قضية فلسطين

المهود الطائرة

خيري منصور
كم ألف عصفور يعادل طائرة؟ وكم مليون طائرة ورقية تساوي غراباً فولاذياً يفسد الفضاء بما ينفث من زفير أسود؟
هذه الاسئلة وغيرها تداعت إلى الذاكرة، فور نشر النبأ، وهو أن أطفال غزة دخلوا موسوعة جينز بالستة آلاف طائرة ورقية التي أطلقوها في سمائهم الصافية، وطائرات غزة لم تحمل باروداً وصواريخ وشعارات إبادة، بل حملت عبارات مفعمة بالشعر والحنين الإنساني إلى زمن آخر، لا يحصد فيه الأطفال كالسنابل بمناجل الاحتلال. والغريب في النبأ أن طائرات الدولة العبرية لم تنطلق لقصف هذه الطائرات الورقية الملونة. فمن يقتل الأطفال ويحوّل مهودهم إلى لحود يقصف ويحرق دفاترهم المدرسية، كما حدث ذات عدوان على مدرسة بحر البقر المصرية، عندما اصطبغ لون الطباشير بالدم.
إن ما قدمه أطفال غزة المحاصرة من استعراض بريء لأحلامهم بسماء محررة من دخان الطائرات هو رسالة مزدوجة، فهي موجهة إلى أطفال العالم بقدر ماتستهدف البالغين ممن صرفتهم اللامبالاة عن رصد هذه التراجيديا التي ستبقى إلى الأبد ندبة سوداء في جبين العالم.
وأطفالنا يدركون بالفطرة أن من تحتل أرضه لن تنجو سماؤه من الاحتلال، ولن يسلم منه الماء والهواء، فالاحتلال كماشة، ولكي يجهز على الضحية بدءاً من عنقها يطوق كل جسدها، وبالرغم من ذلك تفلت من أنيابه. والقول إن العصفور ينتصر أحياناً على طائرة ليس مجازياً، فقد حدث بالفعل أن سقطت طائرات لمجرد أن عصفوراً صغيراً ارتطم بزجاجها.
والحرب الكبرى، بل حرب الحروب كلها التي تدور في هذا الكوكب منذ نشأ، هي بين قوي أعمى وضعيف بصير، فالأول ينتهي إلى تدمير ذاته تماماً كما تفعل العقارب عندما لا تجد ما تلدغه فتلدغ نفسها لتفرغ كيس السم، أما الثاني فهو الأوكسجين مقابل ثاني أوكسيد الكربون.
والنشيد مقابل ضجيج الموت المبهم، وهو رهان الزهرة على ربيع لابد أن يأتي، وأطفالنا الذين تجرعوا من ملاعق الدم والمرارة أكثر مما تجرعوا من الحليب، يبلغون رشدهم قبل الفطام، لأنهم يرون بأم العين الآباء والأمهات والأخوة وهم ينزفون حتى الموت بينما تتلاشى أصداء استغاثاتهم في عالم احترف النسيان.
طائرات الورق تغير أيضاً، لكن على أهداف أخرى فهي تشهر سنبلة خضراء مقابل عصا يتناسل السوس فيها، وتشهر طفولة عارية في وجه عالم فقد ذاكرته، وأسلم أمره للشيطان.
في آخر عيد للحب، أو ما نسميه عيد فالستاين وليس فالنتاين، ذبلت الزهور التي كانت تنتظر مواعيدها على صدور العشاق، وفي عرى قمصانهم ومعاطفهم.. وشهد العالم عبر الشاشات كيف كانت البهائم تقضم تلك الزهور، ثم تنصرف عنها بسبب مرارتها.
فكل شيء مرّ في زمن الاحتلال، تماماً كما هو الحب في زمن الكوليرا عند جابرييل ماركيز.
إن الطائرات الورقية المضمخة بدمع الأمهات هي مهود طائرة، وكل واحدة منها تحمل اسماً لطفل فلسطيني غرزت أمه رضاعته الزجاجية في تراب قبره الصغير، لأنه لم يتمكن من إكمالها حياً.
إن عالماً لا تحركه الوقائع بكل فظاظتها وفظاعتها ولا تحركه المواقف الرمزية، هو عالم تفوّق على التماسيح، لا بكثافة الجلد والإحساس فقط، بل بالدموع الكاذبة التي يذرفها كي يستعيد توازنه الوهمي ويحاول أن يغسل بها ذاكرته الآثمة..
طائرات أطفال غزة حمائم زاجلة تهدل في سماء محتلة بالنعيق.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى