وجهة نظر صادق جلال العظم في العلمانية
صادق جلال العظم
-1-
تساؤلات حول الإسلام وأعدائه والديمقراطية والتكنولوجيا:
لقد أمضيت بضع سنوات من عام (1988 – 1993) في زيارة علمية طويلة للولايات المتحدة وأوروبا. وقد مررت أثناء هذه الزيارة ببعض التجارب وراكمت بعض الملاحظات حيث شاركت
– كمثقف ومفكر عربي وأستاذ جامعة – في عدد من المحاضرات والمناقشات والسجالات والندوات والحوارات والدروس والصفوف الجامعية حول قضايا العالم العربي تحديداً والعالم الإسلامي عموماً. ضمت هذه المشاركة الجمهور المعروف للمهتمين في الغرب بالعالم العربي والإسلامي من مستشرقين (وأستخدم التعبير هنا بمعناه الأفضل) ومفكرين ومثقفين وأساتذة جامعات ومختصين في الشرق الأوسط وخبراء في القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي وصحافيين مستنيرين، بالإضافة إلى الطلاب الجامعيين قبل مرحلة الليسانس وبعدها. في خضم هذه التجربة الخصبة جداً فكرياً والمثيرة ذهنياً والغنية علمياً كانت مجموعة من الأسئلة والتساؤلات تتكرر (بصورة صريحة أحياناً وضمنية في الأحيان الأخرى) على لسان كل الذين دخلت في حوارات معهم. وفيما يلي نماذج عن هذه الأسئلة والتساؤلات:
هل يمكن للإسلام أن ينسجم مع الحداثة؟
هل يمكن للإسلام أن يتوافق أو يتساوق مع العلمانية؟
هل يمكن للإسلام أن ينسجم مع الديمقراطية ويقبلها؟
هل يمكن للإسلام أن يتماشى مع العلم الحديث والتكنولوجيا المتطورة؟.. الخ الخ…
وسأقوم بمحاولة للإجابة عن بعض هذه الأسئلة والتساؤلات. ولهذا الغرض فقد اخترت للمعالجة مسألة الإسلام والعلمانية بصورة رئيسة والإسلام والديمقراطية بصورة فرعية وعلى سبيل المثال لا الحصر.
لكن قبل أن أشرح وجهة نظري في القضية وأقدم جوابي عن المسألتين المطروحتين لا بد لي من بعض الإيضاحات الأولية:
1 – قد يبدو للوهلة الأولى أنني أتناول موضوعي الآن عبر أسئلة وتساؤلات غربية وضمن سياق غربي خالص، أي أنني أتناول – على ما يظهر – أسئلة وتساؤلات، غير بريئة في كثير من الأحيان، يطرحها الغرب علينا نحن كعرب وكمسلمين (وأقصد هنا كمسلمين ثقافياً وحضارياً وتاريخياً بالدرجة الأولى) أحياء اليوم. لكن أحب التذكير بأن انطباع الوهلة الأولى خاطئ، لأن أسئلة من نوع هل ينسجم الإسلام مع العلمانية أو الديمقراطية أو العلم الحديث أو التكنولوجيا المتطورة إلى آخره؟ كانت وما زالت مطروحة على جدول أعمال التاريخ العربي الحديث وعلى جدول أعمال المفكر العربي الحديث وعلى جدول أعمال الثقافة العربية الحديثة منذ عصر النهضة على أقل تعديل وحتى هذه اللحظة، أو ربما منذ احتلال بونابارت لمصر سنة 1798 وحتى هذه اللحظة. ونحن نعرف بأننا كنا وما زلنا نصارع هذه الأسئلة ونتصارع معها ومع مشكلاتها الملحة وعواقبها الخطيرة وضغوطها الحياتية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي لا ترحم. نحن نحاول كذلك – منذ أيام الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي على أقل تقدير – بلورة الأسئلة إياها وصياغة الأجوبة المناسبة عنها، صياغة مجدية حياتياً وعملياً وتاريخياً وثقافياً وفكرياً في العالم الحديث.
2 – في إيضاحي الثاني لا بد لي من التأكيد مسبقاً أن أسئلة من نوع هل ينسجم الإسلام مع العلمانية والديمقراطية الخ؟ لا تقبل الأجوبة المباشرة البسيطة والتبسيطية والنظيفة والسهلة لأنها بطبيعتها ليست من متاع الروح اللطيف وحده، بل هي من متاع التاريخ الغليظ، أي أنها مستغرقة في علاقات القوة وتوازناتها الآنية والبعيدة، وفي الصراعات الاجتماعية التي تتفاعل مع مجتمعاتنا، وفي عنف صدام القوى المادية التي تتحرك وتُحرِّك في حياتنا وحولنا كذلك.
3 – أما في إيضاحي الثالث فأريد أن أبين المعنى الذي أستخدم به عبارتي الديمقراطية والعلمانية في هذا السياق. أقصد هنا الديمقراطية بأبسط معانيها، أي فكرة سيادة الشعب على نفسه وحكمه لنفسه بنفسه بغض النظر عن الشكل المؤسساتي والحقوقي والسياسي الذي يمكن أن تأخذه الممارسة الفعلية لهذه السيادة في هذا البلد أو ذاك، وبغض النظر عن التنوع الكبير الذي نجده في المجال التطبيقي والعملي والتنفيذي للفكرة الديمقراطية في فترات زمنية مختلفة ومراحل تاريخية متمايزة وظروف سياسية واجتماعية متقلبة. كما أقصد هنا العلمانية بأبسط معانيها أيضاً وأكثرها اتساعاً وأعظمها اقتراباً من الحدود الدنيا لممارستها ومن القواسم المشتركة الكبرى الجامعة بين تنوعاتها الكثيرة وتجلياتها المتعددة. تنطوي العلمانية بهذا المعنى على فكرة الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والطوائف والفرق الدينية الموجودة في مجتمع ما وبخاصة في المجتمعات التي توجد فيها أقليات دينية كبيرة وفاعلة ومؤثرة كما هي الحال بالنسبة لمسلمي الهند وأقباط مصر، على سبيل المثال لا الحصر. تعني العلمانية، بالتالي، الاستقلال النسبي للمجتمع المدني عن التحكم الرسمي به وبحياته العامة ومعاملاته ومبادلاته وفقاً لمبادئ دين الأكثرية وعقائده وشرائعه… الخ. كما تعني المساواة بين المواطنين جميعاً أمام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الإثنية كما تعني صيانة حرية الضمير والمعتقد للجميع.
4 – في إيضاحي الرابع والأخير أريد التأكيد أنه مع أني محورت تحليلاتي حول قضية العلمانية والإسلام ومشكلة الانسجام الممكن أو المحتمل أو المستحيل بينهما فإن المنطق الذي أعالج به هذه المسألة ينسحب ببساطة ويسر على الموضوعات الأخرى كلها التي تثار الأسئلة والتساؤلات حول قابلية الإسلام لاستيعابها والتعايش معها. بعبارة أخرى بالإمكان إحلال الحداثة أو الديمقراطية أو العلم الحديث أو التسامح الديني أو حقوق الإنسان أو حرية الرأي والتعبير وما إليه محل العلمانية في كلامي هذا المساء دون أن يؤثر ذلك في المنطق الكلي الذي يحكم معالجتي للقضية أو على المنهج العام الذي اعتمدته في تناولها أو في النتائج الأساسية التي توصلت إليها أو في الاجتهادات والتحليلات التي أعمل على طرحها أو تقديمها.
الإسلام وتوافقه مع الممارسات العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث:
الآن أرجع إلى السؤال الأساسي: هل يمكن للإسلام أن ينسجم أو يتوافق مع ممارسات مثل العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث؟ ما من مفكر عربي يعتبر نفسه وريث فكرر عصر النهضة وتطوراته وتراكماته إلا وسيجيب عن هذا السؤال بالإيجاب، أي بـ نعم المدوية. بإمكاني التأكيد هنا على العموم أن ورثة الفكر النهضوي العربي لم يجدوا في يوم من الأيام أي حرج حقيقي كبير في طرح هذه الأسئلة الصعبة على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم أو في الإجابة عنها إجابة تأكيدية واثقة من نفسها. بالنسبة للجيل الذي أنتمي إليه ومنذ أن كنت تلميذاً في مدارس وجامعات سوريا ولبنان (يومها كانت بيروت أقرب مدن بلاد الشام إلى دمشق ومرفئها الطبيعي كما كان السفر إلى بيروت من دمشق لا يختلف عن أي مشوار إلى بلودان) كان من شبه المسلم به – على ما أذكر – أنه ليس بين العرب وأشكال الحكم العلماني والديمقراطي الحديثة أي سور صيني أو مانع مبدئي باستثناء العبات المعرفة مثل الفقر والأمية والتخلف الاقتصادي والسيطرة الاستعمارية وكلها أمراض قابلة للمعالجة ومعوقات قابلة للإزالة.
مقابل ذلك كله نجد اليوم أن الاتجاهات الإسلامية الأصولية الراهنة تطرح أجوبة عن السؤال الأساسي نفسه من نوع آخر تماماً. أي أنها تجيب عن السؤال هل يمكن للإسلام أن ينسج مع العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث.. الخ؟ بـ لا مدوية وقاطعة ولا مشروطة. دعوني أضرب بعض الأمثلة من نصوص ومواقف وبرامج غير معروفة جيداً:
آ – كتب المنظر الأصولي الإسلامي صالح سرية ما يلي حول الموضوع الذي نحن في صدده وذلك في كراسه المعنون «رسالة الإيمان»:
«… إن الديمقراطية، على سبيل المثال، منهاج للحياة مخالف لمنهاج الإسلام. ففي الديمقراطية أن الشعب هو صاحب السلطة في التشريع، يحلل ويحرم ما يشاء… في حين أن الشعب في الإسلام لا صلاحية له في تحليل الحرام وتحريم الحلال ولو أجمع الشعب كله على ذلك، فالجمع بين الإسلام والديمقراطية إذن كالجمع بين الإسلام واليهودية مثلاً، فكما أنه لا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً ويهودياً في الوقت نفسه لا يمكن أن يكون مسلماً وديمقراطياً»(1).
وكما تعرفون جميعاً فإن صالح سرية حوكم وأدين وأعدم في مصر بعد محاولته الاستيلاء بالقوة على إحدى المدارس الحربية في منطقة هيليوبوليس قرب القاهرة في أواخر السبعينيات وذلك فيما تعارفنا على تسميته «بحركة الفنية العسكرية».
ب – ينص البرنامج السياسي الاجتماعي للزعيم الأصولي الأفغانستاني قلب الدين حكمتيار على ما يلي (ترجمت هذا المقطع من البرنامج عن الإنكليزية):
«إن الإسلام والديمقراطية لا يتوافقان أو يتماشيان مع بعضهما البعض، ستكون أفغانستان دولة إسلامية متشددة. ستقوم فئة من الرجال الحكماء بتكييف قوانين البلاد مع الإسلام وستحظر المشروبات الروحية كلها وتعود المرأة إلى البيت مجدداً ويتسلم الملاوات السلطة».
وكما نعرف جميعاً كان حكمتيار وجماعته أكبر المستفيدين من المال والعتاد والتدريب الأمريكي الذي قدمته له الـCIA والاستخبارات العسكرية الباكستانية بلا حساب أثناء المواجهة مع الاتحاد السوفياتي وجيوشه في أفغانستان.
جـ – مثال آخر: حين عزم الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق الشروع في تنفيذ برنامج لأسلمة البلاد وحياتها برر قراره بإلغاء الانتخابات العامة التي كان قد وعد بها شعبه عنه استيلائه على السلطة بإعلانه على الشعب الباكستاني أن هاتفاً ما جاءه في نومه ليعلمه بأن الإسلام والديمقراطية يتعارضان على طول الخط.
أما بالنسبة للعلمانية، تقول وثيقة رسمية لتنظيم الجهاد في مصر وعنوانها «صفحات من ميثاق العمل الإسلامي» ما يلي:
«والعلمانية – كما هو معلوم – تدعو لفصل الدين عن الدولة، وإلى تنحيته عن التشريع والحكم والسياسية، فتحصره في المسجد وعشنا وعاشت بلادنا ترزح تحت وطأة العلمانية كعقيدة وفكر، نظام وحكم. علمانية في التشريع والحكم، علمانية في القضاء، علمانية في التعليم والإعلام، علمانية تبثها أجهزة التثقيف والتوجيه، علمانية بغيضة دست علينا، وغرست قسراً في تربتنا فأنبتت هذه الأنظمة الجاهلة الكافرة التي تستبدل بشرع الله شرع الشيطان…»(2).
من ناحية ثانية يقول شكري مصطفى – مؤسس الجماعة الإسلامية المعروفة بجماعة التكفير والهجرة في مصر وأميرها – ما يلي عن العلم والإيمان والإسلام:
«ثم نعود فنقرر أن العلم الذي أجاز الله تعلمه للناس إنما هو على سبيل الحصر: العلم الذي يربطهم بالتكليف الوحيد الذي لم يكلفهم الله إلا به وهو عبادته وحده سبحانه. ونقول أن ذرة تعلم يقصد بها غير بلوغ هذه الغاية إنما هي ذرة خارجة عن العبودية… ويظن المحرفون للكلام عن مواضعه أن هذه الآيات (أي الآيات القرآنية التي تحض على طلب العلم) دلالة على الحض على التعلم من علومهم الدنيوية غير المتصلة بالعبودية، كذبوا، كلا، بل هي نهي عن التعليم إلا للعبودية وبيان للكون بأن العلم الزائد عن ذلك علماً يطغي به الإنسان إذ يرى أنه استغنى بهذا العلم عن ربه…»(3).
ويضيف شكري مصطفى مؤكداً:
«ولقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يختار خير أمة أخرجت للناس أمة أمية لا تكتب ولا تحسب… فبعد أن ثبتت نبوته (أي النبي العربي) كان في مقدوره أن يتعلم الكتابة والحساب لو كان في ذلك خير للعبادة والدين، بل لم نجد رسول الله يفتتح الكتاتيب والمعاهد لتعليم المسلمين الكتابة والحساب ولا خلفاؤه الراشدين من بعده.. وأيضاً ما وجدنا رسول الله ولا القرآن الكريم، يعنى بتعليم الطبيعيات والفلكيات والفلسفات والرياضيات الخ..»(4).
ولما طرحت المحكمة السؤال التالي على شكري مصطفى:
«إنما تريد المحكمة أن تعلم رأيك في تعلم الكتابة…»
أجاب المتهم بكل وضوح ودون أي وجل:
«يحرم تعليم الكتابة في الجماعة المسلمة إلا بقدر الحاجة العملية الواقعية لما يتصل بالعبادة، وتعلم الكتابة الزائدة حرام»(5).
د. صادق جلال العظم
من أبحاث الأسبوع الثقافي الثاني لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في جامعة دمشق
الهوامش:
(1) يجد القارئ أهم وثائق الجماعات والتنظيمات والحركات الأصولية الإسلامية الملحة في مصر منشورة – مع شروح ومقدمات وهوامش – في المجلدين اللذين أصدرهما الباحث الإسلامي رفعت سيد أحمد تحت عنوان: «النبي المسلح (1): الرافضون» و «النبي المسلح (2): الثائرون»، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1991. «رسالة الإيمان» منشورة في ج1، ص31 – 53. أما النص المنقول أعلاه فموجود في ص40.
(2) المرجع السابق، ج1، ص173.
(3) المرجع السابق، ج1، ص93.
(4) المرجع السابق، ص94.
(5) المرجع السابق، ص95.
-2-
إن أبرز ما لفت نظري في المناقشات والحوارات التي أجريتها في الغرب، هو الميل الواضح وشبه التلقائي للرأي العام الغربي المثقف إلى الاتفاق بصورة شبه كاملة مع الأجوبة الأصولية عن أسئلة من نوع هل ينسجم الإسلام مع العلمانية أو مع العلم الحديث أو مع الديمقراطية إلى آخره؟ بدلاً من أن يكون هذا الرأي العام الغربي المثقف أقرب إلى نوع الإجابات التي نجدها في فكر عصر النهضة ونجدها عند محمد عبده والكواكبي وأحفادهما، مثلاً، من مفكرين ومنظرين. تكونت عندي قناعة، إذن، بأنه لأن الغرب لا يريد أن يرى إلا الأسوأ في الإسلام، في هذه المرحلة على أقل تقدير، فإنه يميل تلقائياً ولا شعورياً تقريباً – عند طرح أسئلة حول الإسلام والديمقراطية والعلمانية والعلم الحديث – إلى النوع الأصولي الأسوأ من الأجوبة ويتحالف معها ويروج لها. أي أن الإسلام في التحليل الأخير لا ينسجم إلا مع نفسه. وأضرب لكم مثالاً بسيطاً على ذلك:
في سلسلة محاضرات حاشدة ألقاها مفكر ومنظر أوروبي كبير ومشهور هو Ernest Gellner – رئيس قسم الأنثروبولوجيا في جامعة كامبريدج في بريطانيا وأحد المختصين الأوروبيين البارزين في الإسلام الشمال أفريقي – ألقاها في جامعة برنستون أثناء وجودي هناك كأستاذ زائر عاد إلى تأكيد المقولات المذكورة أعلاه كلها بوضوح وصراحة يشكر عليهما. بالنسبة إليه، على سبيل المثال، Islam is inherently unsecularizable أي أن الإسلام لا يقبل العلمنة وما يرافقها بأي شكل من الأشكال. وعلى الرغم من الأسئلة الكثيرة التي انهالت عليه وعلى الرغم من النقاشات الحامية التي ولدتها محضراته بدا لي أن الجمهور المستمع كان يسلم معه تسليماً طبيعياً بمقولات من النوع الذي قرأته عليكم من اجتهادات الأصوليين. وهنا أريد أن أستعير عبارة لاتينية لتأكيد الملاحظة التي سجلتها: يبقى الإنسان الإسلامي الماهوي أو الـHomo Islamicus (على وزن Homo Economicus أي الإنسان الاقتصادي الذي طرحه آدم سميث كمقولة أزلية ثابتة لتفسير سلوك الإنسان الإنتاجي والاقتصادي في كل مكان وزمان)، قلت يبقى الـHomo Islamicus في اللاوعي السياسي الغربي على ما هو عليه في كل زمان ومكان ومهما كانت شروط التاريخ والمجتمع والاقتصاد الخ. والـHomo Islamicus عندهم هو ذلك الفرع من الجنس البشري الذي لا يتحرك ولا ينفعل إلا بقوة النصوص العتيقة (والنصوص الحديثة أحياناً كما بالنسبة لرواية سلمان رشدي «الآيات الشيطانية») والمعتقدات البالية والعقائد الميتافيزيقية الفائتة والشرائع البائدة، فكيف يمكن إذن لهذا الإنسان الماهوي الثابت دوماً وأبداً أن ينسجم مع أشياء حادثة وطارئة ومستجدة وتاريخية مثل الديمقراطية والعلم الحديث والعلمانية والتكنولوجيا المتطورة.. الخ؟.
من هنا كذلك ما لاحظته في اللاوعي السياسي الغربي من اختزال للحياة الفعلية المتنوعة والمعقدة للمجتمعات الإسلامية المعاصرة وتاريخها الطويل إلى الثقافة (بالمعنى الأنثروبولوجي العريض للعبارة والاتجاهات الثقافوية في الوصف والتفسير والتحليل والتعليل مستشرية في الغرب اليوم) ومن ثم اختزال الثقافة – بكل تفرعاتها وتعقيداتها وتكثرها – إلى الدين ومن ثم اختزال الدين إلى جوهر أزلي ثابت اسمه «الإسلام» لا يتحرك إلا حركة دائرية من نوع العود الأبدي أو حركة شبيهة بالمد والجزر، فهو يتقدم ثم يتراجع ثم يتقدم.. الخ، ومن هنا رواج نظريات عودة الإسلام وما يشبهها، وكأن الإسلام روح هيجلي يمتد وينتشر ثم يعود فينسحب ويتقلص. والمفارقة في الموضوع هي أن هذا الفهم الاختزالي الماهوي الغربي لحياة الإسلام يتطابق تطابقاً كلياً مع المقولات التي تطرحها الحركات الأصولية الراهنة عن الإسلام وطبيعته ومع المفهومات النظرية التي تستخدمها هذه الحركات في تفسيرها للإسلام التاريخي والحالي والمستقبلي.
إذن، نحن نقف الآن أمام الجوابين الكبيرين والرئيسين والمتناقضين اللذين أفرزهما القرن العشرون عن السؤال الأساسي الأول: هل يمكن للإسلام أن ينسجم مع العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث.. الخ؟ نحن أمام جواب أول هو جواب تيار الـ نعم الصريحة والواضحة والواثقة من نفسها من ناحية وأمام الجواب المضاد، جواب تيار الـ لا التي لا تقل صراحة ووضوحاً وثقة بالنفس عن نقيضها من ناحية ثانية. كيف يمكن أن نتعامل مع هذه المعضلة المستعصية أو مع هذا المأزق الذي يبدو أنه مأزق محكم الإغلاق؟.
مدى انسجام الإسلام مع الحكم الملكي في بيزنطة وفارس:
في محاولتي تقديم اجتهاد ما يتناول هذه المسألة أو في محاولتي شرح رأيي ووجهة نظري في هذه المعضلة وهذا المأزق سأبدأ بطرح سؤال من نوع آخر: هل كان الإسلام المساواتي البسيط الذي عرفته يثرب أو المدينة المنورة في عهد النبي والخلفاء الراشدين لينسجم مع الحكم الملكي الوراثي الذي كان سائداً في الإمبراطوريات الكبرى يومها، أي في بيزنطة وفارس الساسانية تحديداً؟ هل كان لذلك الإسلام القرآني – النبوي الأول والسهل أن ينسجم مع مؤسسات تلك الإمبراطوريات بتنظيماتها الهرمية الدقيقة وتراتيبها الطبقية المعقدة وبلاطاتها الباذخة وأنماط حكمها الملكية الاستبدادية المطلقة؟ قناعتي هي أن الجواب الواقعي والدقيق وغير التمجيدي وغير الاعتذاري وغير الأيديولوجي (بالمعنى السيء لعبارة أيديولوجي) يتلخص بالتالي:
عقائدياً وصراطياً الجواب هو لا، لأنه لا شيء في تعاليم الإسلام الأول والبسيط وعقائده يشير إلى قابليته للانسجام والتوافق مع هذا النوع من الحكومات الملكية الوراثية الإمبراطورية السائدة.
تاريخياً وواقعياً الجواب هو نعم، لأن كل شيء يدل على أن الإسلام انسجم وتوافق بسرعة مذهلة مع الحكم الملكي الوراثي الإمبراطوري المرفوض سابقاً.
أقول هنا، إذن، أنه ومنذ اللحظة الكارزمية المؤسسة للإسلام نحن أمام ما سأسميه بالـ لا الصراطية في وجه الحكم الملكي الوراثي الإمبراطوري من ناحية أولى، وأمام الـ نعم التاريخية لهذا النوع من الحكم من ناحية ثانية. ولربما مثل الخوارج، على سبيل المثال، الـ لا الصراطية الإسلامية النقية لتلك اللحظة أفضل تمثيل. كذلك مثل رهط من كبار الفقهاء والعلماء هذه الـ لا ذاتها حين عابوا على الخلافة الإسلامية تحولها من إمامة رشيدة عادلة إلى ملك عضوض يعمل ويتصرف كباقي الملوك في التاريخ والمنطقة. أما الـ نعم التاريخية فقد جسدتها الخلافة الإسلامية الفعلية كما نعرفها ونقرأ عنها في كتب التاريخ – هذه الخلافة الإسلامية الفعلية كما نعرفها ونقرأ عنها في كتب التاريخ – هذه الخلافة التي استوعبت عقلانية الواقع القائم وتمثلت ضروراته وموازين قواه في تلك المرحلة التاريخية فأعطتنا الـ Raison d’état الإسلامي على حد تعبير المصطلح السياسي الفرنسي الشهير. أما الـ لا الصراطية فقد جسدتها على العموم حركات المعارضة والمناوأة التي عج بها التاريخ الإسلامي بلا انقطاع.
أعود الآن إلى سؤالي الأول: هل يمكن للإسلام أن يتوافق وينسجم مع العلمانية والديمقراطية الخ؟ لأجيب، قياساً على ما أوردته أعلاه، بالتالي:
صراطياً وعقائدياً الجواب هو لا بالتأكيد.
تاريخياً وواقعياً الجواب هو نعم بالتأكيد.
وأريد القول هنا إنه على وجه العموم حيثما وكلما اصطدمت الـ لا الصراطية في التاريخ الإسلامي – مهما بدت هذه الـ نعم منحرفة ومبتدعة وخارجة عن الصراط الإسلامي المستقيم ليومها – فإن الميل العام لهذا التاريخ كان دوماً باتجاه انتصار الـ نعم التاريخية على الـ لا الصراطية إلى درجة كانت تقضي على الموقف الصراطي قضاء مبرماً في كثير من الأحيان إلى تهمشه تهميشاً قوياً في أحيان أخرى بإخراجه من ساحة الفاعلية التاريخية إلى أجل غير مسمى فتعيد بذلك تشكيل معنى الصراط المستقيم وتوازن قواها. بعبارة أخرى لا شك أن المسلمين الصراطيين والحرفيين والأرثوذكسيين والأصوليين عند مطلع الفتوحات الإسلامية كانوا على حق كلياً وقتها في إصرارهم أنه لا شيء في العقيدة الإسلامية الصحيحة لتلك اللحظة يمكن أن يجعل الإسلام القرآني – النبوي البسيط الذي عرفته المدينة المنورة والذي أشرف عليه الخلفاء الأوائل منسجماً مع الحكم الملكي الوراثي الإمبراطوري المعروف، لكن التاريخانيين هم الذين انتصروا وسادوا بنعمهم التاريخية على الصراطيين بلائهم الصافية النقية.
منذ احتلال بونابارت لمصر سنة 1798 أخذ الإسلام العربي وغير العربي يعاني مجدداً من المعضلات والتوترات والتناحرات التي يولدها ديالكتيك المجابهة بين الـ لا الصراطية والـ نعم التاريخية في مواجهة الحداثة والعلمانية والديمقراطية والليبرالية والاشتراكية والعلم الحديث والتكنولوجيا المتطورة.. الخ. ومرة ثانية يمكنني القول أن الميل العام للتاريخ العربي الحديث كان وما زال باتجاه انتصار الـ نعم التاريخية على الـ لا الصراطية. وما الحركات الأصولية اليوم إلا رد فعل قوي من جانب هذه الـ لا على الـ نعم التاريخية المتمثلة بمرحلة النهضة واليقظة العربية وعصر التنوير العربي والدولة الحديثة والتحديثية المستمرة وما نسميه الإسلام المستنير.. الخ، والنصوص الأصولية التي قرأتها عليكم وشبيهاتها شاهدة على ذلك. وبما أن المشكلات والتناقضات والصراعات التي أشرت إليها اختصاراً عبر الـ لا الصراطية والـ نعم التاريخية في تحليل هذا ليست من متاع الروح اللطيف، وفقاً لما ذكرت سابقاً، كما أنها ليست مجرد مسائل فكرية صافية أو مواقف ذهنية تجريدية أو اجتهادات فقهية صرفة، بل هي جزء لا يتجزأ من حركة واقعنا التاريخي المعيش ومن الاصطدام المادي لقواه الاجتماعية فإنها (أي المشكلات والعداءات والتناقضات الناجمة عن جدل الـ لا والـ نعم) تميل لأن تأخذ مجراها في حياة الإسلام والعرب عنفياً في أكثر الأحيان كما تشهد على ذلك الحروب الأهلية الإسلامية – الإسلامية بالإضافة إلى الثورات والتمردات والانتفاضات والفتن التي يزخر بها التاريخ الإسلامي نفسه.
الإسلام دين عالمي – تاريخي زرع نفسه على امتداد 15 قرناً تقريباً في مجموعة هائلة من الثقافات المختلفة والمجتمعات والمتنوعة والحضارات المتضاربة والدول المتصارعة: فيها القبلي والرعوي، وفيها الصناعي المتقدم، وفيها الزراعي، وفيها العبودي، وفيها الدولة المركزية، وفيها الدولة الهرمية – البيروقراطية، وفيها الدولة التجارية – الميركانتيلية، وفيها الملكية المطلقة، وفيها الجمهورية، وفيها الدولة – المدنية، وفيها الدولة القومية الحديثة، وفيها الدولة العلمانية وما إليه من أشكال الحياة الاجتماعية والسياسية والحضارية والثقافية التي عرفها التاريخ في حياة الشعوب والأقوام والإنسانية عموماً. ولو لم يكن الإسلام يحمل كدين عالمي تاريخي طاقة هائلة على التحول والتكيف والمرونة والتأويل والتفسير وإعادة النظر.. الخ، لما تمكن من الاستمرار والاتساع على النحو الذي نعرفه. وأرى على هذا الأساس واستناداً إلى هذه الاعتبارات أنه لا شيء يمنع الإسلام التاريخي الحالي من التوافق والانسجام، في التحليل الأخير، مع العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث وما إليه مع الاعتراف باستمرار وجود الـ لا الصراطية العقائدية وفاعليتها النسبية ولكن على الرغم منها.
عوامل تؤثر على رؤية المراقبين الغربيين:
من العوامل التي تشوش رؤية المراقبين الغربيين منهم والشرقيين بالنسبة لهذه المسألة في العالم العربي الحديث والمعاصر هو أن المجتمعات والدول العربية لم تشهد لحظة كمالية دراماتيكية عالية جرى فيها إعلان الصيغة العلمانية للدولة الجديدة والناشئة بصورة رسمية كما حدث عند ولادة تركيا الحديثة من رماد الحرب العالمية الأولى. وأقصد بصورة خاصة قيام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة الإسلامية سنة 1924. ولا أكتمكم هنا أنني حين أريد للمثقف الغربي الذي أحاوره وأتناقش معه في هذه المسائل أن يعي الصدمة التي ولدتها في العالم الإسلامي حينئذ أقول له حاول أن تتصور ماذا كان سيحدث عندكم لو أن أبطال الوحدة الإيطالية قاموا بإلغاء الكرسي الرسولي من الوجود بعد تحريرهم في 1871 المقاطعات الإيطالية الخاضعة لحكم البابا وقتها وضمها إلى الدولة القومية الإيطالية الموحدة الوليدة يومئذ بدلاً من الاعتراف بسيادة البابا على حاضرة الفاتيكان والإقرار بزعامته الروحية لكاثوليك العالم في كل مكان وزمان؟ ومعروف أن مصطفى كمال فكر باللجوء إلى مثل هذا الحل التصالحي على الطريقة الإيطالية سنة 1922، لكنه رفضه في التحليل الأخير لصالح الإلغاء الجذري للخلافة ليضع حداً لكل مطالبة مستقبلية بالعرش وليقطع الطريق نهائياً على حركات الاستعادة التي لا بد من أن تظهر في تركيا نفسها قبل غيرها.
بالمقارنة مع النموذج التركي فإن الـ نعم العلمانية التاريخية العربية جاءت بطيئة، غير رسمية، تكيفية، براجماتية وتدريجية، مليئة بالخطوات المتعثرة والمترددة وبالحلول الوسط وما يسميه الأمريكيون بالـ Marriages if convinience وما يسميه الفرنسيون بالـ Marriage de raison ولكن بلا أية لحظة دراماتيكية عالية على الطريقة الكمالية التركية. كان بإمكان الرئيس جمال عبد الناصر، في نظري، الإقدام بنجاح على مثل هذه الخطوة الكمالية الجريئة في لحظة تأميم قناة السويس، لكنه لم يفعل ذلك ولذا جاءت اللحظة الدراماتيكية العربية في رد الفعل على ذلك كله والذي أخذ شكل الأصولية الإسلامية والإحياء الديني الإسلامي والتمرد الأصولي المسلح.. الخ. جرت الأمور على هذا النحو، على ما يبدو لي، لأن تركيا كانت مركز الإمبراطورية القديمة في حين كانت الولايات العربية هي البقية الباقية من أطرافها. وبتحديد أكبر كانت حركة الإصلاح العثماني الكبرى المعروفة باسم التنظيمات (أو البريسترويكا العثمانية إن شئتم) والتي بدأت نحو سنة 1830، كانت هذه الحركة أقوى بكثير بالنسبة لإنجازاتها (وأقوى بكثير بالنسبة لإخفاقاتها) في الولايات العربية الطرفية. لهذا تمكنت تركيا من محاربة خصومها بنجاح وجدارة في اللحظة الحاسمة وتمكنت من إنقاذ نفسها من الاحتلال والتجزئة والسيطرة الاستعمارية المباشرة في حين وقعت الولايات العربية الضعيفة فريسة هذه الشرور كلها.
ضرورة استمرار صيرورة التصالح والتكيف
بين الإسلام التاريخي والعلمانية والديمقراطية:
أحب أن أؤكد أنه في رأيي أن استمرار صيرورة التصالح والتكيف بين الإسلام التاريخي والـ نعم التاريخية للعلمانية والديمقراطية والحداثة والعلم الحديث وما إليه وفي مواجهة الـ لا الصراطية الأصولية لا يشكل اليوم مجرد وجهة نظر أو اختيار بالمعنى العادي للعبارة، بل هو مسألة حيوية إلى أقصى الحدود وضرورة وجودية لنا إذا كان لبعض البلدان العربية، على أقل تعديل، ألا تمزق نفسها على غرار النموذج المأساوي اللبناني. في الواقع إن النتائج المترتبة على عدم التعامل بجدية كاملة مع الـ نعم التاريخية للعلمانية والديمقراطية عربياً في هذه المرحلة هي أبشع من أن نعقلها. فكروا قليلاً بالهند، مثلاً، وهي محكومة من جانب قوى هندوسية أصولية متعصبة تقوم بتعبئة الطاقات الشوفينية والدينية للأكثرية الهندوسية من أجل مواجهة الأقلية المسلمة في البلاد والتعامل معها بخشونة من جهة ومواجهة الجار المسلم الكبير بالطريقة ذاتها من جهة ثانية. ستكون النتائج كارثية بلا شك. لهذا نجد أن أعظم مدافع عن علمانية الدولة في الهند وأكثرهم حماسة لها منذ الاستقلال هي الأقلية المسلمة في البلاد.
إيران الإسلامية:
حتى في إيران الإسلامية اليوم ألمح في العمق تأكيداً أولياً ما للنعم التاريخية على الـ لا الصراطية. دعوني أشرح لكم ما أعنيه: في لحظة انتصار آيات الله في إيران واستيلائهم على السلطة لم يقدم هؤلاء الآيات على استعادة الخلافة الإسلامية – وكان هناك خلافة شيعية في التاريخ الإسلامي كما نعرف – كما أنهم لم ينشئوا نظاماً إمامياً يشرف عليه ويديره نائب للإمام مثلاً، بل أقدموا على تأسيس جمهورية للمرة الأولى في تاريخ إيران الطويل: جمهورية تمارس الانتخابات الشعبية والاستفتاء الجماهيري، لها مجلس تأسيسي وبرلمان (حيث تجري نقاشات حقيقية وسجالات حامية وما إليه) ورئيس للجمهورية ومجلس وزراء وتكتلات حزبية ودستور (وهو بالمناسبة مشتق من الدستور الفرنسي الديغولي لعام 1958 كما يقول لنا خبراء الدساتير المقارنة) ومحكمة دستورية عليا، وهذه الأشياء جميعها لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالإسلام كتاريخ وعقائد وصراط ولها العلاقات كلها والارتباطات جميعاً بأوربا الحديثة كتاريخ وكمؤسسات سياسية وحكومية وإدارية. ومما يزيد في أهمية هذه الظاهرة هو أن الأكليروس الإيراني، حامي حمى الصفاء العقائدي الإسلامي الشيعي والصراطي، عمل دوماً في السابق على معارضة محاولات المصلحين من الحكام في إيران إعلان إيران جمهورية. قاتلوا ضد الجمهورية والمبدأ الجمهوري عموماً لأنهما ليسا من الإسلام بشيء. قاتلوا ضد الجمهورية باسم الإسلام الصراطي وباسم رفض النماذج الأوروبية والمؤسسات المستوردة وما إليه. أضف إلى ذلك أنه على الرغم من المصطلح الإسلامي السائد والشائع في الخطاب ومحتويات سجالاته ومناقشاته ودعواتها تفرضها الـ نعم التاريخية للوضع السياسي – الاقتصادي العالمي والشرق أوسطي والمحلي اليوم ولا تفرضها الـ لا الإسلامية الصراطية. لهذا نجد أن خطاب رجال الدين الحاكمين في إيران لا يركز في الحقيقة على اللاهوت والعقيدة والخلافة والإمامة، بل على التخطيط الاقتصادي، الإصلاح الاجتماعي، إعادة توزيع الثروة، العدالة الاجتماعية، الاستعمار والإمبريالية، التبعية الاقتصادية، دور الجماهير الشعبية (في مقابل دور النُخَب التكنوقراطية) وعلى مسائل مثل الهوية، الحداثة، التقليد، الأصالة، المعاصرة وما إليه. واضح إذن أن الـ نعم التاريخية الجمهورية قد حققت انتصاراً ما في إيران على الـ لا الصراطية الإسلامية المعادية للجمهورية ولكل ما هو جمهوري.
دعوني أقرأ عليكم نص النصيحة التالية التي وجهها أحد زعماء العالم الثالث إلى طلاب المدارس الدينية في بلده:
«إذا لم تلتفتوا إلى السياسات التي يسوقها الإمبرياليون وتعدوا أن الإسلام ليس أكثر من الموضوعات القليلة التي تدرسونها دوماً ولا تتجاوزونها أبداً فإن الإمبرياليين سيتركونكم وشأنكم. أقيموا الصلاة ما شئتم: إن الذي يريدونه هو بترولكم. لا شيء يقلقهم في صلواتكم وأدعيتكم. إنهم يريدون معادننا ويريدون تحويل بلدنا إلى سوق لبضائعهم ولهذا السبب تقوم الحكومات العميلة التي نصَّبوها بمنعنا من التصنيع ولا تنشئ، عوضاً عن ذلك، إلا مصانع تجميع وصناعات معتمدة على العالم الخارجي لا أكثر».
كان يمكن أن يكون صاحب هذا التحليل وصاحب هذه الدعوة الرئيس جمال عبد الناصر أو رئيس أندونيسيا في الستينات سوكارنو أو فيديل كاسترو مباشرة بعد نجاح الثورة الكوبية في الاستيلاء على السلطة. لكن صاحب هذا الخطاب هو آية الله الخميني نفسه. لهذا نجد أن الصراعات الاجتماعية والسياسية داخل الثورة الإسلامية في إيران تدول حول قضايا مثل أولوية حق الملكية الخاصة وقيمها في مقابل أولوية العدالة الاجتماعية والتوزيعية وقيمها، الإصلاح الزراعي ومدى ضرورته واتساعه، مدى ضرورة التأميم للمشاريع الصناعية والتجارية والمالية.. الخ، طبيعة العلاقة بين القطاع العام من جهة والقطاع الخاص من جهة ثانية في اقتصاديات البلاد، النزوع نحو اقتصاد موجه ودولاتي أم نحو اقتصاد حر أم نحو اقتصاد مختلط يقع في منزلة بين المنزلتين منهما؟ إن هذا كله يذكرنا بالصراعات ذاتها والمناقشات نفسها التي جرت في العالم العربي عموماً وفي مصر تحديداً خلال صعود المرحلة الناصرية وحكم الرئيس جمال عبد الناصر، مما يجعلني أميل إلى الاعتقاد أن الاتجاه في إيران ينزع أكثر فأكثر نحو نعم التحول إلى جمهورية قومية – شعبوية يديرها ويهيمن على شؤونها رجال الدين من الراديكاليين عموماً، هذا على الرغم من الطبيعة الإسلامية للخطاب السياسي العام هناك وعلى الرغم من الغطاء الأيديولوجي الديني للدولة. وكما نعرف جيداً، ففي مصر وبلدان عربية أخرى قام بتحريك المرحلة القومية – الشعبوية ذاتها وبإدارة سياساتها الضباط الأحرار الراديكاليين مستخدمين المصطلح القومي الاشتراكي المعادي للأمبريالية في خطابهم السياسي العام وكغطاء أيديولوجي للدولة التي أشرفوا عليها وعلى سياساتها وحياتها. وكما أن الضباط الأحرار اضطروا إلى إعلان الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وما إليه لتسهيل عملية تنفيذ برنامجهم الاجتماعي – الشعبوي وإزاحة خصومهم من الوجه بشكل أو بآخر، فإن رجال الدين الراديكاليين في إيران أعلنوا برنامجهم الاجتماعي – الشعبوي وإزاحة خصومهم من الوجه.
وفي كلا الحالين كان اللجوء من جانب القيادة إلى سياسات تحريضية جماهيرية ضرورياً لتحقيق بعض النجاح إن لم يكن النجاح كله. إن إعلان تطبيق الأحكام الشرعية الإسلامية وعقوباتها في بلد مثل إيران اليوم هو المكافئ السياسي والوظيفي لإعلان الضباط الأحرار قوانين الطوارئ والأحكام العرفية في البلدان التي وصلوا فيها إلى السلطة. إن المهم في إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية هو قانون العقوبات وسهولة إنزال هذه العقوبات وقسوتها وشدتها وسرعة تنفيذها. كذلك فإن المهم في إعلان تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية هو أيضاً قانون العقوبات بالدرجة الأولى وسهولة إنزال هذه العقوبات وقسوتها وشدتها وسرعة تنفيذها. في الواقع تم اختزال الإسلام إلى تطبيق أحكام الشريعة ومن ثم اختزال الشريعة نفسها إلى قانون العقوبات لا أكثر.
أريد أن أذكر هنا بواقعة تاريخية مهمة. إن إيران واحدة من الدول الأساسية القليلة التي لم تشارك في حركة التحرير الوطنية – الشعوبية التي شهدتها بلدان القارات الثلاث – بدرجات متفاوتة طبعاً – بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي ساق سياساتها وأدار برامجها قادة وزعماء مثل الرئيس جمال عبد الناصر عندنا وجواهر لال نهرو في الهند وكوامي نكروما في غانا، أفريقيا وسوكارنو في أندونيسيا وشو ان لاي في الصين، هذا على الرغم من أن إيران كانت رائدة وسباقة في إطلاق حركة التحرر المعادية للاستعمار والإمبريالية في منطقتنا من العالم. وصل محمد مصدق إلى السلطة في إيران في مطلع خمسينيات هذا القرب قبل جمال عبد الناصر بقليل، وأقدم، كما هو معروف، على واحدة من أكثر الخطى الوطنية والتحررية جرأة وتحدياً في تلك الفترة: أي تأميم البترول الإيراني وتحويله إلى شركة وطنية وإلى ملكية قومية. ولا يعادل هذه الخطوة أهمية وعظمة وجرأة وشعبية يومها إلا تأميم قناة السويس سنة 1956. وكما أن تأميم القناة استجر العدوان هناك واسترجاع القناة فإن تأميم البترول الإيراني كان قد استجر عدواناً مشابهاً، ولكن بوسائل أخرى، على إيران مصدق أخذ شكل الإطاحة بالنظام الوطني التقدمي هناك وإعادة الشاه المطرود إلى عرش الطاووس في طهران وإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء بالنسبة للبترول الإيراني وملكيته وحق التصرف به. ويبدو لي الآن أن الإجهاض القهري الذي لحق بالمشروع التحرري الوطني الشعبوي الإيراني والإحباط القسري الذي فرض على طموحاته هو الذي تفجر في نهاية السبعينيات على شكل ثورة شعبية عارمة معادية لكل ما مثله الحكم الشاهنشاهي الرجعي المستبد وبعد مرحلة مديدة نسبياً من القمع والحصار والعزلة الداخلية، علماً بأن الدلائل تشير كلها إلى أن المشروع إياه كان ستيبع مساراً مشابهاً، إلى هذا الحد أو ذاك، بالمسار الناصري عموماً في سياساته المحلية والدولية وفي خططه الاقتصادية والاجتماعية لو نجح في الصمود أمام العدوان الخارجي الذي أطاح به وبالقوى الممثلة له. بعبارة ثانية، إن الثورة الإسلامية في إيران هي – في العمق – عودة المكبوت تاريخياً بامتياز وبصخب هائل وضجة محلية وعالمية عز نظيرها. ولهذا أيضاً تبدو هذه الثورة بالنسبة للعربي الواعي سياسياً على أقل تعديل، وكأنها تكرار ما أو استعادة ما لمسلسل أحداث أخرى وبلغة تعبير أخرى أيضاً. من هنا استنتاجي أن الثورة الإسلامية في إيران هي في جوهرها فرع محلي مشروط بشروط الواقع الإيراني من فروع الحركة التحررية الوطنية الشعبوية العالم ثالثية وقد انفجر متأخراً زمنياً وتاريخياً بعد تخمر تم وفقاً لخصوصيات الحياة الإيرانية وبعد تفاعل داخلي حكمه المسار القسري الذي أخذه التاريخ الإيراني منذ سقوط حكومة مصدق وبرنامجه وسياساته وأهدافه وتطلعاته.
خصائص المجتمع الإيراني:
لنتمعن قليلاً بالخصائص التالية:
آ – الطابع المديني البورجوازي الصغير الذي طبع الثورة الإسلامية في إيران.
ب – ضعف المشاركة الفلاحية والريفية والعمالية في صنع الثورة وتحريكها وقيادتها.
جـ – توجهها الأساسي المعادي للأمبريالية والولايات المتحدة من جهة وللشيوعية والاتحاد السوفياتي من جهة ثانية وفي وقت واحد وتبنيها بالتالي للشعار الشهير عربياً وعالم ثالثياً: «لا شرقية ولا غربية».
د – قناعتها بأنها تمثل الصراط المستقيم بين اليسار واليمين على طريق التنمية الاقتصادية الحقيقية والتطور الاجتماعي.. الخ. هـ – طموحها إلى بناء دولة مستقلة حقاً وجيش وطني حقاً.
و – استخدامها الفعال للإسلام كأيديولوجيا للوحدة الوطنية.
ز – الصراع المستمر داخلها بين مبدأ صيانة الملكية الخاصة وقدسيته وحقوقه من ناحية ومبدأ تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيعية في المجتمع من ناحية ثانية. هذه الخصائص كلها جربناها نحن كعرب أحياء اليوم، واختبرناها وعايناها وعانينا منها أيضاً في مرحلة تفتح المشروع الوطني التحرري الشعبوي عربياً وعالم ثالثياً. وواضح لي الآن أن الثورة الإسلامية في إيران تعاني اليوم من مآزق ومشكلات واختناقات وصراعات المشروع ذاته الذي خبرناه عربياً، أي أن الصراعات المعروفة لنا جيداً وقبل وجود شيء اسمه الثورة الإسلامية في إيران حول مسائل مثل: التأميم، الانفتاح، القطاع العام، القطاع الخاص، التبعية، التنمية المستقلة، التراكم الرأسمالي، الكومبرادور، العدالة الاجتماعية، المساواة النسبية في توزيع الثروة القومية، ضغط تزايد السكان على الخدمات والبنية التحتية.. الخ، مطروحة كلها الآن وبحدة عظيمة على الثورة الإسلامية في إيران وعلى إيران الإسلامية ولا يبدو لي أن عندهم أجوبة عنها – إسلامية كانت أم شبه إسلامية أم غير إسلامية – أنجع وأفضل من الأجوبة التي مورست عندنا وعند غيرنا من دول العالم الثالث باسم الاشتراكية العربية أو الأفريقية أو الهندية أو ما شابه ذلك من دعوات وأيديولوجيات أضحى إفلاسها واضحاً للعيان في اللحظة الحاضرة. دعوني أضيف أن العالم العربي ليس هو المرشح بالتالي، وعلى الرغم من بعض المظاهر الخارجية لأن يكرر التجربة الإسلامية – الشعبوية الإيرانية- لأن إيران هي التي استرجعت – متأخرة وقدر الإمكان وعبر ثورتها الإسلامية – زمناً وطنياً تحررياً ضائعاً عرفه العرب جيداً وكررت مرحلة عربية مضت، وعاشت تجربة عربية فاتت.
يبدو لي أخيراً أن بعضهم في الغرب والشرق من الذين أساؤوا فهم هذا الديالكتيك بين الـ لا الصراطية والـ نعم التاريخية في الإسلام قد أصيبوا بخيبة كبيرة بالنسبة للطريقة التي انهار بها الاتحاد السوفياتي وفتت. وأضرب هنا مثالاً: مدرسة غربية معينة متخصصة في دراسة إسلام الاتحاد السوفياتي وأبرز أعلامها المؤرخ الفرنسي الروسي الأصل Alexander Bennigsen وزميلته المؤرخة Chantal Lemercier – Quelquejay وابنته Marie Broxup في أوكسفورد، وhélène Carrère d’Encausse وأمير طاهري. منذ مدة وهذه المدرسة – مثلها مثل الكثيرين من الأصوليين عندنا – تتوقع انفجار الاتحاد السوفياتي وانهياره على يد الإسلام، أو بتحديد أكبر على يد الجمهوريات والمقاطعات الإسلامية عبر مجموعة من الثورات والانفجارات والانتفاضات والتمردات المنتظرة والمتوقعة ضد المركز الروسي – السوفياتي. بعبارة أخرى شخصت هذه المدرسة مصدر الخطر الوجودي على الاتحاد السوفياتي واستمراره فيما افترضت أنه الهوية الإسلامية الماهوية الثابتة التي لا بد أن تقول لا في لحظة من اللحظات في وجه النظام العلماني – الإلحادي – التحديثي – السوفياتي. أي توقعت هذه المدرسة باستمرار زوال الاتحاد السوفياتي على يد الـ لا الصراطية الإسلامية الأزلية في مواجعة الـ نعم العلمانية – الشيوعية – التحديثية التي كان يقول بها المركز الروسي – السوفياتي ويفرضها. من طروحات هذه المدرسة التأكيد بأن الهوية الإسلامية الأزلية المفترضة والـ لا الصراطية الأبدية الملازمة لها تتمتعان بمناعة فريدة وفذة إزاء قوى التاريخ الحية مثل القومية والعلمانية والليبرالية والشيوعية والحداثة والتحولات التاريخية الكبرى اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً في حياة الشعوب. من تعاليم هذه المدرسة مثلاً:
«يبقى الروسي السوفياتي روسياً أما المسلم السوفياتي فيبقى مسلماً».
بعبارة أخرى يمكن للإنسان الروسي أن يكون روسياً سوفياتياً، أو روسياً اشتراكياً، أو روسياً قومياً، أو روسياً حديثاً. أما المسلم فلا يمكنه أن يكون أياً من هذه الأشياء لأنه يبقى مسلماً على الدوام، أي أن يكون المسلم سوفياتياً أو شيوعياً أو علمانياً أو ليبرالياً يشكل تناقضاً في الماهيات والهويات تماماً كما جاء في النصوص الأصولية التي قرأتها عليكم في مطلع حديثي. لكن لسوء حظ هذه المدرسة ولسوء حظ الـ Homo Islamicus الذي تحمل لواءه وتدافع عنه جاءت أحداث انهيار الاتحاد السوفياتي لتبين أن الـ لا الصراطية الإسلامية لم يكن لها أي دور جدي في زوال الاتحاد السوفياتي. وكما نعرف الآن أن القوميات الأساسية التي قادت المعارضة للمركز وقالت لا للمركز كانت كلها في القسم الأوروبي من الاتحاد السوفياتي السابق وكانت كلها مسيحية ديناً وثقافة. في الواقع لعبت جمهورية بحر البلطيق الدور الأكبر في إنهاء الاتحاد السوفياتي وبمقدار أعظم بكثير من أي من مكوناته الأخرى باستثناء الشعب الروسي نفسه. وعلى العكس تماماً مما توقعته المدرسة المذكورة وتوقعه الأصوليون الذين يذهبون مذهبها فإن الـ نعم التاريخية للجمهوريات الإسلامية جعلتها تبقى هي الأكثر التصاقاً باستمرارية الاتحاد السوفياتي حتى آخر لحظة كما جعلتها تعمل على ربط نفسها ببقاياه أكثر من أي جزء من أجزائه السابقة، هذا على الرغم من النموذج الإسلامي الثوري المجاور في إيران وعلى الرغم من النموذج الإسلامي الانتفاضي المسلح والمجاور في أفغانستان.
الحوار المتمدن