“حرّاس الهواء” لروزا ياسين حسن: الهامش سيداً
هيثم حسين
تسرد الروائيّة السوريّة روزا ياسين حسن، في روايتها «حرّاس الهواء»، تواريخ لندوب موغلة في الإيلام، على ألسنة عدد من الشخصيّات، التي تؤدّي أدواراً رئيسة في الرواية تتناسب عكساً، مع أدوارهم الهامشيّة والمهمّشة في الحياة الواقعيّة، تكون «عنات» الفاصل الواصل في ما بينها، تتّخذ دور مترجمة في السفارة الكنديّة في دمشق، تترجم آلام طالبي اللجوء، وقصصهم التي تتشابك في ما بينها، وتلتقي على هموم ومآسٍ يكون الاستبداد جذرها ونقطتها المركزيّة التي تنتج ما لا يمكن تصوّره من كوارث بحقّ الإنسان.
كما عنات في الأساطير البابلية هي الإلهة الأولى خالقة الآلهة والأكوان، يعود جذر الاسم إلى عنت، والعَنَتُ، بحسب ابن منظور، يعني دُخُول المَشَقَّةِ على الإِنسان، ولقاء الشدَّةِ؛ العَنَت المَشَقَّة، والفساد، والهلاك، والإِثم، والغَلَط، الخَطَأُ، والزنا، وأَعْنَتَه وتَعَنَّته تَعَنُّتاً: سأَله عن شيء أَراد به اللَّبْسَ، عليه والمَشَقَّة. والعَنَت. الهَلاك. وأَعْنَتَه أَوْقَعَه في الهَلَكة. كما أنّه بإضافة اللام على أوّله يصبح «لعنات»، ويصبح «أنّات» عند لفظه بالإنكليزيّة، كما يرد أكثر من مرّة في الرواية على لسان بيير، أو جوناثان؛ الموظّفين في السفارة الكنديّة. كأنّ الكاتبة أرادت من خلال التسمية أن تختصر جروح شخصيّتها الدهريّة، التي تدفع ضريبتها وضريبة من حولها، ومن تلتقيهم في حياتها أيضاً، رغم ما تحاول التمتّع به من حرّيّة، في التعامل والتواصل والتنقّل، كأنّما يتوجّب عليها الإيفاء باستحقاقات الاسم ومعانيه عليها، تلك المعاني التي تدور في فلك المعصية، والسير عكس التيّار، أو عكس المظنون، لتكون المعاني لعنات متواترة، تبدأ بموت الأمّ، وتزوّج الأب من الخالة الصغيرة، ثمّ الحياة الرتيبة، بعدها يأتي اعتقال الحبيب، تنتظر حبيبها المعتقَل سنوات، عندما يخرج، وبعد مدّة وجيزة، يتركها ويهرب إلى السويد، في حين ترفض هي الهجرة عن وطنها، تبقى معاندة، تسعى لتأمين حياة رغيدة لابنها القادم، حيث تكون عنات، حاملاً في الشهر الثالث، تضع مولودها الذكر في نهاية الرواية، في مشهد سينمائيّ، تتأزّم فيه الأحداث، يسقط والدها في نوبة قلبيّة، تجتاحها آلام المخاض، تكون وحيدة في المشفى، تصوّر الكاتبة من خلال عنات، حال المرأة عند الولادة بدقّة، حتّى أنّ القارئ يتخيّل صراخ الطفل وهو يصرخ صرخته الاحتجاجيّة الأولى في هذا العالم الذي يقحَم فيه..
تلتقي الراوية عنات، مع الروائيّة روزا، تتوحّدان، فلا يعود التلاعب بالسرد مجدياً، لأنّها تقرّ من حيث تدري ولا تدري بأنّهما مشتركتان في شعور الأمومة، المتحقّقة للروائيّة والمنتظرة للراوية، ذلك في الإهداء الذي أهدته إلى ابنها آرام، تقول فيه: «إلى آرام.. انتعل قلبي، وامضِ أنّى شئت!»، والذي يرد في السياق على لسان الشخصيّة المحوريّة، وهي تناجي وتناغي وترجو، عندما تقول: «أنتظرك بفارغ الصبر يا حبيبي.. يا صغيري الذي سألقي أمام قدميه كلّ أوقاتي، كلّ ذاكرتي، تاريخي، ولينتعل روحي ويمضي بها أنّى يشاء». ص30. يبقى الجوهر نفسه، مع تغيّر في الصيغة بين الأمر والمضارع، وتحوّر بسيط من انتعال القلب إلى انتعال الروح. هذا قد يشي بأنّ الراوية التي هي من خلق الروائيّة، تأخذ من خالقتها الكثير من مشاعرها، حتّى يبلغ اللبْس بالقارئ أنّه يصعب عليه التمييز بينهما، وقد يدفعه الفضول إلى التنقيب في حياة الروائيّة عن شخصيّاتها، وفي الشخصيّات عن بعض تفاصيل حياة الروائيّة.
تغيّر الكاتبة ضمير السرد، تتبادل الشخصيّات المواقع في اللعبة الروائيّة، قد تبوح الساردة بهواجسها وتوجّساتها وهمومها، وقد تفسح لها المجال لتتسلّم منها البوح، والنَّوْح أحياناً، كتلك الفصول التي يكون فيها السرد على ألسنة تلك الشخصيّات. تستهلّ عنات الحديث، ثمّ يكون تبادل في السرد، تنتقل من ضمير المتكلّم إلى الغائب إلى المُخاطَب، تتقاطع القصص التي تكون أروقة السفارة مبتداها، ولا تتحدّد لها نهايات ومصائر واضحة، تكون بمعظمها ضحايا أنظمة قزّمت الإنسان، في سبيل المحافظة على سلطاتها، وتدعيم تلك السلطات بإضفاء القداسة عليها..
عرضت الكاتبة مآسي بعض الأقلّيات التي تعيش في بعض الدول العربيّة والمجاورة لها، من العراق، إلى السودان إلى أفغانستان إلى السعوديّة… ووقوفاً وتوقّفاً في سوريا، من تلك الشخصيّات: عمانوئل جمّو الكلداني العراقيّ الذي زُجّ في السجن بعد غنائه بلغته الكلدانيّة في أمسية غنائيّة، فتحية زانا الكردية العراقيّة التي فقدت ذويها كلّهم في مجزرة قصف حلبجة بالكيماوي في عهد صدّام، والتي تقع ضحيّة سوء تفكير زوجها الذي يذبح أخته لأنّه يشكّ بعلاقتها مع أحدهم، ثمّ نقلت الكاتبة بالإحصائيّات حجمَ الجرائم المرعبَ الذي يكون زعم «الشرف» وراءها في كردستان العراق. هناك شخصيّة محمد عوّاد السودانيّ، الذي يقع ضحيّة الصراع الدائر بين النظام والجنوب، ويكون الشاهد الشهيد على مجازر مرتكبة بحقّ الآلاف، كذلك هناك زوجة السعوديّ مهاود، التي تعكس مأساة معظم النساء في السعوديّة، حيث يبلغ التهميش ذروته، إضافة إلى الإسبانيّة إيزابيل التي تبحث عن حياة سابقة، تعيش الماضي، يكون شريكها في ذلك والد عنات؛ حسن إسماعيل الذي يؤمن بالتقمّص، ويتأمّل عودة زوجته سنية التي تقمّصت إيزابيل..
القهر والهدر والقمع قواسم مشترك بين شخصيّات الرواية، تكون كلّها انعكاسات لبعضها في هذه الدولة أو تلك، أو وجوهاً متلاقية على أرضيّة الألم والهوان، الدواخل تحمل القهر نفسه، مع اختلاف في المظاهر، في الزمان والمكان.
كما انهمّت بمتابعة وتصوير حياة المعتقلين بعد الاعتقال، وكيف أنّ السجن شوّه أرواحهم، وخلّفهم أنقاضاً، لم يعد بمستطاعهم التأقلم مع الحياة التي وجدوا أنفسهم ملقيين في أتونها، مهمّشين بعدما كانوا الفاعلين الرئيسين فيها.. تمكّنت الكاتبة من تصوير ما يعتمل في صدور المعتقلين والمعتقلات، وكانت اشتغلت على ماضي وواقع وحياة المعتقلات في روايتها التوثيقيّة «نيغاتيف – من ذاكرة المعتقلات السياسيّات» 2008م، التي صوّرت فيها جوانب من مآسي وجرائم السجون..
قصص متشابكة
أثبتت الكاتبة بعض الحوارات التي كانت تجري بين بعض شخصيّاتها بالإنكليزيّة، ثم ترجمتها في الهامش، ما يدعو إلى الاستفسار حول جدوى كتابتها بالإنكليزيّة، هل لإضفاء مصداقيّة أكثر على جوّ الرواية؟ هل لكسر النمطيّة المقيّدة في الروايات؟ أم أنّ هنالك غايات أخرى، كما بلغ عدد الهوامش خمسة وخمسين هامشاً، منها ما هو ترجمة للجمل التي وردت بالإنكليزيّة على لسان إحدى الشخصيّات، ومنها ما هو توضيح أو ذكر مرجع، وهذا يقرّب الرواية من البحث أو الدراسة، أي يمارس مزجاً بين الأجناس الأدبيّة، أو ينظّمها في إطار الرواية التي بمقدورها احتواء مختلف الأجناس..
تسوح الكاتبة في عدّة مدن، كما تستجلب قصصاً متشابكة منها، تستحضرها، تقدّمها في حبكة مترابطة، ناسجة فصول روايتها، منتصرة للإنسان، معرّية السلوكيّات التي من شأنها تفتيت الأرواح قبل الأجساد، لا يبقى قاتل الروح مجهولاً في الرواية، لأنّ الكاتبة تفضحه، تنشر جرائمه وملفّاته على الملأ، بحيث يمكن تعديل بيت جبران الذي يقول فيه: «وقاتل الجسم مقتول بفعلته/ وقاتل الروح لا تدري به البشر»، حيث تساهم الكاتبة من جهتها بفضح جرائم قتلَة الأرواح، تُدَرّي البشر بهم..
لا يُستبعد أن تكون رواية «حرّاس الهواء»، ممنوعة في عدد من الدول العربيّة، ولا سيّما أنّها تتناول واقع وشؤون بعض الأقلّيّات التي تعيش في كنفها، فما قيل عن بعضها قد ينطبق على أخرى هنا أو هناك. ومن هنا ستكون مقروءة بقدر منعها. مع الانتهاء من قراءة الرواية نكتشف أنّ حرّاس الهواء، يتسلّون بالطواحين، ينثرون الهباء ويحرسونه، يطحنون الشعوب في رحى التقييد، يتمترسون خلف حُجُب لا تستر العورات.
«حرّاس الهواء» رواية تهمّش المستعظم، تعظّم المهمّش.. تجعل الهامش سيّد النصّ بعدما أريد له أن يكون مخلّداً أسيراً في المستنقع الذي أُجبر على البقاء فيه.
([) منشورات شركة رياض الريّس
السفير