صفحات العالمما يحدث في لبنان

المقاومتان العسكرية والسياسية

سليمان تقي الدين
في 14 آب 2006 توقف إطلاق النار بين المقاومة وإسرائيل تنفيذاً للقرار 1701، وبدأت تنتشر القوات الدولية جنوب خط الليطاني. إسرائيل ذهبت لترميم قوتها ومعالجة «الفشل» و«العجز» حسب تقرير «فينوغراد»، والمقاومة ذهبت إلى تطوير إمكاناتها وتعزيز قدراتها.
في أيار 2009 أعلنت إسرائيل من خلال المناورة الشاملة عن جهوزيتها للحرب «التدميرية» بينما المقاومة تكرّر استعدادها للمواجهة وتهدّد «بتغيير مسار الأمور ووجه المنطقة». من المؤكد أن الحرب المقبلة التي تهدّد بها إسرائيل نتائجها تدميرية كما أن فشل إسرائيل عسكرياً في اجتثاث المقاومة وإيقاع الخسائر الباهظة بقواتها هو نتيجة تساهم في تغيير بعض المعادلات. لكن «مسار المنطقة» لا يتوقف على تلك الحرب المحتملة، سواء إذا وقعت أم لم تقع. هناك حراك سياسي يراكم وقائع ومعطيات في جميع المواقع والميادين ومن أسف القول إن الفعل المقاوم هو الأقل تأثيراً في مجرياتها من لبنان إلى فلسطين والعراق.
في المدى اللبناني بعد ثلاث سنوات من انتصار المقاومة على الأهداف الإسرائيلية المعلنة، دخلت البلاد في أزمة علاقات عميقة بين أطرافها السياسية وتوجهات الجمهرة الأوسع من طوائفها. قامت جدران من الحذر بين الجماعات وانكمشت العلاقات الاجتماعية في أضيق دوائرها. انطلقت المنافسة على السلطة بين كتل متراصة ومغلقة، وتصاعدت سياسات التعريب والتدويل والتدخل المباشر وإغراق الحياة الوطنية بالمال السياسي الذي شوّه القيم والمعايير وذهب عميقاً في تفكيك وشرذمة وحدة المجتمع ومرتكزاته. لقد كان النقاش حول سلاح المقاومة خاضعاً لخيار وطني وخيار سياسي يستجيب لضغوط دولية غربية. كان الانقسام سياسياً وتنامى الاتجاه في العديد من الأوساط للإقرار لهذا السلاح بفاعليته وأهميته في الدفاع عن لبنان وإثبات جدواه واستحالة معالجته خارج خطة دفاع وطني. لكن الإدارة السياسية للأزمة اللبنانية بمختلف أشكالها بما في ذلك الصدامات المسلحة حوّلت النقاش حول السلاح إلى موضوع له علاقة بأمن الطوائف وقلقها على وجودها ودورها السياسي وموقعها في النظام. اقتحمت المقاومة الحياة السياسية الداخلية بغير مشروع وطني أو برنامج وتموضعت في مواقع لا بُعد إصلاحياً لها وهي امتلكت وسائل وأدوات حمايتها خارج جمهورها الخاص.
لكن الوضع العربي ليس أحسن حالاً لا في فلسطين المنقسمة بين سلطتين واحدة تستمدّ شرعيتها من النظام الرسمي العربي واعتراف المجتمع الدولي، بينما تحاول الأخرى استدراج الاعتراف بها ولو كان طريق ذلك تعميق الطابع الانفصالي وتوطيد الطابع الأمني اللاغي لحرية الشعب الفلسطيني، بينما إسرائيل تقضم بوتيرة غير مسبوقة جغرافية فلسطين وتهضمها دون كوابح عربية أو أميركية.
أما النظام الرسمي العربي فقد صارت مشاكل كل دولة، السياسية والأمنية، سبباً لإدارة الظهر الكامل للأمن القومي والمصالح القومية. فهي إما تغرق في فوضى نزاعاتها الأهلية أو هي تستظل أكثر بالحماية الأميركية وتستجيب أكثر لشروطها.
تراجعت الاهتمامات الأميركية نفسه في المسألة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي لمصلحة ترتيب الملف العراقي، حيث الطرف الرئيسي ليس عربياً.
لم ينتج مناخ التفاوض والحوار والحاجة الأميركية إلى معالجة أزماتها استعادة التضامن العربي بأركانه المحورية الجاذبة، مصر، والسعودية، وسوريا. بل صار الحوار السوري السعودي والتفاهمات الأولية مصدر انزعاج مصري معلن وسياسات اعتراضية لمعالجة ملفي فلسطين ولبنان.
بهذا المعنى نحن أمام حال اهتراء عربي غير مرشح لوقف المسار الانحداري على المستوى السياسي ولا طبعاً لمعالجة مشكلات اقتصادية واجتماعية بدأت مع الأزمة المالية العالمية تطاول دول الخليج الغنية. بل إن الدول التي كانت عمقاً لسياسات الصمود العربي كالجزائر واليمن وليبيا وطبعاً العراق، تتخبط اليوم في أزمات أخذتها بعيداً عن أي توجه أو همّ عربي.
إذا كانت هذه صورتنا اليوم، فعن أي مسار نتحدث؟! علينا أن نفكر بمشروع المقاومة الوطنية أو العربية من زاوية أخرى ومختلفة. ليس من باب تحميل المقاومة الوطنية أعباء القضية القومية، بل من باب تحديد الرؤية الاستراتيجية التي يجري استيحاؤها من الواقع العربي وليس من موقع وطني محدود. فلا أفق للتغيير في المسارات السياسية العامة إلا في بُعد عربي. إن الثورة الفلسطينية التي لعبت دوراً مركزياً في استقطاب الشعور العربي واهتمام ودعم القوى الوطنية بدأت أزمتها في لحظة جعل استقلاليتها كيانية متنافسة وأحياناً متصادمة مع الوطنيات والكيانيات الأخرى. حين تنحدر الوطنية في رؤيتها وفي خطابها وفي علاقاتها من العروبة الجامعة تخسر الحاضنة الأولى التي يغتذي منها العمل الوطني هويته وشرعيته وينزلق أكثر نحو الارتباط بموقع السلطة هنا أو هناك على حساب المشروع السياسي في التحرير وفي تغيير العلاقات السياسية والاجتماعية. العمل المقاوم يجب أن يرتبط «بمجتمع مقاوم» وهو من يقرّر في نهاية المطاف حدود دوره ووظيفته هل هي «فئوية» أم وطنية شاملة. المجتمع المقاوم موحد وطنياً مستقر اجتماعياً وسياسياً لا يحكمه نظام مخلّع منتج للأزمات، مفسد للولاء متعاكس في المشاعر والتوجهات.
المقاومة في لبنان التي سطّرت أمجد الصفحات في التضحية وفي الصمود وما زالت تعد بالكثير على هذا الصعيد، مطالبة اليوم أن تعزز حضورها في الوجدان الوطني والعربي، وأن تجد الوسائل إلى ذلك، فلا يستطيع النظام الرسمي أن يحاصرها، ولا يكون خطابها قصير المدى متجهاً إلى جمهور محدود كلما تجذرت فيه فقدت فعاليتها وتأثيرها خارجه. ولا نودّ أن نسمع إجابة سهلة وقاصرة، عن المكوّن الأصلي وعن الحذر من توسيع الإطار والمشروع الذي يستثير هواجس «الجماعات الأخرى». المهم بأي خطاب نتوجه إليها وبأية وسائل وأدوات وأية هموم وتطلعات. الإيديولوجيا تعبّئ لكن السياسات هي التي تصنع التغيير. الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى وليس العكس. أولوية السياسة هي ما يجب الشغل عليها وتفكيك عقدها ولنختبر في المدى اللبناني عبور أسوار الطوائف قبل أن ينهار السقف الوطني الذي تفسخ بالاهتزازات «الفتنوية».
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى