ثورة مصر

الشارع العربي وانتفاضتا تونس ومصر

أكرم البني
أسابيع قليلة من عمر الثورة التونسية وأيام معدودة من عمر الانتفاضة المصرية ليسا بالوقت الكافي لاستيعاب هذين الحدثين وقراءة النتائج التي قد يخلفاها، لكن ومع رصد بعض الانفعالات والمواقف في الشارع العربي يمكن التجرؤ والقول إن هناك تغيرات معنوية وسياسية حصلت، إن في وجدان المواطن أو في وعي النخب وطرائق تفكيرها، وإن ثمة ملامح لصورة جديدة بدأت تتضح شيئاً فشيئاً، لا تزال غير نهائية لكن تستحق الوقوف عندها.
عموماً يمكن لكل مراقب أن يلحظ حالة من الفرح والترقب بين المواطنين العرب حول الراهن التونسي وقد أنجز خطواته الأولى في التغيير مع رحيل أركان الحكم السابق، وهي مشوبة بالقلق والخوف تجاه ما يحدث في مصر حيث الحكم لا يزال متمسكاً بمواقعه ولا يزال أفق تطور الأحداث مبهماً وقابلاً لشتى الاحتمالات، وأهمها اللجوء إلى القوة والعنف طلباً للحسم، أو تفكيك قوى التغيير وتراجع زخم الاحتجاجات بفعل مناورات النظام، أو توفير الفرص لمن يترصد هذه التجربة لتخريبها والارتداد عنها.
حتى وقت قريب كانت اللغة السائدة في الشارع العربي هي لغة اليأس والإحباط ممزوجة بمرارة البؤس والتردي، وما كان المواطن، الذي اكتوى بسنين طويلة من القمع وقهر الرأي الآخر، ليتجرأ ويغامر في كشف مشاعره والتعبير الصريح عن مواقفه تجاه ما يعانيه. لكن اللافت اليوم أن ما يجري في تونس ومصر شجع الناس على الاهتمام بالشؤون السياسية العامة والمجاهرة في انتقاد الأوضاع العربية القائمة ومثالبها، وخاصة لجهة تعرية أساليب القمع وإثارة قضايا الفقر والفساد، ولا يغير من جوهر الأمر استخدام التورية أحياناً كمن ينتقد الجارة كي تفهم الكنة.
من الملاحظ أن النتائج اليومية لتطور الأحداث في كل من تونس ومصر فرضت نفسها بقوة على مزاج الشارع العربي مع تشابه أوجه المكابدة والمعاناة، ولا يصعب على المرء أن يلمح في تعليقات الكثيرين مزيجاً من مشاعر الحماسة والإعجاب، بالتحول السريع للحراك الشعبي من شعاراته المطلبية، كتأمين رغيف الخبز وفرص العمل، إلى شعارات سياسية تتعلق بتغيير النظام القائم وضمان الحريات وحقوق الإنسان، وكأن الناس يؤكدون بأحاسيسهم وقلوبهم صحة ما ذهب إليه التونسيون والمصريون بأن التغيير في ميدان السياسة هو الخطوة الصحيحة التي توفر فرص نجاح عملية التغيير بأبعادها المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأن دعم الديمقراطية وقيم المشاركة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعدالة في توزيع الثروة، ما دامت النخب الحاكمة لا تستأثر فقـط بأشكـال ممارسة الحكم وإنما أيضاً بكيفية التصرف بالمال العام.
لقد هزت ثورة تونس وانتفاضة مصر، الصورة المرسخة في الشارع العربي عن نموذج الحكومات الأمنية التي لا تقهر وأظهرت فشل الأنظمة الشمولية في قيادة البلاد وإنجاز البرامج التنموية. ما شكل نقلة مهمة لتحرير الوعي الشعبي من خوفه المزمن ومن بعض الاختلاطات والتشوهات التي أعاقت تفاعله مع الفكر الديمقراطي، بما في ذلك إعادة الاعتبار لأولوية الإصلاحات السياسية وحيويتها، ولوجهة النظر التي تقول إن فكرة التنمية لم تعد تقتصر في عصرنا الحديث على البعد الاقتصادي وإنما تتسع لتتضمن دولة القانون وحقوق الإنسان والحريات، وبالتالي صار أمراً مألوفاً أن تسمع -بعد التطورات التي شهدتها تونس ومصر- عبارات متنوعة تربط التنمية بتحرير البشر وترفض عزل مسار النهوض الاقتصادي عن مبادرات ضرورية لضمان الحقوق السياسية للناس.
صحيح إن البحث عن كسرة الخبز هو عند الكثيرين أهم من الاهتمام بقضايا الحريات وحقوق الإنسان، لكن التونسيين والمصريين قالوها بصوت واحد بأن لا صحة للمعادلة التي طالما روج لها عن إشغال البشر في معاناتهم الاقتصادية لصرفهم عن هموم السياسة وأهلها، مؤكدين في حراكهم ومطالبهم خطأ الاعتقاد بأن الناس لا تشغل بالهم السياسة وأنهم لا يطمحون، ما داموا في حالة العوز والحرمان، إلى إحياء دورهم في تقرير مصائرهم والمشاركة في بناء القرارات التي تخصهم.
