الصحفي العراقي سلام الشماع يروي قصة احتجازه في سورية عبر رسالة للرئيس السوري
اضطررت اضطرارا ـ يا سيادة الرئيس ـ إلى توجيه هذه الرسالة إلى سيادتك، إذ كيف السبيل إلى الوصول إليكم وقد طلبت في أثناء احتجازي في مطار دمشق الدولي أن أقابل ضابطاً برتبة ملازم فما أفلحت.
أعرف تماماً أن سيادتك تحمل من الأفكار والطموحات والتمنيات لبناء سورية حديثة والنهوض بها وجعلها في مصاف الدول المتقدمة الكثير الكثير، ولكني أعي أيضاً أن الأدوات المتاحة أمامك لتحقيق ذلك كله لا ترتقي إلى مستوى تفكيرك وطموحاتك وتمنياتك، مما يعني أن ثمة الكثير من الخلل الذي تجاهد للتخلص منه تمهيداً لتحقيق ما تريد..
عرفت ذلك من خلال وجودي في سورية ثلاث سنوات على التوالي ومن تصريحات سيادتك التي لا تجد لها أحياناً مكاناً على أرض الواقع.. أعانك الله..
وللذين كاشفوني بتخوفهم من أن أشتط وأهاجم سوريا في ما سأكتب أقول لهم: إن الأمر لن يعدو أن يكون إشارة إلى سلبيات موجودة على أرض الواقع من المفيد أن تعالج، وكيف أهاجم بلداً ما انفككت أدافع عنه ولي بين أفراد شعبه الطيب أصدقاء وأحباب.
لأبدأ قصة احتجازي في مطار دمشق الدولي وسأرويها بالتفصيل متمنياً أن يكون لسيادتك الوقت الكافي لقراءتها فهي، كما أظن، لا تخلو من فائدة.
في يوم 12 تموز الماضي راجعت سفارتكم في مملكة البحرين المحروسة لغرض الحصول على فيزا للدخول إلى سوريا وقد طلب مني الموظف الجواز ومبلغ 19 ديناراً بحرينياً، وهو ما يعادل 2560 ليرة سورية، أو خمسين دولاراً، واعطيته المبلغ فطلب مني الحضور في اليوم التالي لتسلم الجواز مثبتة فيه الفيزا.
في اليوم التالي صباحاً اتصلت بي السفارة وأبلغني الموظف أن عليّ أن أراجع السفارة لاسترداد المبلغ الذي سلمته إليهم لأنه ليس بإمكانهم إعطائي فيزا، وعندما راجعت السفارة قالوا لي إن الموظف لا يعرف أنك صحفي، وليست لدى السفارة تعليمات تجيز إعطاء الفيزا للصحفيين..
وكيف العمل الآن؟
قال لي الموظف: بإمكانك الذهاب إلى المطار وسيعطونك الفيزا من هناك..
لم أشعر أن في الأمر شيئاً، خصوصا وقد قرأت قبل مدة قليلة أن سيادتك اصدرت أمراً الى جميع المنافذ الحدودية والمطارات السورية بتنفيذ امرك السابق بدخول الصحفيين العراقيين الى سورياً استثناءً من التأشيرة (الفيزا).
كما قرأت تصريحاً لنقيب الصحفيين العراقيين (مؤيد اللامي) انه تلقى اتصالاً هاتفياً من السفير السوري في بغداد السيد (نواف الشيخ فارس) أبلغه فيه بقرار سيادتك بفتح حدود سوريا أمام الصحفيين العراقيين.
وكان (اللامي) قد ثمن قراركم وعدّه خطوة متقدمة من سيادتك كأول رئيس عربي يأمر بفتح حدود بلاده امام الصحفيين العراقيين من دون عراقيل.
وبدا نقيب الصحفيين العراقيين متفائلا عندما دعا جميع الدول العربية والاجنبية لتقديم تسهيلات مماثلة للصحفيين العراقيين الذين يؤدون واجباً مهنياً مستقلاً.
هذا الكلام جعلني أشعر بالمضض والمرارة والألم بعد ذلك، فأين هذا الكلام مما حصل معي في مطار دمشق الدولي.
المهم، وجدت أن السفارة وضعت التأشيرة برقم 000564161 في جوازي وفيها رقم سمة الدخول 899 وهي صالحة من 12/7/2009 الى 12/10/2009 ولسفرة واحدة، ولكنها عادت وكتبت فوقها ملغاة.
توكلت على الله وحجزت على الخطوط الجوية السورية في الساعة الواحدة و20 دقيقة من يوم الجمعة 24 تموز الماضي ووصلنا إلى مطار دمشق الدولي قرابة الساعة الخامسة من فجر اليوم نفسه، وتوجهت إلى محل القادمين العرب في المطار فطلب مني الموظف المختص أن أراجع نافذة القادمين الأجانب، مما أثار استغرابي، ولكني ذهبت وما أن رأى الموظف جواز سفري وفحص محتوياته على الحاسبة حتى نهض من مكانه وطلب مني مرافقته إلى غرفة كان يجلس فيها شخص قال لي بأنني ممنوع من دخول سوريا، فطلبت منه أن يتصل برؤسائه ويستعلم منهم لثقتي بأن موقفي سليم ولابد أن خطأ أو اشتباها حصل معي، لكنه نظر إلى الحاسبة وقال لي: نأسف أنت ممنوع من الدخول لصالح فرع أمني.
وهب ـ يا سيادة الرئيس ـ أنني مطلوب لفرع أمني ألم يكن من الواجب أن يأخذوني إلى هذا الفرع لأتبين القضية بنفسي، ولطلبت منهم أن أقابل أي مسؤول في المطار فرفضوا وقالوا لابد أن نعيدك على الطائرة التي قدمت بها.
وتفضل اذهب مع الشرطي..
مسؤولون كذبوا على الخالصي
وهذه المرة أخذوني ـ يا سيادة الرئيس ـ إلى غرفة أخرى وطلب مني الشخص الجالس فيها أن أدخل إلى غرفة ضيقة قذرة فيها أرائك محطمة ومجموعة أشخاص من جميع الجنسيات وقالوا لي اجلس هنا.. ثم أقفلوا الباب وذهبوا.
كانت الغرفة لا تصلح للحيوانات: وسخة قذرة مزدحمة.. يا الهي ماذا فعلت لأعامل معاملة المجرمين؟..
نعم هذه الأمور تحصل في جميع مطارات العالم ولكن من مثلي يترك في قاعات الترانزيت فيها وإذا تأخر ينام على مساطبها أو يذهب إلى فندق الترانزيت إلى أن يجد حلا لقضيته، لا أن يحجر على حريته ويوضع في غرفة لا يغادرها إلى المرافق الصحية إلا تحت الحراسة ولا يأكل شيئاً إلا كما يشتهي الحارس وبالسعر الذي يطلبه، كما حدث لي ولغيري في مطار دمشق الدولي!!.
اللهم لا تمتحن عبداً من عبيدك كما امتحنتنا في ذلك المطار..
ناديت على الحارس وقلت له: هل أنا سجين، فنفى ذلك، فاستفسرت منه عن سبب وضعي وراء باب مغلق وما إذا كان بامكاني التفاهم مع أحد المسؤولين.. فتركني وذهب ثم عاد إليّ ليخبرني بأن بإمكاني المبيت في فندق الترانزيت في المطار ولكن على نفقتي، فوافقت من فوري، فاقتادني إلى الفندق ودفعت مبلغ 127 دولارا أجرة غرفة لا أوافق على استئجارها بعشرين دولاراً في الظروف الطبيعية، فقد كانت ببساط وسخ وأفرشة جهدوا ليظهروها نظيفة وفيها ثلاجة ليس فيها إلا قنينة ماء بقين صغيرة، وتقع إلى جوار غرفة تخزين المنظفات.
كان الوضع في الغرفة أفضل عموماً من المكوث في ذلك المحتجز السيء، ثم اكتشفت بعد ذلك أن المحتجز أفضل من الفندق، فقد بدأ الشرطة بممارسة هواياتهم بازعاجي بين مدة ومدة، فما أكاد أغفو حتى يأتي أحدهم ليدق عليّ باب الغرفة بعذر يختلقه.. كنت بالنسبة إليهم لقمة دسمة سائغة، فأنا قادم من بلد خليجي ولابد أني جيوبي ممتلئة، بالدولارات لا بالليرات.
جاء أحدهم ليسألني ما إذا أرغب بالعودة على طائرة ستنطلق إلى البحرين، فسألته ما إذا كانت هناك طائرة إلى تركيا أو عمان، فأجابني أن ليس باستطاعتي الذهاب إلى أي بلد قبل استحصال تأشيرة منه، وليس أمامي إلا الذهاب إلى العراق أو البحرين، وافقت على العودة إلى البحرين، فقال لي إن سعر التذكرة في الطائرة 340 دولاراً، فاستغربت لأني حصلت على تذكرة الذهاب والإياب بهذا السعر فكيف أدفع تذكرة إياب بهذا السعر، ولكني وافقت على أن أذهب معه إلى مكتب الحجز، غير أنه رفض ذلك وقال لي أن ثمة شخصاً يقف في مدخل الفندق هو الذي سينجز لي العملية، وذهبت معه إلى الشخص المقصود الذي كان يقف بارتباك شديد، فشعرت أن في الأمر لعبة ما، وما أن رفضت عرضه باصرار حتى اختفى من أمامي بين حشد المسافرين الذين كانوا في المطار.
وتبين لي أن هذا الشرطي عندما قدم لي عرضه بالعودة إلى البحرين لم يكن قد حصل على اذن من رؤسائه بذلك!!.
قضيت الليلة في الغرفة وتحدثت بالهاتف إلى بعض الأصدقاء، وفوجئت بهاتفي يرن وإذا المتحدث سماحة الشيخ جواد الخالصي وهو يرحب بي ويسألني عن المشكلة التي ما ان شرحتها لسماحته حتى قال لي إنها ليست خاصة بي وأنه يتابعها منذ زمن من دون أن يعلم أني سأقع فيها ووعدني بأنه سينقل أمري إلى المسؤولين ولابد أن يحصل لي على حل منهم.. فشكرته.
وقد تابعني سماحته طيلة فترة بقائي في محتجز المطار واتصل بجميع المسؤولين من دون أن يحصل منهم إلا على وعود قاطعة بحل مشكلتي، ولكن من دون أن تثمر تلك الوعود شيئاً.
والشيخ صديق قديم وهو ابن مدينتي ويعرفني جيدا، وأنا متأكد أنه لم يضع هذه الاعتبارات في ذهنه عندما انتخى لي، لأنه كان سيفعل ذلك مع أي عراقي يجد أنه في محنة، وقد حدث أن كلمته عن عراقي معي في المحتجز منع من الدخول أيضاً فأخذ اسمه مني وسعى له لدى المسؤولين الذين وعدوه ايضا بحل مشكلته من دون أن يصدقوا معه.
في اليوم التالي، دق الباب عليّ شرطي فانتزعت نفسي انتزاعا من الفراش وفتحت له الباب فطلب مني أن احمل حقيبتي وأغادر الفندق وأنزل معه إلى تحت.
فرحت كثيرا لظني أن جهود سماحة الشيخ الخالصي أو أحد الاخوان أثمرت عن حل لمشكلتي التي لا أعرف سببها، ولكن الشرطي قادني إلى ذلك المحتجز السيء وطلب مني أن أبقى فيه.
إلى المساء بقيت في ذلك المحتجز السيء الذي كانت الوجوه تتغير فيه كل ساعة، إذ تذهب وجوه لتأتي غيرها، وكان أصعب ما فيه أن تأتي وجبة من الحرس متشددة إذ لا تسمح بالذهاب إلى الحمام، وقد صرخ مواطن مصري بأن لديه مشكلة في المثانة وأنه يريد الذهاب الى الحمام، واستمر كذلك إلى نصف ساعة فأعطاه أحد الحرس قنينة ماء فارغة وقال له بأنه يمكنه التبول فيها، فكيف سيتبول في غرفة صغيرة مزدحمة؟!!.
ولم يذهب ذلك المصري المسكين الى الحمام حتى تبدلت وجبة الحرس وجاءت وجبة أقل منها تشدداً على السجناء المساكين من أمثالي.
وعندما جاء الليل أخذنا نسمع بكاء النساء وعويلهن في الغرفة المجاورة التي لا تفصلنا عنها إلا صفائح المنيوم وزجاج معتم، وكانت غرفة محتجزهن تفتح على الدوام، فالحراس كانوا على الدوام يستعرضون رجولتهم عليهن، وهكذا لم يغمض لنا جفن خصوصا وأننا إذا أردنا أن ننام فلا يمكننا ذلك إلا جالسين.
كيف يأكل معتقلو المطار وماذا يشربون؟
في اليوم التالي (25/7/2009)، اتصل بي أصدقاء كثيرون وبذل كل ما بوسعه من دون نتيجة تذكر.. اتصل بي سماحة آية الله العظمى السيد أحمد الحسني البغدادي ليطمئن عليّ، فيما استمرت جهود سماحة الشيخ جواد الخالصي الذي أبلغني أنه عقد اجتماعات مع مسؤولين رفيعي المستوى من أجل حل مشكلتي ومشكلة كل عراقي وقع في سوء الفهم هذا وشمله هذا القرار غير المنطقي وغير المعقول.. وكان في كل مرة يتصل بي يجعلني أتفاءل بقرب الفرج، لكن هذا الفرج كان لعقاً على ألسنة المسؤولين الذين يقابلهم، وبعد ذلك يكتشف سماحته واكتشف أن الوعود كلام في كلام وأن هؤلاء المسؤولين كانوا يجاملون الشيخ الخالصي لا غير ولا يصدقون معه القول.. وهذا أمر غريب أن لا يصدق مسؤول مع شخصية مرموقة مثل شخصية سماحة الشيخ، مما دفعني أن أقول لسماحته إن هناك من يمتلك ذكاءً غريباً في صنع الأعداء لسوريا، خصوصاً مع يقين الجميع أن الرئيس بشار الأسد يعدّ العراقيين ضيوفه في سوريا.
كان سماحة الشيخ الخالصي يعرف تماماً أني قدمت إلى سوريا لمواصلة فحوصات طبية وعلاجي على يد طبيب سوري ولطبع كتابي الجديد (الدكتور علي الوردي.. مجالسه ومعاركه الفكرية)، ورواية (غمرات العشق) للصحفي العراقي الكبير الدكتور عيسى العيسى الذي يقيم في دولة قطر والتي تجري أحداثها في بودابست وبغداد وعمان وبراغ للسنوات 1968 ـ 1972، والتفاوض لطبع الكتاب المشترك بيني وبين الدكتور حسين سرمك وعنوانه (تحليل شخصية الدكتور علي الوردي)، ولكن ذلك لم يحصل بسبب هذا المنع الجائر المتعسف الذي لم أجد له مسوغاً، وما زاد من متاعبي أن أدويتي بقيت في حقائبي التي أودعت في قسم حفظ الحقائب في المطار.
في هذا اليوم وهو الثاني الذي يمر وأنا رهين المحتجز في مطار دمشق الدولي كنا نذهب إلى الحمام لقضاء الحاجة والوضوء استعدادا للصلاة تحت مراقبة الشرطة وكأننا سنتمكن من الهروب وجوازات سفرنا وتذاكر الطائرة محتجزة لدى الأمن..
كنا نعطي المبلغ الذي يفرضه الشرطي لكي يأتينا بوجبة الطعام وكنا نعطي أكثر لكي نؤمن الطعام لأشخاص معنا لا يملكون النقود وقد مضى على الواحد منهم يومان من دون أن يذوق الطعام، كما كنا نشتري مياه الشرب بسعر 100 ليرة للقنينة الكبيرة وهو ما يعادل دولارين، ونستعمل هذا الماء للوضوء داخل المحتجز عندما يتشدد الحرس معنا في الذهاب الى الحمام..
كان إذا بقي لدى الشرطي مبلغ لك من شراء الطعام والشراب فإنه يتغافل ولا يرجعه إليك، وهذا بالإضافة إلى ما حصل عليه أصلاً، ولا تسل عن الحال عندما نكلفهم بتحويل بعض العملات التي نحملها الى الليرة السورية، وقد تذكرت ما كتبه عباس الخوئي في كشكوله في موقع كتابات (الحلقة 33)، التي كانت تحت عنوان في سوريا، واصفاً مثل هذه الحالات.
يقول الخوئي: (الخوة، أي الابتزاز بالقوة، إذ أنّ المال الذي يؤخذ ابتزازاً إذا اشتكى المبتز يحاسب كمفتري أو كمرتشي فيسجن البريء وتطلق الحرية للمسيء، فإنّ الخوة والرشوة تقلب الأمور.. ثمّ أنّه من ناحية أخرى فالحالة المالية المستغلة تؤدي إلى سيطرة الغاصب على أموال أو عقارات من دون وجه حقّ، سواء كانت خاصّة أم عامّة، يضاف إلى ذلك الفساد في البلديات والدوائر المالية والعقارية ودوائر الأمن والشرطة والهجرة.. فالابتزاز أشدّ وأقسى وللمثال: فإنّ ظاهرة مخجلة هي أنّ معظم عناصر شرطة المرور في المحافظات كلّها يمدون أيديهم في الشوارع ليتسلموا 25 ليرة وخاصّة في الصباح، ويخالفون السواق من دون حقّ لابتزازهم بمبالغ قد تصل إلى أكثر من ألف ليرة سورية.. وإلاّ غرموهم بقيمة المخالفات الوهمية. أمّا في المخافر فالمأساة أسوأ وكثيراً ما يسجن المشتكي ويعامل المشتكى عليه كصاحب حقّ).
وما لم يذكره الخوئي أن سيارات كثيرة تعمل في شوارع سوريا يملكها ضباط شرطة مرور وأفراد من الشرطة السورية.
وإني لألتمس من سيادة الرئيس الاطلاع على ما كتبه الخوئي، إذا لم يكن قد اطلع عليه إلى الآن، ففيه معلومات دقيقة ونصح كبير وكلمات مخلصة.
ولكن (لو خليت قلبت)، كما يردد العراقيون، فقد وجدنا رقيب أمن اسمه طارق الشمالي كنا نفرح إذا أمسكت وجبته واجب الحراسة علينا، فهذا الرجل كان يرفض أن يأخذ منا ليرة واحدة، وكان يقول: كنت أتمنى أن يكون لدي ما يكفيني ليكون طعامكم وشرابكم من جيبي الخاص، وعندما كنا نرسله لتحويل العملات، كان يأتينا بإيصال رسمي من البنك، ولاحظنا أن أسعار الطعام والشراب كانت تنخفض عندما يأتي بها هو، ولم يكن الرقيب طارق يعتذر عن تنفيذ طلباتنا مهما كثرت، ولا أظن أنه الوحيد بهذا السلوك بين أفراد الشرطة في سوريا، ولكننا للأسف لم نجد غيره سلك معنا هذا السلوك.
هذا العراق سينهض فبأي وجه ستقابلون العراقي وقتها؟
اتصلت هذا اليوم، وهو اليوم الثالث لي في هذا المحتجز السيء، بالزميل مؤيد عبد القادر لأشكره على جهوده التي بلغني نبأها في حث الآخرين على إنهاء احتجازي وإدخالي إلى سوريا لمواصلة علاجي وطبع كتابي، وكان الزميل مؤيد عندما اتصلت به يبذل جهداً هو وعراقي آخر نبيل، ولكنهما لم يتوصلا إلى نتيجة.
وفي هذا اليوم تناهى إلى علمي أن سبب منعي من الدخول إلى دمشق هو أن إحدى الصحف نشرت قائمة بأسماء المطلوبين لجهة ايرانية وأن السلطات السورية منعتني من الدخول حفاظاً على حياتي من أن أغتال على أراضيها، وأنها منعت كل من ورد اسمه في القائمة المذكورة.
وطبعاً أنا لا أستغرب مثل هذا الكلام فقد تصدر اسمي قوائم تصفيات جسدية كثيرة أصدرتها جهات عديدة تشترك في ولائها لإيران، إلا أن المستغرب له هو أن تكون سوريا عالمة بأن فرق موت تنشط على أراضيها من دون أن تعمل شيئاً للقبض عليها..
لم يتأكد هذا الاحتمال لدي حتى كتابة هذه السطور..
لكن هناك من قال: إن سبب منعي هو أني كانت لدي إقامة في سوريا وأني تركت الأراضي السورية من دون إخبارها.. وهذا غير صحيح لأني خرجت كما يخرج عباد المقيمون في سوريا، إذ راجعت دائرة الهجرة والجوازات في البرامكة وسحبوا مني بطاقة الإقامة ومنحوني تأشيرة عودة لمدة ثلاثة أشهر أعود إلى سوريا بعدها إذا أردت الإبقاء على إقامتي وكان رقم تأشيرة العودة (47453) في 14 كانون الأول 2008 إلا أنني لم أستطع العودة.. وهذا لا يستوجب المنع، بل إسقاط حق الإقامة على الأراضي السورية.
لكن تفسيراً آخر تناهى إلى علمي لهذا المنع وهو أني كنت قد حصلت على تأييد من مختار منطقة الصناعة، وكنت أسكن فيها، وقيل أن هذا المختار ألقي القبض عليه بتهمة تلاعب ورشوة، وكل عراقي حصل على تأييده ـ إن كان هذا التأييد سليماً أم لا ـ عوقب بالتسفير إلى العراق والحجز، وهذا أغرب تفسير، إذ كيف تبعد دولة مواطنا من دولة أخرى لجأ إليها، وكيف تسمح لدائرة من دوائرها أن تصدر مثل هذا القرار المجحف، في وقت يؤكد رئيسها حمايته لهؤلاء اللاجئين؟.
لدينا في العراق مثل شعبي في وصف من تذمّه مع أنك تستفيد منه، يقول: (مثل السمك مأكول مذموم).. والحقيقة أن العراقي أصبح ينطبق عليه هذا المثل بين بعض أهله العرب، ففي سوريا مثلاً ظهرت احصائية بينت أن العراقيين يأتون في الدرجة الأولى في حجم استثماراتهم في سوريا يأتي بعدهم اللبنانيون، وفي ذلك ما فيه من تحريك للإقتصاد الوطني، فضلاً عن المساعدات الدولية التي تحصل عليها سوريا بسبب هؤلاء العراقيين المهجرين.. ومع ذلك فلا أراك الله كيف يعامل العراقيون في سوريا؟..
إن العراق مثل أي بلد مرّ ويمرّ الآن في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد بسبب الاحتلال، ولكن قل لي هل سيتستمر هذا الحال هكذا ودوام الحال من المحال؟.
هذا العراق سينهض لا محالة وسيعود لاحتلال مكانته اقليميا وعربيا ودولياً، وكل عراقي واثق بهذا، فكيف سيقابل بعض العرب هذا العراقي وبأي وجه؟.
لم يحتج أحد للعراق يوماً إلا ووجده باسطاً يديه بالعون والمساعدات والإسناد من دون سؤال وبغير منة.. فلماذا عندما يقع العراقي في ضيق يعامل هكذا، علماً أنه حتى في ضيقه استفادت منه الدول التي وفرت له الملجأ الآمن؟..
أذكر أني قرأت، مرة، طريفة ذات مغزى للشيخ محمد رضا الشبيبي رحمه الله، الوزير في العهد الملكي في العراق ورئيس المجمع العلمي العراقي في حينه، وهي أن أحد الوزراء السوريين لجأ الى العراق اثر انقلاب قام في سوريا زمن انقلاباتها الكثيرة، وقصد الشيخ الشبيبي وكان يعرفه، فما كان من الشيخ إلا أن يستأجر له على نفقته الخاصة بيتاً يليق بهذا الوزير وعين له من يوفر له الطعام يومياً ويلاحظ احتياجاته، وقد مكث هذا الوزير قرابة السنة في ضيافة الشبيبي حيث حصل انقلاب آخر في سوريا عاد فيه هذا الوزير وزيرا في حكومة بلاده، فجاء الى الشبيبي وشكره على موقفه وطلب منه أن يعلمه إذا زار سوريا ليرد له الفضل والجزاء، فاعتذر منه الشبيبي، لكن الوزير ألح وأقسم عليه أن يفعل إذا حل في سوريا.
وعندما زار الشبيبي دمشق في طريق ذهابه إلى بيروت تذكر صديقه الوزير واتصل به، فسأله الوزير عن الفندق الذي ينزل فيه، واتفق معه أن يمر به بعد يومين لانشغاله بأعباء وزارته.. وفعلا جاء بعد يومين إلى الفندق الذي ينزل فيه الشبيبي وكان يحمل في يده كيساً لم يعرف الشبيبي ما به، وطلب منه مرافقته وخرجا من الفندق الى محطة السرفيس فركبا سيارة اتجهت بهما إلى الغوطة التي كانت مكتظة بالناس والعوائل..
يقول الشبيبي: أخذ هذا الوزير يمشي وأنا أمشي خلفه كالمغلوب على أمري إلى أن وجد الوزير شجرة ليس تحتها عائلة فأخرج من جيبه جريدة وفرشها على الأرض وأخرج من الكيس طعاما وضعه على الجريدة وقال لي: تفضل اغسل يديك..
فنظر إليه الشبيبي وقال له: والله أني غسلت يدي منذ أن رأيتك.
العودة إلى البحرين
في هذا اليوم، وهو اليوم الثالث لي في هذا المحتجز السيء، أفلحت في أن أغفو قليلاً لكن جاء من الشرطة من يوقظني من نومي ويصطحبني إلى غرفة قريبة أخذوا فيها بصمات أصابعي العشرة بجهاز الكتروني والتقطوا لي صورة، كما يفعل تماماً مع عتاة المجرمين، أو الذين يعرضونهم في برنامج (احذروا هؤلاء).
الحقيقة، أني فرحت وفكرت أن ذلك سيكون في صالحي فقد يكونون قد اشتبهوا معي ولديهم بصمات الشخص المطلوب لهم، والبصمات لا يمكن أن تتشابه إذا تشابهت الأسماء والخلق، ولكن فرحتي لم تدم إذ أعدت إلى المحتجز، الذي حل فيه عراقيان أنست بهما وكانا ضمن الممنوعين مثلي من دخول سوريا..
كانت لأحد العراقيين الاثنين اللذين حلا معي في المحتجز المليء بأشخاص من جنسيات مختلفة عربية وأجنبية، وهو طبيب أطفال، قصة مؤثرة، فهو شاب يحب بنتاً منذ اربعة عشر سنة واتفقا على الزواج قبل أن تذهب مع أهلها قبل سبع سنوات إلى السويد، وقد اتفقا على أن يلتقيا في سورية، فجاءت وجاء هو بالطائرة من بغداد، وقيل له إنك ممنوع من دخول سوريا منذ سنة..
وعبثاً حاول هذا الطبيب الشاب أن يفهمهم أنه كان في سوريا قبل شهر فكيف هو ممنوع منذ سنة، وأنه أنهى دراسته الجامعية في سوريا.
ولكن ممنوع يعني ممنوع على لسان الأمن.
وعبثاً أيضا حاول أن يلتقي أحد الضباط المسؤولين عن المحتجز ليتفهم ما عدّها مأساة، فلا تفصله عن الحبيبة إلا مسافة قصيرة جداً..
وهذا الشاب أوصل سماحة الشيخ جواد الخالصي مشكلته إلى مدير الهجرة والجوازات ووعده بأ ن يحلها… ولا نتيجة، إذ أعيد إلى العراق من دون أن يقول له أحد ما ذنبه وماذا جنى، ولِمَ تمنع السلطات السورية لقاءه بحبيبته؟
لقد تأثرت بقصة هذا الشاب وطلبت من رقيب شرطة أن يأخذه لمقابلة حبيبته التي يمكن أن تأتي إلى المطار، ولكن رقيب الشرطة قال إن أحداً لا يمكنه أن يفعل ذلك حتى الضابط المسؤول في المطار، على الرغم من أن مكان اللقاء المفترض كان على بعد أقل من عشرة أمتار!!!.
أردت أن أهرب مما أنا فيه من هم وحيرة، فما وجدت أمامي إلا الانشغال بقراءة ما مكتوب على جدران المحتجز فوجدت أن هناك من قضى أشهرا فيه وترك مذكراته على الحائط فهانت مصيبتي أمام مصيبته.
كتب أحد المحتجزين بيت الشعر القائل:
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
وكتب آخر مثلا يقول: (الدينار آخره نار والدرهم آخره هم)، ويبدو أن هذا المحتجز كان يريد أن يغمز الحراس في المطار الذين حاولوا أن يأخذوا منه شيئاً لا يملكه.
وكتب آخر، يبدو أنه جزائري: (عاشر الأسد لو ياكلك ولا تعاشر النذل اللي غدر بيك…. الجزائر بلاد الحرية).
وآخر فلسطيني كتب: (سجين فلسطين لجأ إلى سوريا بسبب الحصار على غزة.. سجن في 8/5/2009 علشان تهمتي فلسطين والله يساعد اللي يدخل بعدي للسجن).
هذا الفلسطيني هو الوحيد من كتب ما يسلي من نزل بعده في هذا المحتجز ويعزيه.
وقرأت مجموعة من الأدعية أيضاً كلها تتوسل بالله سبحانه وتعالى أن يفك حجزهم وسجنهم.
هذا المحتجز يدخله يومياً أكثر من أربعين عربياً وأجنبياً يومياً لذلك استغربت وأنا أقرأ تصريحاً لدولة رئيس مجلس الوزراء السوري المهندس محمد ناجي العطري في صفحات جريدة سورية وصلت إلينا في المحتجز يقول فيه بأنه يأمل أن يصل عدد السياح الذين سيفدون على سوريا هذا العام إلى ستة ملايين سائح.. فكيف تفد هذه الأعداد من السياح إلى بلد يعتقل الفرد من دون سبب أو بالخطأ والاشتباه أو لأمور لا تستوجب الاعتقال.. وكيف يأمن المرء على نفسه، وإذا كانت سوريا الحبيبة تتمنى أن تستقبل هذه الاعداد كلها فإن عليها أولاً أن تعالج هذا الخلل في أجهزتها الأمنية كما يريد سيادة الرئيس بشار الأسد ويطمح.
قضيت يومي بالرتابة نفسها وباستقبال أنباء بالهاتف عن قرب حلول الفرج وأنباء أخرى عن فشل جهود من يحاول تخليصي من هذه الورطة، وفي ساعات الصباح الأولى غلبني النعاس فنمت لأصحو على صوت رقيب وهو يناديني ويدعوني لأحمل حقيبتي التي أحملها معي وأتبعه، وسألته عن حقائبي الأخرى التي فيها دوائي، فأخبرني أنها حملت إلى الطائرة التي ستعيدني إلى البحرين.
وأوصلني إلى الطائرة التي نقلتني إلى البحرين، وفيها استمعت إلى قصص عن سوء المعاملة من أشخاص مسافرين، حتى أن أحدهم قال إن كل من يدخل إلى سوريا ومن فيها ملعون، بدليل الحديث المروي عن النبي محمد (ص): لعن الله الراشي والمرتشي.. فكان ردي عليه المثل العراقي (لو خليت قلبت).
كان العديد من هؤلاء المسافرين قد تعرضوا أو عرضوا إلى مواقف مع الشرطة لا يمكن حلها إلا بدفع مئات أو آلاف الليرات السورية.
وفي المطار اكتشفت أن الرقيب كذب عليّ فحقائبي لم تحمل في الطائرة وكان عليّ أن انتظرها ثلاثة أيام أخرى، والحمد لله فقد كانت لدي في شقتي في البحرين أدوية بديلة استعملتها وإن لم تكن بكفاءة أدويتي التي في الحقيبة ولكنها قللت من آلامي شيئاً ما.. وكان هذه آخر ما استطاعوا فعله معي.
وأود أن أقدم شكري لوسائل الإعلام والمؤسسات الإعلامية والصحفية التي تناقلت خبر احتجازي وفي مقدمتها منظمة كتاب من اجل الحرية والمركز السوري للاعلام وحرية التعبير الذي اتصل به الزميل شاكر حامد ومرصد الحريات الصحفية وشبكة الاخبار الكردية وموقع الجيران التابع للجمعية العراقية الكويتية ومركز القادسيتين للدراسات والبحوث القومية، ووكالة الأنباء الوطنية العراقية (ونا)، وجريدة الدفاع وقنوات الجزيرة والشرقية والعراقية الفضائية ووكالة الانباء الوطنية العراقية وموقع كلنا شركاء وصحيفة الامة العراقية وكروب صيدلية بغداد، وكل من اتصل بي من العراق وأنحاء العالم ليطمئن على سلامتي، وكل من بذل مجهودا في سوريا من أجل قضيتي، وخصوصاً سماحة الشيخ جواد الخالصي وآية الله العظمى السيد أحمد الحسني البغدادي، وآخرين ربما أكون قد نسيتهم فالتمس منهم المعذرة.
هذه قصتي ـ يا سيادة الرئيس بشار الأسد أضعها أمام سيادتك ليس لغرض تعويضي عن الخسائر المادية والمعنوية التي تكبدتها، وإنما لتتعرف على بعض ما يجري للعراقيين الذين لجأوا إلى بلدكم بصفته قلعة العروبة الوحيد بعد احتلال العراق في 9/4/2003.
وأعتذر من كل من سببت له المتاعب، فقد نقل لي أن كل من سعى من أجل حل مشكلتي التي إلى الآن لا أعرف سببها، قد تعرض للمساءلة والعتب الشديد من جهات رسمية في سوريا.
وتبقى:
بلادُ العُربِ أوطاني مِنَ الشَّامِ لِبغدانِ
ومن نَجدٍ إلى يمنِ الى مِصرِ فتطوانِ
فلا حدٌّ يُباعِدُنا ولا دينٌ يُفرقنا
لسانُ الضاد يَجمعُنا بغسانِ وعدنانِ
بلادُ العُربِ أوطاني مِنَ الشَّامِ لِبغدانِ
سلام الشماع
كاتب وصحفي عراقي مقيم في البحرين حالياً
كتاب من اجل الحرية