وهم المستبد العادل
د. رشيد الحاج صالح
لم يعد مقبولاً اليوم، السكوت عن تعلق الثقافة العربية الحديثة بما يسمى بـ«المستبد العادل». هذا المستبد الذي أصبح ينظر إليه وكأنه «المخلص» الذي يعيد للأمة كرامتها وهيبتها بحد السيف، ويقتلع مواطن الخلل من جذورها، ويصفي كل المسيئين والمتهاونين بحقوقنا.. فما علينا اليوم سوى منحه مزيداً من السلطات المطلقة حتى يباشر عملية بناء الأمجاد واستعادة الحقوق والانتصار على الأعداء، لدرجة أن محمد عبده قالها صراحة: «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل».
ويبرر مثقفونا هذه الدعوات بنجاح نموذج المستبد العادل في السير بشعبه إلى النصر على أعدائه وتحقيق المكانة المرموقة لأمته. وطالما حقق هذا المستبد النجاح في «حالات مشهورة»، حيث حقق الأهداف النهضوية وبنى الأمجاد القومية والوطنية، فما علينا سوى أن نوُجد مثل هذا المستبد الذي يزرع الرهبة ويحقق المنافع وينشر العدل ويقضي على الأعداء.
غير أن التأمل بمفهوم «المستبد العادل» يدفعنا للتساؤل حول الالتباسات والتناقضات التي يحملها هذا المفهوم، والكشف عن العوامل النفسية والسياسية والدينية التي تدفع الناس لليأس والقنوط، ثم القبول بهذه الحلول الخالية من أية قيمة أو معنى.
إذ كيف يجتمع الاستبداد والعدل، وهما متناقضان بشكل كامل؟ وكيف تجتمع صفات الاستبداد وهي التسلط والميل لاستخدام العنف والاستعلاء والتفرد بالرأي والنرجسية، وصفات العدل، وهي التسامح والإحساس المفرط بحقوق الآخرين ومحبة الخير العام؟! إن اللجوء إلى التحليل النفسي المعاصر قد يفسر لنا بعض هذه التناقضات، فشخصية المستبد العادل شخصية نرجسية عدوانية مريضة، تعبد ذاتها وتنظر إلى البشر على أنهم مجرد أشياء تصعد عليها لترى ذاتها أعلى من الآخرين، وما السلوكيات الإيجابية من تحقيق لمصالح الشعب والدفاع عن كرامته سوى وسيلة للحصول على المزيد من المديح والإطراء وإرضاء لحاجات النرجسية المريضة.
وتكمن الخلفية السياسية لتعلق الناس بنموذج المستبد العادل في تصاعد حالة اليأس السياسي وتعرض الأمة لخيبات أمل، تخرج حتى العقل من عقلانيته وتدفعه إلى التعلق بحلول سحرية وهمية ليس لها علاقة بحسابات الواقع وتعقيداته. زد على ذلك أن حالة غياب الحريات في الساحة السياسية العربية، شوهت الوعي السياسي ودفعته –دون أن يدري– إلى تبني مقولات السلطة السياسية التي تريد من ثقافة الناس أن تنسى الحرية بوصفها العامل الموضوعي للعدل، والنظر إلى الاستبداد بوصفه حلاً، على أن يجمل نفسه بشيء من العدل.
أما الخلفية الدينية التي دفعت بثقافتنا لتبني هذا المصطلح فتعود إلى أن مثقفي السلطة السياسية استخرجوا وضخموا كل ما يدعو إلى «الطاعة» وعدم مخالفة الحاكم إلا لأسباب قاهرة.. فالثقافة الإسلامية تعج بالفتاوى التي تبايع الأمير القوي الذي يدافع عن الأمة في وجه الغزاة، حتى لوكان ظالماً ومستبداً أو جاهلاً، فالثورة عليه كفر، وليس أمام الأمة سوى إرشاده أو «الصلاة من أجله».. وهنا نلاحظ، بوضوح شديد، أن «شوكة» الأمير وجبروته وخوف الناس من بطشه هي التي قادت إلى مثل هذه الفتاوى المتناقضة.
هكذا نجد أن مصطلح «المستبد العادل»، مصطلح عاطفي رغائبي، يحمل في داخله توق الناس اليأسين إلى حياة تنعم بالعدل والخير والسلام.. ولذلك فالمسألة لا تتعدى عادة ثقافية تضطر الشعوب للجوء إليها للخروج من التناقض الداخلي الذي يجتاح روحها.. فهي خائفة من بطش السلطان المستبد وتريد العدل في الوقت نفسه، فتلجأ إلى تبرير كل ما يفعله المستبد، سواء كانت أفعالا إيجابية أو سلبية، إنسانية أو عدوانية، فتكّون صورة مركبة من مجموعة من المتناقضات تخلط بين: الشجاعة والهمجية، الحكمة والجُبن، النتائج والأسباب، الواقع والخيال… الخ.
إن للعدل باباً واحداً هو الحرية، وكل الأبواب الأخرى مزيفة ومجرد خرافات.
كاتب من سورية