الحكومة، والثانية ما تقوله هذه الاستدارة عن ظاهرة التكاذب في الثقافة السياسية اللبنانية. في لبنان الآن، هناك شيء اسمه \”قضية وليد جنبلاط\”: هل انسحب من 14 آذار؟ الأرجح نعم، لكن اضطراره لتوضيح مواقفه لاحقاً أبقى على السؤال قائماً. هذا الغموض الشفاف مؤشر على حالة التكاذب المتفشية. خذ مثلاً قول جنبلاط إن انضمامه لـ14 آذار \”كان بحكم الضرورة\”، أي أنه لم يكن عن وعي وقناعة. وهذا يعني أن جنبلاط طوال الأربع سنوات الماضية كان يمارس دور التمثيل على المسرح السياسي اللبناني. لم يكن فيما كان يقوله، وما كان يتخذه من مواقف، يعبر عن حقيقة مصالحه وتوجهاته. على العكس، كان يبيع حلفاءه، وجمهوره الدرزي وغير الدرزي، شعارات كان يعرف في دخيلة نفسه أنها جوفاء ولا صدقية لها، إذا لم نقل إنها كانت ممارسة للكذب بشكلٍ واع ومتعمد! هل هذا صحيح؟ كان جنبلاط من أكثر صقور 14 آذار تطرفاً وحدة في مواقفه تجاه سوريا و\”حزب الله\” وإيران، أكثر حتى من سعد الحريري نفسه. وعندما طلب من الولايات المتحدة إسقاط النظام السوري، وقال عن رئيس هذا النظام، بشار الأسد، إنه \”مريض\”. هل فعل ذلك، وغيره كثير تحت حكم الضرورة، أم فعله عن قناعة بدت حينها راسخة؟ ثانياً أن جنبلاط أراد وحصل على أن يكون أبرز قادة 14 آذار، وأكثرهم تأثيراً على قراراتها. كان له مثلاً دور بارز في عدم احتواء ميشال عون في التحالف، خوفاً، كما يبدو، على مكانته، وبالتالي تسهيل خروج عون أخيراً من التحالف. لكن أبرز مآثر جنبلاط كان إصراره على أن تتخذ حكومة السنيورة العام الماضي قراريها المشهورين حول شبكة اتصالات \”حزب الله\”، ورد فعل الحزب على ذلك بغزو بيروت، واجتياح الجبل، معقل جنبلاط. ثالثاً أن زعيم المختارة اتخذ المسار الذي اتخذه بعد اغتيال الحريري بناءً على عاملين أساسيين: الأول موقفه من النظام السوري، وقناعته، كما قال أكثر من مرة، بأن هذا النظام كان وراء اغتيال والده، الراحل كمال جنبلاط. أما العامل الثاني، فيشتمل على عناصر ثلاثة: تغير الموقفين الدولي والإقليمي من دمشق، وسحب التفويض الذي أعطي لها في لبنان بعد الغزو العراقي للكويت، واغتيال رفيق الحريري الذي ذكره بما حصل لوالده، وانفجار ثورة شعبية في لبنان بعد ذلك، أُجبرت سوريا على إنهاء وجودها العسكري. اقتنع جنبلاط حينها بأن الوقت حان لتغيير النظام السوري، وإنجاز استقلال لبنان وحريته وسيادته.
تؤكد هذه العوامل مجتمعة أن وجود وليد جنبلاط في 14 آذار كان طبيعياً، وكان عن قناعة راسخة، أو هكذا بدا الأمر حينها. لكن الأمور سارت على عكس ما كان ينتظر منها. جاء اجتياح \”حزب الله\” العسكري لبيروت والجبل في 7 مايو من العام الماضي رداً على القرارين المذكورين اللذين أرادهما جنبلاط. كان الاجتياح موجهاً بشكل أساسي نحو زعيم المختارة قبل غيره. وكان لافتاً أن أمين عام \”حزب الله\”، وفي خطابه الذي أعطى فيه إشارة بدء الاجتياح، وجه تحذيراً خاصاً لجنبلاط عندما استعاد ما قاله في 2005، وبحضور جنبلاط نفسه، من \”أن اليد التي تمتد لسلاح المقاومة، مين ما كانت، ومن أين أتت، سنقطعها\”. أي أن الاجتياح وتحذير نصرالله هما، مع تطورات أخرى، من أوجد حالة ضرورة أجبرت جنبلاط على إنجاز استدارته الأخيرة.
يأتي بعد ذلك حديث جنبلاط عن \”العودة إلى العروبة واليسار\” لتكتمل دائرة التكاذب بشفافية لا تخفى على أحد. ما هي هذه \”العروبة\” وذلك اليسار إذا كان جنبلاط لا يزال يتصرف على أنه زعيم طائفة، يستمد زعامته من منطلقات ومعطيات عشائرية؟ جنبلاط ليس حالة استثنائية هنا، وإنما امتداد لحالة ثقافية مستشرية في العالم العربي، وفي منطقة الشام خاصة.
عندما نأتي إلى الدلالة الثانية لاستدارة جنبلاط، نلاحظ بأن الجميع تقريباً في 14 آذار، خاصة في تيار المستقبل، مقتنعون بأن الظروف تغيرت، وأنه من حق جنبلاط أن يتكيف معها، أو يعيد تموضعه استجابة لها. تأتي صدمتهم من التوقيت الذي اختاره لإعلان ذلك. لم ينتظر حتى بعد انتهاء تشكيل الحكومة. وثانياً، أنه تنكر لأربع سنوات من التحالف، بكل إنجازاتها وإخفاقاتها، وبكل شهدائها، وفوق ذلك بطريقة لم يحافظ بها على حرمة الشهداء الذين سقطوا، ولا على الإرث الذي تشكل خلال تلك المدة. يتساءل هؤلاء: لماذا كان يجب أن يحصل ذلك بالطريقة التي حصل بها؟ لماذا كان على جنبلاط أن يستدير الآن ويحاول تحميل حلفائه، أو تحميل \”الضرورة\” مسؤولية مواقفه المتطرفة السابقة؟ كان بإمكانه أن ينفذ استدارته بأسلوب أكثر هدوءاً وتماسكاً، وأكثر رقياً بما يحفظ له صدقيته، ولماضيه ولحلفائه شيئاً من الاحترام، ولباقة التقاليد.
يكشف هذا العتب شيئاً مهماً عن الكيفية التي اتخذ بها قرار قبول سعد الحريري فكرة تولي رئاسة الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والسير في ذلك حتى صدور القرار الرئاسي بالتكليف. الآن، يبدو وكأن السير في هذا الخيار تم من دون التأكد من مواقف الحلفاء، خاصة جنبلاط، وهو أحد أبرز زعماء التحالف المعروف بمرونته الواسعة في موضوع الالتزام بمواقفه السياسية. المفارقة أنه بفعل تقلبات جنبلاط صار الحريري المتضرر الأكبر بعدما كان الكاسب الأكبر في الانتخابات الأخيرة. هل من علاقة بين هاتين النتيجتين المتناقضتين؟ لم يعترض جنبلاط على تولي سعد لرئاسة الحكومة، وصوتت كتلته أثناء مرحلة الاستشارات لصالح ترشيح سعد. ما لم يؤخذ في الحسبان قبل الانتخابات، وبعد ظهور نتائجها، هو ظهور مؤشرات على بداية تململ لدى جنبلاط داخل 14 آذار. وبالتالي، يبدو الآن من صورة الأحداث أنه لم يكن واضحاً تماماً أثناء التفكير بخطوة تولي سعد لرئاسة الحكومة، مدى تماسك التحالف، ومواقف جميع قياداته من هذه الخطوة، وتحديداً استيضاح علامات التململ الجنبلاطية.
هناك ما هو أبعد من ذلك في هذا الموضوع. الأرجح أن قرار الحريري بتولي الحكومة زاد من مخاوف جنبلاط. فسعد، ابن الشهيد رفيق الحريري، لن يتولى رئاسة الحكومة وحسب، بل سوف يزور سوريا التي يتهمها باغتيال والده. أين سيكون موقع جنبلاط في هذه الحالة؟ اصطدم مع سوريا وحلفائها، خاصة \”حزب الله\”.
أحداث 7 مايو كشفت له أنه لا يتمتع بحماية إقليمية متينة، وبالتالي فاستباحة معقله في الجبل ممكنة في أية لحظة. وفي هذه اللحظة خرج ما يعرف بتقرير مجلة \”دير شبيجل\” الألمانية مؤكداً أن المحكمة الدولية تتجه نحو اتهام \”حزب الله\” بالمسؤولية عن اغتيال الحريري. يعطي جنبلاط كل المؤشرات على تخوفه من أن ما يقوله التقرير هو ما سوف يحصل، وأن حصوله يعني حرباً أهلية بين السنة والشيعة، وهو لا يريد لطائفته أن تكون وقوداً فيها. من ناحية ثانية، ربما رأى جنبلاط في قبول سعد الحريري ترؤس الحكومة، وزيارة سوريا، ما يوحي بأن تقرير \”دير شبيجل\” يعبر حقاً عن التوجه الذي يسير فيه التحقيق الدولي.
في كل الأحوال، يبدو أن قرار الحريري السير في خيار تولي رئاسة الحكومة في مثل هذه الظروف، حصل في التوقيت الخطأ. فإلى جانب علاقته بما فعل جنبلاط، هناك أسباب أخرى: فالمشهد اللبناني لم يخرج بعد من إطار الأزمة التي بدأت باغتيال والده، والمحكمة الدولية لم تبدأ فعلاً، ولم تتضح بعد طبيعة قرارها الاتهامي. ومن ثم، فإن توليه رئاسة الحكومة يضعه في موقع تتجاذبه فيه التزاماته القانونية والأخلاقية في موضوع الكشف عن حقيقة اغتيال والده، من ناحية، وحسابات سياسية يفرضها عليه موقعه كرئيس للحكومة، من ناحية أخرى. وقد جاءت استدارة جنبلاط لتضع قرار التكليف تحت مجهر الأزمة. السؤال: هل فات وقت الاعتذار عن التكليف؟
الاتحاد