قضية فلسطين

الحركة” تغيرت بسياستها وليس بنهجها وقياداتها!

ماجد كيالي
أثار انعقاد مؤتمر فتح السادس السؤال عن مصير هذه الحركة، استمرارها ووحدتها وطبيعة توجهاتها السياسية. وعلى هذا السؤال ثمة انقسام بين الفتحاويين والمهتمين والمتابعين. هكذا، ثمة من يعتقد أن فتح نجحت بعقد مؤتمرها وتصليب وحدتها وحافظت على ثوابتها وتتجه لتطوير ذاتها. وثمة من يرى خلاف ذلك أي أن فتح لم تعد هي ذاتها، وأنها اختلفت عن فتح المعروفة المتمسكة بالكفاح المسلح واستقلالية القرار الوطني وحقوق الفلسطينيين؛ بمعنى أن فتح أبو مازن تختلف عن فتح ياسر عرفات (زعيمها ومهندسها الراحل).
هكذا، ثمة في الإجابة السابقة نظرة متسرعة ومبسطة وانتقائية لموضوع النقاش، بتعقيداته وإشكالاته. ذلك أن فتح كانت خضعت منذ زمن لتغيرات سياسية كبيرة (بغض النظر عن تقييمنا لها سلبا أو إيجابا)، ظهرت ملامحها منذ انتقالها إلى التسوية، بتبني قيادتها للبرنامج المرحلي (1974)، وترسّخ اعتمادها النضال السياسي والدبلوماسي، إثر انهاء وجودها العسكري في لبنان (1982). وتم التحول نهائيا نحو هذا وذاك بعقدها اتفاق أوسلو مع إسرائيل، وانتقال ثقلها إلى الداخل، وتحولها إلى سلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين (منذ العام 1994)؛ مع إقرارنا بوجود مرحلة مزاوجة، بين طريقي فتح، تمثلت برفض املاءات إسرائيل في مفاوضات كامب ديفيد 2 والتوجه نحو الانتفاضة والمقاومة المسلحة (أواخر العام 2000)، ولكن هذه المعادلة كان فرضها أبو عمار بوعيه لدوره الرمزي والتاريخي.
لم تتغيّر فتح فقط عبر هذا المسار، فثمة مسار آخر أدى إلى تغييرها، عجّله غياب قادتها التاريخيين بالاغتيال، أو بالوفاة (في مقدمتهم أبو جهاد، وأبو إياد وخالد الحسن، ومؤخرا أبو عمار)، وحصل فيها انشقاق كبير (1983) أدى إلى خروج قيادات وكادرات نضالية مجربة منها، ثم جرى تجفيف لمواردها المالية (لتطويعها).
ولا شك أن تحول فتح، من حركة مقاومة إلى سلطة، أدى إلى إثارة الشبهات السياسية والمسلكية حول عديد من قادتها وكوادرها المتنفذين، وخلق فيها طبقة ذات مصالح (مادية وسلطوية) معنية بالحفاظ على الوضع الراهن، ما أثر على روحها الكفاحية وبدد طاقتها النضالية، وأضعف صدقيتها كحركة تحرر وطني في مواجهة إسرائيل. أيضا، فإن ضعف الحراك السياسي فيها، وعدم وجود حياة تنظيمية داخلها، وتدني اهتمامها بالثقافة السياسية، وتفشي علاقات المحسوبية والزبائنية فيها، على حساب الكفاءة الشخصية والصدقية الوطنية، أظهر هذه الحركة (على الأغلب) وكأنها حركة موظفين (متفرغين)، أكثر من كونها حركة مناضلين، ما يفسر انهيار وضعها في غزة؛ بين أسباب أخرى. ومعلوم أن كل هذه الأوضاع أدت إلى تراجع دور فتح كحركة تحرر وطني تصارع إسرائيل، ما أدى إلى انحسار مكانتها في المجتمع الفلسطيني، وتآكل دورها القيادي، وهو ماظهر واضحا بخسارتها الانتخابات التشريعية (2006)، وانهيار وضعها في قطاع غزة (2007)، لصالح حركة حماس.
جانب أخر في تغيّر طبيعة فتح يتعلق بتحولها إلى حركة اللون الواحد، بعد أن كانت حركة وطنية تحتضن مجمل التيارات السياسية في الساحة الفلسطينية؛ وهنا نحن لانتحدث عن محتوى أيدلوجي، وإنما عن محتوى سياسي. وكان واقع التعددية والتنوع في فتح بمثابة نقطة تميز لها عن باقي الفصائل، وعمود قوتها، وروحها المتقدة. ومنذ الخروج من لبنان (والانشقاق الذي تلاه)، باتت فتح حركة للون واحد، وباتت مطواعة للقيادة التي باتت متحكمة تماما فيها. وما ساعد على ذلك أن فتح لم تشتغل على تطوير ثقافة التنوع والتعددية بين أعضائها، ولم تكرس التعايش بين المنابر في صفوفها، وفق علاقات ديمقراطية مؤسسية تفاعلية وتكاملية. وبالأصل فقد كان واقع التعدد والتنوع في فتح مشوبا بكثير من التوتر والتناحر، ولم يجر العمل على تأطيره أو تنظيمه أو الاعتراف به.
الآن، وبحسب مداولات مؤتمر فتح السادس، ونتائجه، فإن فتح تتجه نحو تكريس تحولها إلى حركة سلطة، بكل معنى الكلمة، حركة تقطع مع مقولاتها الأساسية المتعلقة ببعث الهوية الوطنية الموحدة لكل الشعب الفلسطيني، وتحافظ على استقلالية القرار الوطني، وتنتهج الكفاح المسلح كطريق لاستعادة الحقوق، لصالح التحول من حركة مقاومة إلى حركة سياسية للفلسطينيين في الداخل، وإن ظلت تتحدث عن تمسكها بحقوق اللاجئين وفق القرار 194. فإذا كانت هذه الحركة تعتمد التفاوض والتفاوض كبديل للتفاوض من اجل الحقوق الوطنية، فكيف ستقنع إسرائيل بحق العودة للاجئين؟ وإذا كان قيادة هذه الحركة تحصر نفسها في خيار الدولة في الضفة والقطاع بالتفاوض فكيف ستجلب دولة وحق عودة للاجئين في آن معا؟
واضح مما تقدم أن فتح الجديدة غير فتح القديمة مع كل الاحترام للحديث عن الصمود على المبادئ والثوابت، فهو مجرد حديث لا يعني شيئا في السلوك السياسي الذي ستمارسه قيادة الحركة في الآتي من الأيام؛ وما صرح به أصحابها في سالف الأيام. وإذا كنا لانختلف على ضرورة انتهاج الواقعية السياسية وترشيد الكفاح المسلح، فإن المصداقية تقتضي أيضا تعيين مفهوم الواقعية وحدودها، كما تقتضي ترشيد المفاوضات أيضا، فإذا كانت فوضى الكفاح المسلح أضرت بالشعب الفلسطيني وصدقية قضيته فإن طريقة القيادة في المفاوضات لم تجلب شيئا وأضرّت كثيرا.
هكذا يمكن القول بأن فتح لم تتغير فعلا بقياداتها ونهجها وعلاقاتها الداخلية وطريقة إدارتها لأحوالها وللساحة الفلسطينية، ولكنها تغيرت من النواحي السياسية.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى