الرحلــة الأخيــرة إلــى العــراق: كدت أفعل مثل ارنست ياندل فأخاطب مستمعي: أعزائي القتلة
حسين الموزاني
إلى: كاظم الحجّاج وأحمد خلف
أحياناً يتعامل الأشخاص ذوو المنحى النظري، على شاكلتي، مع العالم بجديّة كبيرة قد لا تكون مبررةً، أو قد لا يستحقها هذا العالم المسكون عادةً بالدوافع الغريزية؛ لذلك تبدو في نظرهم خطوة بديهية مثل زيارة الأهل والوطن، أو ربّما بقاياهم، وكأنها خطوة عملاقة على مفترق طرق لا مفرّ منه يفصل بين الموت والحياة. فتبدو هذه الرغبة الفطرية وهي أن تزور أمّك قبل رحيلها كما لو أنّك عقدت النيّة على أن تدكّ أركان البيت الأبيض وأركان السياسية الدولية كلّها. فعليك حينئذ أن تضع في الحسبان آخر مستجدات الفكر الإرهابي وبياناته، وتغيّرات توازن القوى في المنطقة، وسياسة قوّات حلف الأطلسي وقوّات التحالف العاملة في الشرق الأوسط، وسير حياة قادتها، للاطلاع على نوازعهم، وعليك أن تقرأ استراتيجة الغرب الجديدة عموماً، مروراً بسياسة موسكو وبكيّن، ثمّ تطلع بعد ذلك، قدر المستطاع، على آخر قرارات البرلمان والحكومة العراقيين وتوصياتهما، إضافة إلى آخر الإجراءات الأمنية وآخر الفتاوى الفقهية، وآخر العمليات الانتحارية، وأسماء من قتلوا، إن كان من بينهم شخصيات كبيرة، وكذلك عدد العمليات الانتحارية وغير الانتحارية في هذا العام، مقارنةً بالعام الماضي، وعدد المسؤولين العراقيين ـ ومنهم الوزراء ـ المتهمين بارتكاب أعمال إرهابية واختلاس أموال، وتناقش مع الآخرين التوجهاتِ الجديدة لبعض القادة الأوروبيين حول أزمات الشرق الأوسط، وتقرأ شيئاً عن مستجدات الاستراتيجية الإسرائيلية، وأخبار البورصات والأزمات الاقتصادية العالمية والمحليّة وسعر صرف اليورو والدولار والدينار وهلّم جرّا، ثمّ تعقد العزم أخيراً وتتوكل على نفسك لتتصل بالوالدة، الطريحة الفراش في أطراف بغداد، لتبلغها بأنك قادم لزيارتها قبل أن يأخذ الله أمانته. فتسمع صوتها يأتيك من شُعبة جحيم العراق: هلا يمّه هلا، هلا بيك يا بعد رويحتي، سودة بوجهي يمّه!
ولعلّ هذا القول سيكون الترحيب الوحيد، وربما الأخير، أو الصادق على الأقلّ الذي ستحظى به في بلدك الذي غادرته منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لكنّه لم يغادرك ساعة واحدة، حتّى أنّك صرت تشعر وكأن الدماء تنزف من جسدك نفسه كلما ألمّت بالعراق ملمّة وكلّما جاءت الأنباء بأرقام قتلاه من الفقراء المجهولين.
وفي الواقع لم تكن المسافة التي تفصلني عن العراق ببعيدة أبداً، إذ انّ الطائرة تقطعها بأقلّ من خمس ساعات. بيد أنّ هذا الأمر لم يجعل الرحلة سهلة أبداً، إنما قد تتحول هي نفسها إلى حالة عراقية خالصة. وفعلاً، وعلى متن الطائرة المحلّقة حصلت ملاسنة، فتهديد انتهى بملاكمة خلف مقعدي مباشرة. ثمّة راكب كرديّ وصف راكباً آخر كردياً أيضاً بالجحش، أيّ المرتزق الكردي الذين كان قد جنّده صدّام حسين ليقاتل به الكرد من غير الجحوش. وهي تهمة وإهانة خطيرتان، فما كان من المشتوم إلا ويشنّ غارة سريعة على الشاتم فيشبعه ضرباً بقبضة جبلية. فلم يتدخل أحد، حتّى المضيّف الألماني بدا عاجزاً عن أن يفعل شيئاً أمام هذه الملاكمة الفضائية الأحادية الجانب. فالرحلة سيّست إذاً في السماء، وصدّام كان حاضراً، حيّاً، مجسّداً هذه المرّة باللكمات التي تسببت فيها شتيمة سياسية ليس إلا.
ويبدو على أي حال أنّ تحولاً اجتماعياً خطيراً حدث في العراق خلال العقود الأخيرة التي أمضيتها بعيداً عن بلدي، وهو لا شكّ تحوّل ملموس، لكنه لا يعبّر عن نفسه إلا بشكل غير مباشر، وهو أن العراقي لم يعد يهتمّ كثيراً حين توجه له شتيمة تقليدية على غرار «كس عرضك!». وهذا بحدّ ذاته تطوّر حضاري لا بأس به، إلا أنّ العراقي سرعان ما ترتعد فرائصه وتختض أطرافه، فيرعد ويزبد إذا قلت له: إنّك جحش بعثي، أو عميل للأجنبي، أو مختلس أموال، أو متلاعب في الدين، أو مغتصب للسلطة، أو نائب إرهابي، أو محرّض على القتل، وما إلى ذلك من قاموس التهم العراقية الشائعة. وعلى الرغم من ذلك كلّه فقد بدا لي الشاتم الكردي محظوظاً جدّاً، لأنّ الألمان في مطار دورسلدورف فتشوا حقائبنا وجيوبنا تفتشياً ألمانياً دقيقياً، ما يعني أنّه كان أكثر من صارم، فانتزعوا منّا حتى أقلام الرصاص وقناني الماء. ولو كان الشاتم فعل فعلته هذه في إحدى قصبات كردستان أو جبالها، لكان الموت أقلّ عقاباً له.
الوطن، اللاوطن
وصلت إلى مطار السليمانية في الساعة الثالثة والنصف فجراً، وكنت مطمئناً بأنّ هناك من ينتظرني عند بوّابة المطار. فبالتأكيد أنّ منظميّ المهرجان الأدبيّ، كلاويش، الذي دعيت إليه باعتباري كاتباً ألمانياً، أو عراقياً عربياً، قد أرسلوا من يستقبلني في هذه الساعة المبكرة. لكنني لم أجد أحداً في انتظاري، ولم أكن أعرف طريق الوصول إلى مركز المدينة، حيث الفندق. أخيراً أدركت بأنّ هناك سيارةً خاصة تقلّ المسافرين الواصلين إلى ساحة عامة، كانت بمثابة مكان الانتظار وموقف سيّارات الأجرة.
كان الطقس بارداً بعض الشيء في نهاية تشرين الثاني، وبدت الساحة الصغيرة معتمةً، ساكنةً، على الرغم من كثرة المنتظرين. وبعدما عثرت على سيارة أجرة تقلّني إلى الفندق اكتشفت بأنّ السائق لم يكن يفقه جملةً عربيةً واحدة، فاضطررت إلى الاتصال بصديقي الكردي المقيم بألمانيا، ليشرح للسائق مكان الفندق. كان السائق شاباً لا يتجاوز سنّه الخامسة والعشرين، ولم يكن يتكلم اللغة العربية، أو اللهجة العراقية، ولم يعرف الفرق بين المطر والمطار. فأدركت بأنّ الاستقلال السياسي والجغرافي لهذه المنطقة الكردية عن مركز الحكم في بغداد جعل الأجيال الجديدة، وبالأخصّ غير المتعلّمة منها، ومنذ عام 1992 تبتعد شيئاً فشيئاً عن اللغة العربية. وفعلاً، ومنذ وصولي إلى السليمانية، وطيلة أسبوع كامل أمضيته فيها، لم أر شاباً واحداً دون الثلاثين قادراً على التحدث باللغة العربية. لكنني، وفي المقابل، لم أر كاتباً عراقياً عربياً واحداً يجيد اللغة الكردية، أو يترجم عنها على الأقل. نعم رأيت بعض العرب يستخدمون بعض العبارات الكردية التي تعلموها أثناء إقامتهم في إقليم كردستان، لكنهم لم يطوّروا هذه المعرفة لتتحول إلى إداة للتواصل الثقافيّ.
كان مدخل الفندق معتماً، فلم انتبه إلى الرجل المسلّح الذي كان يحرسه، وقد جلس في قمرة خشبية صغيرة، لكنه لم يفتش حقيبتي ولم يسألني. وفجأة رأيت شيئاً ما يتحرّك في باحة الفندق المظلمة ويتلمس طريقه إليّ. كان موظّف الاستقبال الذي استقيظ ببطء من نومه، هادئاً بعض الشيء مطمئناً، فاستغربت من هدوئه، وسألته بلهفة فيما إذا كان هذا هو المكان الذي يبيت فيه ضيوف المهرجان الأدبي. فقال نعم، لكن ليس فيه مكان لي. ثم قلّب أوراق المدعوين، دون أن يقول شيئاً، ولعلّه لم يعثر على اسمي بينهم، وطلب منّي الجلوس في مقعد إلى أن يستيقظ الضيوف. فجلست حوالى ثلاث ساعات حتّى هبطت أوّل دفعة من الشعراء وفي مقدمتهم خالد المعالي، صديقي العتيد. فحلّت لحظة العناق، مع الآخرين أيضاً، بل حتّى مع من لم أكن قد رأيته من قبل، ولم أسمع باسمه. ونيست في ظرف ثوان ما شهدته يوم أمس ونسيت أنني لم أنم منذ يومين. ثمّ تناولنا إفطارنا الكرديّ معاً، الخالي من القهوة التي اعتدنا على احتسائها في ألمانيا أثناء الإفطار، واكتفينا بمسحوقها، والقيمر المحليّ اللذيذ الذي لم أذقه منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
لم أكن في الواقع حذراً تماماً من العراقيين الذين حلّوا ضيوفاً على المهرجان ولم أكن أيضاً متوجساً منهم لمجرد عدم معرفتي بهم وبماضيهم وعلاقتهم السابقة مع نظام صدّام ومهرجاناته وجرائمه. فضلاً عن أنّ معظم هؤلاء لم يكن معروفاً من قبل العراقيين أنفسهم المهتمين بالأدب والثقافة، أو على الأقل المنفيين منهم. وكان أغلبهم يعمل في مؤسسات الدولة العراقية الجديدة، دولة ما بعد صدّام، ويشرف على جريدة أو مجلة أو محطة إعلامية ناطقه باسم هذا الحزب أو ذاك. وعلى الرغم من محاولاتي العديدة في الاقتراب منهم والاطلاع على آرائهم في عراق اليوم وحكومته وظروفه الاجتماعية، لكنني لم أحصل في الواقع على شيء ذي قيمة؛ وكأنّ الذين سألتهم لم يأتوا مما يسمّى بالعراق العربي، من بغداد بالذات أو من المدن الجنوبية. فكانت الأحاديث تتسم بطابع عام، سطحي على الأغلب، لا يخلوا أحياناً من الجفاف وانعدام روح المرح أو حتى التفاؤل، ما عدا الحالات الاستثنائية النادرة ومنها أحاديثنا مع كاظم الحجّاج ومالك المطلبي وأحمد خلف وأحمد عبد الحسين والتي كانت تتخللها بعض الأفكار المثمرة.
وفي نهاية المطاف اتضح لي أنّ حالة القطيعة ما بين الداخل والخارج مازالت قائمة فعلاً، بل ازدادت عمقاً بعد سقوط نظام البعث. ولم يجعلني أيّ من أولئك العراقيين الذين التقيت بهم، وبالأخص أصحاب المسؤولية السياسية-الثقافية منهم، بأنهم مهتمون أصلاً برأب الصدع، أو حتّى بالإصغاء إلى ما يقوله المنفيون – ليس بالضرورة الإصغاء إلى شكواهم وخيبة أملهم بما حدث في العراق – إنما مكاشفتهم والاطلاع بعض الشيء على ظروفهم الحياتية ونشاطهم الثقافي خارج العراق. ولم يطرح أيّ منهم سؤالاً يتعلق بأوضاعيّ الشخصية على سبيل المثال، وقلقي على العراق الذي لم يعد على الأرجح وطناً لي، بل صودر منّي على المطلوب، والذي صادره كان من العراقيين أنفسهم قبل غيرهم للأسف الشديد. والاستثناء الوحيد هو أحاديثنا المسائية، أنا وخالد المعالي، مع الشاعر كاظم الحجّاج، ولقائي المثمر مع القاص والروائي أحمد خلف.
كان صديقي الذي دعاني إلى المهرجان أو الذي وقف وراء دعوتي إليه قد نصحني منذ البداية بالابتعاد، قدر المستطاع، عمّا هو عراقي محضّ وشائك، وأنّ أعدّ، عوضاً عن ذلك، مساهمةً حول أدب المنفى الألماني مثلاً. فاقتنعت بالفكرة وأعددت ورقة حول قضية الأدب الألماني في المنفى، ولم أذكر فيها اسم العراق إلا مرّة واحدة، وفي السياق العام للمحاضرة. وكم كان فرحي كبيراً بعدما رأيت القاص والروائي أحمد خلف يأتي إلى المنصّة ويطلب منّي أن أتحدث عن نفسي وعن منفاي بدلاً من الحديث عن الألمان ومنفاهم وأدبهم. فلاقت الفكرة ترحيباً حتى من مدير المهرجان، فخصصت جلسة خاصة بنا، نحن العراقيين العرب!، لنتحدث فيها عن أوضاعنا بجديّة ومكاشفة، فاقترحت أن يدير الجلسة صديقي خالد المعالي، لأنه كان مطلعاً على أوضاعي الشخصية والكتابية بشكل جيّد.
وفعلاً بعدما قدمني خالد المعالي، تحدثت قليلاً عن منفاي الذي استحال الآن إلى منفى اختياري نوعاً ما، وكدت استعيد تحية الشاعر النمساوي أرنست ياندل لضيوفه حين خاطبهم بالقول: اعزائي القتلة، لكن العبرة خنقتني، فأزاحت فوراً روح السخرية والجديّة معاً، ولم تبق لي سوى اللحظة العاطفية، بل المغرقة في عاطفيتها. وعندما تذكرت عبارة ابنتي سَكَينة التي لم تر وطنها ولا أيّ من أهلها في العراق، وكانت آنذاك تتكلم مع ابني يونس، فقالت له بحدّة وكبرياء: هل تعلم من أنا؟ أنا عراقية كريمة المحتد! وعندما ذكرت ذلك اختنق صوتي، فبكيت على المنصّة أمام أبناء وطني وبناته! فما كان من رئيس اتحاد أدباء العراق السيّد فاضل ثامر الذي كان حاضراً الجلسة إلا ويهتف قائلاً: ناولوه منديلاً ليجفف به دموعه!
لم يكن غرضي في الواقع أن أطلع العراقيين الحاضرين على نفسي وكتاباتي ومعاناتي، بل أردت أن أمدّ لهم يدي، في محاولة لإنهاء حالة الفرقة والخصام بين أدباء الداخل والخارج، لا سيما وأنّ ما يسمّى بكتّاب الداخل لم يبادروا يوماً ليمدوا لنا، هم أنفسهم، يدَ المصالحة، ناهيك عن الاعتذار عما بدر منهم قسراً أو طواعية في ظلّ نظام البعث. فبدا لي الكثير منهم في تلك اللحظة مثل موظفين صغار في نظام منهار، وقد اغتنم بعضهم الفرصة للإيقاع بالآخرين، لعلّ شأنهم يرتفع في نظر الحكّام الجدد من كارهي الثقافة، بل كارهي حتى الإنسانية برمتها. وتجسد أماميّ وبصورة حسيّة قاطعة ذات المشهد الذي طالما كنت أخشى مواجهته هو: موت الثقافة الإبداعية العراقية، المحتضرة أصلاً بفعل الأنظمة الإرهابية التي مرّت على العراق منذ عقود طويلة.
أفول الشعر
وفي جميع أيّام المهرجان لم أقرأ قصيدة واحدة تشيء بالدفء والحرارة أو العمق الفنيّ أو الفكري أو اللغوي، ولم ألمس أي جهد أو عناء في صياغتها، بل رأيتها كسيحةً، فاقدةً للشكل والمحتوى معاً، وفقيرة الصورة، بل مفككة لا أثر فيها للصورة والصوت، إنما جاءت شاحبة، جدباء، نضب عنها ماء الحياة؛ هذا ما يتعلّق الشعر العربي. وكذلك الحال مع الشعر الكردي المترجم إلى العربية والذي رأيته لا يقلّ جفافاً عن شقيقه العربي. وبسبب حالة اليأس التي أصابتني سألت شاعراً كرديّاً كان قد نشر للتو قصيدة باللغة العربية في دوريّة المهرجان، لكنني لم أفهم منها شيئاً، فسألته: فيما إذا كان هذا هو أسلوبه الشعري المعتاد؟ فقال لا، بل هو أصعب من ذلك بكثير، وإنّ هذه القصيدة هي أشدّ قصائده بساطةً على الإطلاق. فقلت له إنّني أفضّل في هذه الحالة أن أقرأ كتاباًَ فلسفياً أو فكريّاً لهايدغر أو هيغل على سبيل المثال، بدلاً من الشعر الكردي، إن كان وضعه مثلما وجدت في قصيدتك، فقال لي بجديّة بأنّه في الواقع هايدغريّ النزعة!
ولم تكن المداخلات أو «المخارجات» التي قدمت في أيّام المهرجان، على وزن الدواخل والخوارج، بأفضل حالاً من ظاهرة العجز الشعري المتفشية الآن في العراق، إنما كانت مجرد استقواء وتكلّف لقول شيء عصيّ عن القول، لأنه غير مفهوم أو ناضج لدى القائل نفسه، فهو إنشاء لم يختمر بعد، بل لم تمسّه الخميرة الفكرية قطّ. مسكين حقّاً أنتَ يا بلداً منكوباً ومنهوباً ومجدباً أيضاً. فكيف لا تجدب وتحتضر بعد كلّ هذه العقود المديدة من الحروب والبطش والمجاعة؟ والتي لحقت بها فصول أخرى من الإرهاب الدينيّ والسياسي والاجتماعي و «ثقافة» الإقصاء والوصولية؟
إذاً هذا هو قدر العراقيين الذين ليس لهم الآن على الأقلّ قدر آخر سواه. وبالتأكيد أنّ الأوضاع الاستثنائية التي لم يشهد لها العراق مثيلاً في تاريخه الحديث جعلتهم يتمسكون بغريزة الوجود، دون وجود فعليّ، على أمل أن يأتي جيل جديد ينفخ في ثقافتهم الروح. وبتّ على قناعة بأنّ حالة الحرب، مهما كانت مدمرة، أو المجاعة، أو الإرهاب، لا يمكن لها قطّ أن تنهي الوطن، لكنّ هذا الوطن ينتهي ولم يبق له أثر إذا ما انتهت ثقافته ذات يوم. والعراق اليوم من ناحية ثقافية هو بلد قد لا يستحق أن نطلق عليه اسم الصحراء، لأن الصحراء تكون أحياناً حيّة ومتجددة، لكنه بالتأكيد بلد منخوب تماماً بفعّل التصحّر الروحي والأخلاقي.
الأكذوبة السياسيّة
وقبل أيّام قرات مقابلة مع السيّد أحمد الجلبي الذي لعب دوراً بارزاً في المعارضة العراقية سابقاً، فأقام علاقات متينة مع الدوائر الأمريكية المتنفذة وغير المتنفذة حتى أصبح هو نفسه لا يعترض على وصفه بأنه رجل الـ سي آي أي في العراق، فقال جلبي الذي حذف صاحب المقابلة لام التعريف ردّاً على السؤال:
«لكن حصلت حرب أهلية في العراق؟»، جاء فيه: «لا، ليست حرباً أهلية. تعريف هذه الحرب عندما تكون هناك حكومتان تتنازعان على قطعة الأرض ذاتها وكلّ يدعي شرعيته لها، في العراق لم يحصل ذلك. ما حصل هو قتال أهليّ على أساس طائفيّ، والحمد لله أنه تمّت السيطرة عليه، هذا حصل بتخطيط. هناك رسالة للزرقاوي أرسلها إلى الظواهري وضبطت في شهر آذار 2004، ذكر فيها أنّ أملهم الوحيد في النجاح بالعراق هو الإمعان في قتل الشيعة وإرهابهم لينتقموا من السنّة فيلجأ السنّة إلى (القاعدة) لحمايتهم من الشيعة، ونفذّوا هذه السياسية».
بيد أن الجلبي ارتكب في هذا التعريف خطأين فادحين، أحدهما جاء عن جهل، والآخر بدر منه عن قصد بغية التضليل. فتعريفه للحرب الأهلية بأنها نزاع بين حكومتين على قطعة أرض ليس صحيحاً قطّ، إذ أنّ جميع الحروب الأهلية المعروفة لدينا على الأقل، بدءاً من الحرب الأهلية الأمريكية ومروراً بالحرب الأهلية الأسبانية وانتهاءً بالحرب الأهلية اللبنانية، لم تقم على صراع بين حكومتين، ولم يكن الأمر له علاقة بالأرض أصلاً، إنما كان الأساس أيديولوجياً دائماً، وفكريّاً لا غير، بغض النظر عن الأهداف المعلنة، فهو أمّا بين جمهوريين
وملكيين، أو بين يساريين ويمنينين أو بين علمانيين ومتدينين، وهلّم جرّاً، وليس صراعاً على الأرض؛ لأن الصراع على الأرض هو دائماً صراع دينيّ، أي أنّه عقائديّ أيضاً من حيث الجوهر، لكنه يبقى دائماً دينيّ الطابع، إذ أنّ الدين أقرب الأيديولوجيات إلى التجارة بالدماء وحملات التطهير، بدءاً من حركة مارتن لوثر لإصلاح الكنيسة الكاثوليكية مروراً بحرب إبادة المسلمين في الأندلس، وانتهاءً بحرب البلقان. ولذا فإن الإبادة العرقية تكون دائماً أشد فتكاً من الإبادة الأيديولوجية التي تتمخض عنها عادة الحروب الأهلية، حتّى في روسيا أو الاتحاد السوفيتي في زمن ستالين. فالحرب الأهلية إذاً هي حرب أيديولوجية محض، ولست صراعاً على قطعة أرض مثلما يقول الجبلي. وما حدث في العراق ماهو إلا تطهير طائفي مطلق، أي أنّ ما حدث كان حرباً حوّلت العراق برمته إلى مناطق معزولة طائفياً تماماً، فلم يعد هناك وجود لسنّي في منطقة شيعية ولا وجود لشيعي في منطقة سنيّة. وبالطبع هناك استثناءات نادرة ومؤقته، وربما ستأتي اللحظة التي تنتهي فيها حتّى هذه الاستثناءات، فيحقق التطهير الطائفي انتصاره النهائي. ولسنا هنا بصدد ضرب الأمثلة على حروب الإبادة الطائفية التي شهدها العراق في العهود الماضية والحاضرة، ولعلّ نظرة واحدة إلى كتاب «أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث» لـ «ستيفن لونكريك» تكفي دليلاً على ما نقول. فنحن نشهد الآن حروب إبادة ذهبت ضحيتها وكالعادة، الأقليات الدينية الصغيرة، مثل الصابئة والآثوريين تماماً كما انقرض السومريون والبابليون واليهود من قبلهم. فليس أمام التاريخ مهمة أسهل من إبادة شعب برمته، لكن كلمّا اتسع حجم الإبادة ازداد الصمت عمقاً والشعب خوفاً، فيكثر الكذب والتدليس. ولعلّنا نستعين هنا بالزاهد العراقي محمّد بن عبد الجبّار النفري الذي قال ذات مرّة: «كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»!
بغداد الأسطورة تحتضر
أعود الآن إلى رحلتي من جديد: الشيء الجميل في مدينة السيلمانية هو أنّني رأيتها عامرةً بالمقاهي والحانات، ويمكن لك أن تحصل على كلّ ما تحتاج إليه من المشروبات الروحية، ومزّاتها، بل إنّك تجد في بعض الحانات ندلاً من النساء، وأودّ أن أقول هنا من السيّدات، وأتمنى أن تنتشر هذه الظاهرة الحضارية الرائعة في جميع أنحاء العراق، بما فيها النجف الأشرف.
لكن الوضع في بغداد التي زرتها فيما بعد، كان سيئاً تماماً، عدمياً بامتياز، فلم أجد حانةً أو خمراً، حتّى في مطارها الدولي، مع أنّ انتظار الطائرة استغرق عشر ساعات كاملة، أمضيتها في احتساء القهوة والشاي. ولعّل المسؤولين عن المطار أو في الحكومة العراقية، لم يدركوا إلى اليوم بأنّ الديمقراطية بلا خمر هي ليست فقط ديمقراطية ناقصة دستورياً، بل إنها الديكتاتورية بعينها، لأن الديمقراطية ليست موعظة أو لفظة معممين، بل إنّها كأس نبيذ قبل كلّ شيء. فالخمرة للإنسان العراقي كالصلاة للمؤمن التقيّ. وكيف يمكن أن يحتمل القتل اليوميّ المجانيّ دون خمرة؟
وعندما سألت البائعة في متجر المطار قالت بدهشة: «شنو عيني؟ عرق؟ لا عيني ما عدنا هيج شي!» فقلت لها «ليش عيني ما عدكم هيج شي؟» «عيني حرام، شنو يعني؟» فقلت في نفسي يائساً: (الله أكبر! القتل حلال والعرق حرام؟ النهب حلال والخمر حرام؟ الكذب باسم الدين حلال والتجلّي بالخمرة حرام؟ الذبح على الهوية والسؤال عن الخرطات التسعة وأقوال أبي هريرة والمجلسي حلال وعرق العراقي المتعب حرام؟)
ولأنني كنت أعرف في حالة الاعتراض على قول البائعة سأثير حفيظة من يذود عن حياض الدين، فأكون مارقاً وأنا مجرد رجل عابر ما جاء إلا ليودّع أمّه. ولو أنّ العراق دولة دينية فعلاً مثلما هي دول طالبان وإيران وآل سعود لرضينا ولو على مضض، لكنها دولة تتمسح ليس فقط بأذيال الدين وأسلابه، بل بطائفيته القائمة على فتاوي الذبح، فصار يُذبح حتّى بائع الجصّ في الثورة لأنه سنّيّ ويُذبح عامل البناء في المسطر لأنه شيعيّ. وخطر في ذهني آنذاك قول للشاعر الألماني هاينرش هاينه الذي أحرق الألمان النازيون أشعاره ثمّ أسقطوا تمثاله فيما بعد، وكان يعني في قوله رجال الدين المتزمتين:
إنهم يعظون الناسَ بشرب الماء،
لكنّهم يحتسون النبيذ سرّاً…
لكن ألمانيا تغيّرت الآن، ولم تعد دولة تسقط بالضرورة نصب مبدعيها، تغيّرت فعلاً لدرجة أنّني احتسيت النبيذ الأحمر ذات مرّة في الكنيسة علناً، وقرعت كأسي بكأس القسيس.
(كاتب عراقي مقيم في ألمانيا)