ما أثار إعجاب الشارع العربي وبدا كأنه مفاجأة كبيرة للجميع، هو موقف الشعبين التونسي والمصري من احتمال اندلاع اضطرابات وفوضى في البلاد، فثمة حرص شديد على عدم خروج الاحتجاجات والتظاهرات عن طورها مشفوعاً برغبة عامة وعارمة في أن تبقى سلمية وآمنة بعيداً عن العنف أو ما قد يزعزع الاستقرار. كما لو أن دروس التجربة العراقية حاضرة ويتمثلها التونسيون والمصريون جيداً، وكما لو أن هذين الشعبين يعيشان مخاض تحررهما وفي رأسيهما هاجس منع الفوضى والتوجس من حصول انفلات أمني يؤدي بالأوضاع إلى ما هو أسوأ. أو كأنهما يريدان وبضربة معلم، أن يطيحا المعادلة التي طالما روجت لها الأنظمة العربية بأن الأمن والتسلط هما بديل الفوضى والحرب الأهلية التي سوف يستجرها أي تغيير ديمقراطي.
إن مبادرة التونسيين والمصريين السريعة لإنشاء لجان أهلية وشعبية تضبط حالة الفلتان الأمني وتضع حداً للممارسات الغوغائية في مختلف أحياء المدن، وتالياً لإنهاء بعض المظاهر السلبية التي حصلت من سلب ونهب وحرق للممتلكات العامة، شكلت رداً حازماً على بعض المهولين الذين ما فتئوا يهزؤون من الشعوب التي لا تستحق الحرية.
ونضيف أن ما أثلج الصدور أكثر وطمأن القلوب هو غياب الروح الاستئصالية والثأرية وحضور إيمان عام بدور الدولة ومؤسساتها وبخاصة دور الجيش في عملية التغيير وأيضاً بتدرج هذه العملية، وكأننا أمام سيمفونية مشغولة بعفوية ودقة تعتبر حضور الدولة الديمقراطية هو شرط الحرية وغايتها وتتقصد تفكيك الأساليب الأمنية والتسلطية التي سادت في إداراتها ومؤسساتها بصبر ومثابرة، دون هدر فرص الاستفادة من بعض القوى التي كانت موجودة في الحكم ولا تزال نظيفة اليد للمشاركة بإدارة المرحلة الانتقالية. فإتقان عملية الهدم والبناء، تقضي بأن لا تؤخذ مؤسسات الدولة بجريرة أفعال السلطة وهي تضم آلاف الكوادر والخبراء ويشكلون جزءاً حيوياً من مقومات بناء المستقبل.
وأيضاً ما أثار اهتمام المواطن العربي وإعجابه هو الروح العالية من الإيثار والتضحية التي ميزت الشعبين التونسي والمصري في حراكهما، وكأن ثمة قفزة سرية أنجزت على عجل ونقلت الناس بعد سنوات من الاستسلام والخنوع، إلى ما صاروا عليه من تصلب وعنفوان دفاعاً عن كرامتهم وحقوقهم المهدورة، وليس في تكرار مظاهر حرق الجسد احتجاجاً، وتنامي أعداد المشاركين في التظاهرات على الرغم من سقوط العديد من القتلى والجرحى، سوى إشارات كبيرة تدل على ارتفاع منسوب الشجاعة والاستعداد للتضحية. وعلى روح عالية من الدأب والمثابرة في دفع عملية التغيير إلى نهايتها الطبيعية، أو على الأقل إلى عتبة آمنة تتحقق فيها حالة من القطع التام مع الماضي.
لقد فهم المواطن العربي الرسالة التي وجهها له التونسيون والمصريون، بأن لا مساومة مع الاستبداد، وأن الاعتراض على الوضع القائم يجب أن يبقى ساخناً حتى إرساء قواعد نظام ديمقراطي جديد، دون أن يقود ذلك إلى الإخلال بالأمن والاستقرار. ما يعني تصعيد الضغوط السلمية وبأشكال متنوعة، كالتظاهرات السلمية والاعتصام في الساحات العامة وغيرها، لانتزاع التنازل تلو التنازل من أهل الحكم.
منذ بداية التحركات الشعبية ظهر غياب دور الأحزاب، ولنقل ضعف فاعليتها في تحريك الشارع وقيادته، شعر الناس بعفوية الاحتجاجات وصدقية تطورها من دون قوى سياسية، ومن دون أيديولوجيات وشعارات مبرمجة، ومن دون شخصيات كاريزمية تتصدرها. وأبدوا تعاطفهم مع وجوه جديدة خرجت من بين الجموع وتقدمت الصفوف، متوسلة سلوكها التضامني وقدرتها العالية على التضحية، ما يشكل درساً بليغاً لكل المعارضات العربية، بأن لا مفر أمامها سوى الثقة بشعوبها وبطاقاتها الإبداعية الكامنة وقدرتها على تقرير مصائرها، ويوجه صفعة إلى الوعي الزائف الذي دأب على خلق شعور عام بقصور البشر ودونيتهم وبأنهم عاجزون عن اتخاذ القرارات السليمة دون أوصياء سياسيين على مصالحهم وحقوقهم.
الحضور الكثيف للأجيال الشابة في عملية التغيير وما لعبه فضاء المعلومات ووسائط التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت من دور رئيس في تمكين الشباب من تحسس همومهم المشتركة والحوار حول مشكلاتهم وسبل معالجتها، هما معلمان رئيسان دخلا كل بيت عربي بعد انتفاضتي تونس ومصر، فالفراغ الذي خلقه ضعف المعارضة الديمقراطية وقد أنهكها القمع الشديد والاضطهاد، وأغلقت دونها نوافذ التفاعل مع المجتمع، وفر فسحة لتقدم قطاعات هامة من الشباب المتحمس، كي تتقدم للحديث بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن الجموع حول الواقع البائس الذي تعيشه، مبدية حماسة كبيرة للتغيير وحساسية مرهفة للدفاع عن المتطلبات المعيشية وقضايا الحقوق والحريات، بعيداً عن الأيديولوجيات الكبرى وعن شعارات الهوية العريضة.
المعروف أن للشارع العربي حساسية خاصة من التدخل الأجنبي ويظهر عداء واضحاً للدور الخارجي في المنطقة مهما كان الرداء الذي يرتديه، لكن ثورة تونس وانتفاضة مصر قدمتا نموذجاً يحتذى حول قوى التغيير بدلالة الداخل ما أفقد الأنظمة العربية الذريعة التي طالما استخدمتها كمأخذ على دعاة الإصلاح السياسي والديمقراطية وهو الاستقواء بالخارج وارتباط أجندتهم بمشاريع أجنبية مغرضة.
لقد نهض الحراك الشعبي في كلا البلدين وتطور بأيادي أبناء البلد لا بيد زيد أو عمرو، حتى أن الخارج نفسه تفاجأ مما حصل واستغرب سرعة تطور الأحداث التي فاقت قدرته على ملاحقتها ومتابعة تداعياتها، إلى أن اضطر أقرب الداعمين لهذين النظامين في الغرب، أوروبا والولايات المتحدة، بداية بالخروج عن صمتهم، ورفض ما يحدث من قمع شديد في الشارع ثم التحول لدعم الاحتجاجات وحرية التظاهر وضرورة الإصلاحات السياسية والإشادة بشجاعة التونسيين والمصريين وحقهم في تقرير مصيرهم.
والنتيجة، إن رفض الإصلاح السياسي وتغييب حقوق الناس وحرياتها واستسهال قهرها وتجويعها لا بد أن يستجر ردود أفعال شعبية عفوية واسعة، تضع عملية التغيير على نار حامية، يزيدها حرارة اللجوء إلى القوة والعنف لمعالجة ما يحصل من احتجاجات. فآليات الاستبداد قد تتمكن مؤقتاً من ضمان السيطرة لكن النهاية واحدة هي العجز والفشل، والأمل أن يقنع الحدث التونسي من لا يزال يجد الجدوى في القمع والترهيب بأن هذه الأساليب قد تنجح في تأجيل ردود الأفعال المناهضة، لكن ربما كي تنفجر بصورة أكثر حدة وعشوائية.
أخيراً، لا يصح بالرغم من تشابه ما تكابده وتعانيه شعوبنا العربية، استنساخ التجارب والتغني بأمل تكرار ما حصل في تونس ومصر، فلكل مجتمع خصوصيته وطرائقه المبتكرة في خط طريق الإصلاح الديمقراطي، لكن يكفي هاتين التجربتين فخراً، أنهما أنعشتا الأمل بالتغيير وأزاحتا عن الصدور حالة قاتلة من اليأس والإحباط، وساعدتا في تنامي يقظة الشعوب ودرجة تحسسها لمصالحها، وقالتا بصوت واحد إن الديمقراطية صارت في مجتمعاتنا العربية أشبه بمسلمة لا خلاف على مشروعيتها وراهنيتها، وأن شرط تقدمها يحتاج إلى الارتقاء في المسؤولية والقدرة على التحرر من كوابح الماضي وبخاصة إنشاء وعي جديد يمتلأ ثقة بالناس وبدورهم في عملية التغيير ويأخذ هدف نصرة قواعد الحياة الديمقراطية كنافذة للخلاص من أزماتنا لا مجرد وسيلة لتحقيق مصلحة ضيقة أو هدف سياسي عابر.
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى