انتخابات أفغانستان: محض مفارقة أمريكية أخرى
صبحي حديدي
في أواخر أيار (مايو) 2007 صوّت البرلمان الأفغاني على تعليق عضوية مالالاي جويا، النائبة الأصغر سنّاً، والناشطة البارزة في ميادين حقوق المرأة وحقوق الإنسان عموماُ في افغانستان، وذلك بسبب تصريحها في مقابلة تلفزيونية بأنّ أمراء الحرب في بلدها ‘أسوأ من حظيرة الخنازير’.
في ما بعد سوف تنتقل جويا إلى الحياة السرّية، بعد أن صارت مهددة بالتصفية الجسدية، خاصة بعد أن اتخذت قرار المضيّ أبعد في التعريض بالتحالف القائم بين حكومة الرئيس حميد كرزاي وأمراء الحرب ومافيات المخدّرات وتجارة السلاح، وأصدرت كتابها الشجاع ‘أرفع صوتي عالياً’. ورغم ضغوطات الإتحاد البرلماني الدولي، وإقرار رئيس مجلس النوّاب الأفغاني بأنّ تعليق عضوية جويا جاء مخالفاً للأنظمة المرعية الداخلية ذاتها، لأنّ التعليق الدائم يعني إنهاء الولاية الإنتخابية الشرعية، فإنّ قرار التعليق طُبّق بالفعل، بل مُنع محاميها من دخول المجلس.
اليوم، صبيحة الانتخابات الرئاسية الأفغانية الثانية، تكتب جويا في صحيفة الـ’إندبندنت’ البريطانية: ‘مثل ملايين الأفغان، ليس لديّ أمل في انتخابات اليوم. ففي بلد يحكمه أمراء الحرب، وقوّات الإحتلال، وإرهاب الطالبان، وأموال المخدّرات والسلاح، لا أحد يتوقع انتخابات شرعية ونزيهة. المراقبون الدوليون أنفسهم أشاروا إلى تزوير واسع وعمليات إكراه، والناس في الشارع ليست لديهم سوى هذه اللازمة: الفائز الحقيقي اختاره البيت الأبيض سلفاً’. وفي فقرة أخرى، تقول جويا: ‘لقد عقد الرئيس حميد كرزاي تحالفات مع وحوش أمراء الحرب والأصوليين، بهدف الحفاظ على موقعه. ورغم أنّ دستورنا يحرّم على مجرمي الحرب الترشيح لمناصب عامة، فإنّ كرزاي اختار اثنين من أشهر قادة الميليشيات في منصب نائب الرئيس، كريم خليلي ومحمد قاسم فهيم، وكلاهما خاضع لاتهامات بارتكاب الفظائع بحقّ شعبنا’.
والحال أنّ تحالفات كرزاي لا تتوقف عند هذه الشريحة العسكرية ـ القبائلية، بل هي شملت السماح لرجل مثل عبد الرشيد دوستم ـ أحد أشرس أمراء الحرب، القائد الأعلى السابق لرئاسة أركان الجيش الأفغاني، والمسؤول عن مذبحة معتقل شيبرغان التي ذهب ضحيتها قرابة 1500 من مقاتلي الطالبان، كانوا قد استسلموا قبلئذ لقوّات دوستم ـ ليس بالعودة إلى البلاد فحسب، وكان قد فرّ إلى تركيا خشية على حياته بعد محاولة اغتيال، بل إعادته إلى الوظيفة أيضاً، في محاولة لخطب ودّ القبائل الأوزبكية. أمير حرب آخر، محمد محقق، مقرّب من إيران ومتهم بسلسلة جرائم حرب، وُعد بخمس حقائب وزارية لحزبه، ‘الوحدة الشعبية’، الناشط في صفوف قبائل الهزاري الشيعية، مقابل دعم كرزاي في المناطق الشمالية.
بيد أنّ خريطة أبرز المرشّحين للرئاسة، وهم أربعة من أصل 41 مرشحاً، تعطي المؤشرات الأوضح على طبيعة التنافس في مستوى صندوق الإقتراع، وعلى حقيقة أنّ الشعب الأفغاني سوف يكون الخاسر في كلّ حال، وأياً كانت هوية الفائز في الانتخابات. ولعلّ من الإنصاف المصادقة على وجهة النظر التي تقول إنّ اسم الفائز ليس البتة هو المهمّ، بل الأخطر على حاضر ومستقبل أفغانستان هو كيف سيتقبّل الخاسر النتيجة، وهل سيستنفر القبائل والعشائر والمذاهب التي ساندته أصلاً، ليس على طريقة مظاهرات الإحتجاج السلمية في طهران، بل بالكلاشنيكوف والرشاش الثقيل وقاذف الآر بي جي! البلد مسلّح عن بكرة أبيه، وليس أسهل على القبائل من تجنيد أبنائها في أية لحظة، ومن المحال أن يرضى الجميع بنتائج الانتخابات إذا كانت الدلائل كلّها (ابتداء من الحبر الانتخابي الذي يغسله الماء حتى من دون صابون، وانتهاء ببيع بطاقات التصويت المختومة في الأسواق الشعبية) تقود إلى احتمالات التزوير.
وفي وسع المرء أن يدع جانباً شخصية كرزاي، المرشّح المدلل لدى واشنطن ولندن وباريس والحلف الأطلسي، لأنّ تاريخ رئاسته الأولى ومعادلته السياسية في المجمل صار واضحا جليا، وينتقل إلى المرشحين الثلاثة الآخرين الذين تقول استبيانات الرأي إنهم يتمتعون بهذه النسبة المتقدّمة أو تلك من حظوظ التصويت لدى الناخبين الأفغان. التفصيل الأول الجدير بالملاحظة هو أنّ المرشحين الثلاثة سبق لهم أن شغلوا مواقع وزارية في حكومة كرزاي: عبد الله عبد الله كان وزيراً للخارجية، ورمضان بشاردوست كان وزيراً للتخطيط، وأشرف غني كان وزيراً للمالية. التفصيل الثاني أنهم ليسوا من التكنوقراط فحسب، بل تخرّجوا من جامعات أمريكية أو فرنسية، وعملوا في هيئات عالمية كبرى مثل البنك الدولي، وفضيلة ما يحمله كلّ منهم على صعيد الحصيلة العلمية والمهنية كان يحجبها نقصان التجربة على صعيد الحياة اليومية والهموم المعيشية لإنسان في أفغانستان ما بعد الغزو الأمريكي وسقوط حكم الطالبان. وهل من مغزى في التذكير بأنّ اثنين من المرشحين الأربعة، كرزاي وغني، يحملان الجنسية الأمريكية؟
والحال أنّ المشهد الأفغاني صبيحة الانتخابات الرئاسية يعيد الذاكرة إلى خريف 2001، عقب الغزو الأمريكي للبلد، حين لاح أنّ عودة الموسيقى إلى شوارع كابول، ومسارعة الشبان إلى قَصّ اللحى، وتهافت أبناء القبائل على تبديل الولاءات والبنادق من صفّ إلى صفّ ومن كتف إلى كتف… هي أوضح علامات انتصار الولايات المتحدة في أولى جولات ‘الحرب ضدّ الإرهاب’، كما قيل لنا آنذاك. ورغم أنّ عودة الموسيقى إلى آذان الأفغان ليست بالأمر التافه بالطبع، غير أنّ المرء لم ينتظر من أمريكا أن تذهب إلى الحرب دفاعاً عن غاية ثقافية مثل هذه.
ثمة، إذاً، عمل كثير كان ينتظر الولايات المتحدة، وحليفاتها بالطبع. وتلك، في عبارة أخرى، كانت بداية إعادة إنتاج ورطة الجيش الأحمر السوفييتي هناك: مستنقع حروب العصابات، وحروب الطوائف، وحروب القبائل. ذلك لأنّ أفغانستان تلك الحقبة، مثل معظم خصائص أفغانستان ما بعد حكم الطالبان والكثير من خصائصها اليوم، لم تكن تبدو مختلفة كثيراً عن أفغانستان ما بعد انسحاب السوفييت في عام 1989. إنها، بصرف النظر عن مظاهر الشكل، ما تزال إمارات مبعثرة قائمة على الولاءات الإثنية والقبائلية أكثر من الخطوط الإيديولوجية والتيّارات الحزبية، وعلى تجارة المخدّرات والسلاح أكثر من أيّ اقتصاد وطني أو حتى عائلي.
وهكذا فإنّ الأسئلة القديمة واصلت إعادة إنتاج نفسها تباعاً، وكأننا أخذنا نعيش مرحلة ما بعد انسحاب الإتحاد السوفييتي وسقوط نظام نجيب الله: أيّ أفغانستان كان يريد ‘العالم الحرّ’ بعد سقوط نظام الطالبان؟ وأي أفغانستان يريد اليوم، إذْ تعود مجموعات الطالبان إلى الواجهة مجدداً، ليس من بوّابة الأمن فحسب، بل من بوّابة المعادلات السياسية الداخلية؟ وكيف لا يجيز المرء الرأي القائل بأنّ ما يتردّد عن نيّة واشنطن فتح حوار مع الطالبان، بعد الانتخابات الرئاسية، هو بمثابة اقرار صريح بأنّ الذي انتصر حتى اللحظة هم الطالبان، وليس كرزاي أو ‘تحالف الشمال’ أو أيّ من أحزاب أو ميليشيات أو قبائل البشتون والطاجيك والأوزبك والهزارة؟
وإذا فشلت معظم المجموعات القبائلية والإثنية في الإرتقاء إلى مستوى الحدث ومسؤولياته، فهل ستواجه البلاد مخاطر انقسام الأمر الواقع، وفق خطوط إثنية ومذهبية وقبائلية تُجهز على ما تبقّى من وحدة إجتماعية ـ سياسية في طول البلاد وعرضها؟ هل ستبادر أية قوّة إقليمية (باكستان؟ إيران؟ روسيا؟) إلى ‘لَبنَنة’ أفغانستان؟ أو ربما ‘عرقَنة’ البلد، كما صرنا نقول للأسف، في ضوء مخاطر تقسيم العراق؟ وكيف يمكن للإنشطار السنّي ـ الشيعي أن يؤثّر على العلاقات الإيرانية ـ الباكستانية خصوصاً؟ وأين ستقف الولايات المتحدة، والقوى الغربية عموماً، من مسألة تقسيم واقتسام النفوذ الإقليمي بين روسيا والصين وباكستان وإيران والهند وتركيا والجمهوريات الإسلامية المجاورة؟ وما مصائر استراتيجية الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، اليوم وغداً وبعد غد؟
وفي ورقة بعنوان ‘الدول الماركسية ـ اللينينية الجديدة والصراع الداخلي في العالم الثالث’، كُتبت سنة 1985 بتكليف من مؤسسة Rand Corporation الأمريكية، كان فرنسيس فوكوياما قد اعتبر أنّ أفغانستان هي البؤرة الأهمّ بين جميع المراكز المناهضة للشيوعية (أو ‘حركات التحرّر الوطني’ كما كان يحلو له وصفها). لكنّه اعترف بأنّ البلد يتّصف بشخصية إسلامية شديدة المحافظة، ‘في عالم يشهد صحوة إسلامية لا سابقة لها’. وإذا كانت صفة المحافظة تلك تطبع العديد من الدول الإسلامية الحديثة، فإنّ ‘قلّة قليلة من هذه الدول ما تزال على هذه الدرجة من التداخل القَبَلي والنأي عن الثقافة الحديثة’. ومن المعروف أنّ ‘حركة التحرر الوطني’ تلك انتصرت بعدئذ، وسقطت كابول وسط هتافات ‘المجاهدين’ وغبطة ضبّاط المخابرات المركزية الأمريكية وضبّاط المخابرات الباكستانية وضبّاط الجيش الأحمر على حدّ سواء.
وهكذا انطوت صفحة 14 سنة من حرب العصابات التي أودت بحياة ما يقارب المليونين، وشرّدت سبعة ملايين داخل البلد، فضلاً عن خمسة ملايين مهاجر عاشوا على الحدود مع باكستان وإيران. آنذاك لم يكن التاريخ قد انتهى تماماً في نظر فوكوياما، ولهذا فقد كان من الطبيعي أن تكون أفغانستان بلداً إسلامياً محافظاً ومتخلفاً من جهة؛ وأن تظلّ ‘حركة تحرر وطني’ من جهة ثانية، دونما تناقض أو تعارض أو تنافر! كذلك كان طبيعياً تماماً أن يكون رجل مثل أسامة بن لادن، أو أستاذه ومعلّمه الروحي عبد الله عزام، أو سائر ‘الأفغان العرب’، في عداد ‘المقاتلين من أجل الحرّية’، الذين تعتدّ بهم الولايات المتحدة، وتمتدح ما قدّموه من خدمات ضدّ الشيوعية. الأبطال هؤلاء صاروا أهداف الحرب الشاملة التي تشنّها الولايات المتحدة في أفغانستان، وفي العراق، وفي مشارق الأرض ومغاربها.
أكثر من ذلك، كانت مباركة البيت الأبيض للمؤسسة الجهادية (التي نشأت في سياق محاربة السوفييت والشيوعيين، وتحوّلت سريعاً إلى مؤسسة استثمارية استحقّت بالفعل اللقب الساخرJihad Enterprise International)، قد أنتجت شبكة مصالح اقتصادية ومالية واسعة النطاق، تتاجر بالسلاح والسلع المهرّبة والمخدّرات أساساً. ومنذ عام 1988 كانت مجلة The Nation الأمريكية قد كشفت حقيقة تغاضي المخابرات المركزية عن عمليات تهريب المخدرات في الشاحنات الأمريكية ذاتها التي تنقل السلاح والمؤن للمجاهدين من ميناء كاراتشي إلى بيشاور. وحين كان نظام كابول المحاصَر لا يستورد سوى النزر اليسير من الأغذية والأدوية ومقتضيات العيش الضرورية، ظلّت تجارة المخدرات ناشطة ومزدهرة ومحميّة. أمّا المسؤول الأمريكي الذي كان وراء إعطاء التوجيه بالتغاضي عن عمليات التهريب تلك، فلم يكن سوى جورج بوش الأب، نائب رئيس الولايات المتحدة، ورئيس الوكالة القومية لحظر المخدرات! وأن يجني جورج بوش الإبن بعض ثمار ما زرع جورج بوش الأب، فهذه بدورها مفارقة أمريكية لا تدعو إلى العجب والدهشة.
.. الأمر الذي يعيدنا إلى المواطنة الأفغانية مالالاي جويا: ‘الديمقراطية في أفغانستان لن تأتي أبداً عبر فوّهة المدفع، أو القنابل العنقودية التي ترميها القوّات الأجنبية. النضال سوف يكون طويلاً وصعباً، ولكن قِيَم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة لن يظفر بها الشعب الأفغاني إلا بيديه’.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –