الإعلام وزبائنه والحروب التي تخاض باسمه
بلال خبيز
عالم الإعلام كلب، بحسب ريجيس دوبريه مؤسس علم الإعلام العام، كلب لأنه يقتفي الأثر وتفتنه الرائحة. مؤدى هذا التعريف المبسط أن الإعلامي في أي مكان في العالم يبحث عن المخبوء وينشر المسكوت عنه ويذيع السري. وهو، بحسب هذا التعريف، لا يلتزم غير الوقائع مبدأً يستظل به.
يتوازى هذا كله مع اعتراف مطلق بتعدد وجوه الحقائق واختلاف البدائه وتناقضها تناقضاً بيناً بحيث تبدو البدائه ضد المنطق الذي يحمل إلى الوقائع معناها ويجعل الأحداث أشبه بسلسلة تتوالى بحسب منطق مفهوم. فما يبدو في أفغانستان اعتداءً فظيعاً يبدو في واشنطن حرباً عادلة. وكلا الرأيين يملكان من الوجاهة ما يكفي لتنصيب السلاح حكماً على المنتصر والمهزوم في هذه الحرب. وهنا يأتي دور الكلب مقتفي الأثر ومتتبع الرائحة، فالإعلامي في كلا الموقعين يفترض أن مهمته كشف الحقائق والنيات والدوافع التي تكمن وراء كل تصرف وفعل، ويدلل على الأسباب الواقعية التي تلجئ هذا الطرف أو ذاك إلى الاحتكام للسلاح كاشفاً بما لا يقبل الجدال، لأنه بالضبط يتحدث باللغة التي يفهمها الطرفان، الأسباب الحقيقية الكامنة والتي تجعل كل تنزيه مستحيلاً عملياً. فلا أسامة بن لادن يقاتل في سبيل الله ولا الملا محمد عمر يصمد دفاعاً عن فسطاط الإسلام، ولا روبرت غيتس يقاتل الشر الطالباني والقاعدي لوجه العدالة وحدها وحين يخطئ طياروه أهدافهم فإنما يخطئون فعلاً وقولاً ويعتذرون اعتذاراً صادقاً لا تشوبه شائبة. الإعلامي لا يعترف بالخطأ المؤدي إلى قتل المدنيين الأفغان ذلك أن في جعبته من الأسباب ما يكفي لإدانة الإجرام الأميركي طوال الدهر، وهو كذلك لا يصدق الطالبانيين الذين يدّعون أنهم يدافعون عن الدين الإسلامي ففي جعبته من التصريحات والبيانات والآراء ما يكفي لتكفيرهم. لكنه في الوقت نفسه يصدق أو يريد من الآخرين التصديق أنه ينحاز إلى الذين لا يملكون ما يعبرون عبره عن آلامهم وآمالهم، فينحاز إلى الضحايا بوصفه خشبة خلاصهم الأخيرة والمدافع الوحيد، لا عن حقوقهم فحسب، بل عن حياتهم وموتهم أيضاً. لا يهتم الإعلامي في مدى ملاءمة الرأي الذي يحتكم إليه الضحايا لمبادئ العدالة الدولية والقانون الدولي. إنه يهتم لحجم الآلام التي تبدو على وجوههم وفي تفاصيل عيشهم، وهو في ذلك يتبع وسيلة واحدة لا تتغير. يدفع هؤلاء إلى التصريح بوصف الكلام وإجادة اللغات دليلاً لا يرقى إليه شك على إنسانية المتحدث، ويدفع الجمهور الذي يتوجه إليه إلى المقارنة بين هناءة العيش، وهذا شرط ضروري وحاسم، التي يعيش في ظلها وبين حدود الموت التي يعيش فيها الضحايا الذين يعرض مصائبهم وهمومهم ومطالبهم وصراخهم اليائس. فالإعلامي لا يتوجه إلى المعدمين، هؤلاء ليسوا من جمهوره، وكذلك المتعبين والعازفين عن شؤون الدنيا ومباهجها. زبون الإعلام هو ميسور بالتعريف، يتمتع بامتياز اطلاعه على ما يجري في العالم. إذ إن الإعلام لا يعود إعلاماً حين يفقد قدرته على مجاراة الموضة في التكنولوجيا والأفكار والعادات والانفعالات.
زبون الإعلام ميسور لكن مادته على النقيض من ذلك، فالإعلام يصور حال المعدمين والقابعين على حدود الموت مثلما يصور حال المترفين والمغامرين والذين يكادون يعيشون حيواتهم وحيوات غيرهم على حد سواء وفي الوقت نفسه. لكن ما يعنينا في هذا المجال يتعلق ببضاعة الإعلام التي تباع للميسورين، أي بصور الضحايا وبتغطية عذاباتهم عبر وسائل الإعلام. تستطيع قناة ‘الجزيرة’ أن تعيد بث صور القتلى من الأطفال الأفغان أو العراقيين أو الفلسطينيين واللبنانيين جراء القصف الأميركي والإسرائيلي آلاف المرات، وأن تضع الصورة نفسها كل مرة تعلن فيه موت عدد جديد من المدنيين. يجري هذا الأمر عادة بسبب ندرة الصور وهو مألوف وشائع في وسائل الإعلام، لكن الميت في هذه الصور يموت كل مرة. ومادامت ‘الجزيرة’ هي أحد مصادرنا القليلة الوحيد لمعرفة حجم العذابات الأفغانية أو العراقية، فإن هذا الميت الذي مات واقعاً مرة واحدة يموت كل مرة يعاد عرض موته فيه على الشاشات وكل مرة تملك صورة موته الأثر نفسه الذي يتركه الموت الأول والواقعي. الانحياز في هذا المجال شديد الخطورة. لكنها الحرب التي تختبر فيها كل الوسائل وتجاز فيها الممنوعات والمحرمات كلها. لم تعد الدقة في استقصاء الخبر ولا الحياد في نقل الوقائع، هما السيف الذي يسير الإعلام على حد شفرته، صار التحريض سيد الموقف وينبغي أن نتأكد اليوم من صدق وملاءمة مصادرنا التي عليها نبني آراءنا، وفي أثرها ترفع السيوف والمصاحف ويقتل أهل الذمة على الشبهة والغيرية فقط. لأن بعض وسائل الإعلام تخوض حربها التي لا تنتهي مسلحة بالضحايا الذين يموتون آلاف المرات.
* كاتب لبناني
الجريدة