سياسة التعقيد كـ«جدار فصل» للفلسطينيين عن قضيتهم
ياسين الحاج صالح
منذ سنوات طويلة لم أعد قادراً على متابعة مدققة لتطورات القضية الفلسطينية. من جهة لطالما بثت هذه التطورات شعوراً بالإحباط والألم في نفسي، الأمر الذي آل مع الزمن إلى بناء منعكس شرطي، يقرن الوضع الفلسطيني بخبرة مؤلمة، فيزكي الابتعاد عنه أو اهتماماً أقل به. لكن من جهة أخرى وأهم، سارت تطورات الوضع الفلسطيني في طوره الحالي، أي منذ أوسلو، نحو تفتيت القضية وتجزئتها وإغراقها في تفاصيل وشكليات تضيّع أسسها الأخلاقية والسياسية، وتتجاوز قدرة أكثرية الجمهور المهتم على المتابعة. لم أستطع أبداً فهم عمّا يدور الأمر في «خريطة الطريق»، أو عن أي شيء هو مؤتمر أنابوليس الدولي الذي عقد من أجل بث الحياة فيها، إن كنت فهمت الأمر على وجهه الصحيح، ولم تتكون عندي فكرة واضحة عن فحوى وثيقة جنيف، أو عمّا يجري في تلك الزيارات والمحادثات التي لا تنتهي والوفود التي تروح وتجيء، فضلاً عن تجاذبات السياسة الفلسطينية المؤلمة هي الأخرى، خصوصاً بعد انقسام الفلسطينيين قبل استقلالهم.
أذكر للقارئ صيغ التفاعل الشخصي هذه لأني أشعر أن تعقيد القضية الفلسطينية وتفتيتها على هذا النحو، المتعمد بلا ريب من قبل الإسرائيليين، ومجاراة النخب الفلسطينية لذلك، كان عاملاً مؤثراً جداً في الحد من اهتمام كثيرين بها، معرفة ومشاركة وتعاطفاً. انساقت القيادات الفلسطينية مع عملية إغراق قضيتها الوطنية بشكليات وبروتوكولات وأوراق ووثائق من كل نوع، شكلت بمجملها حاجزاً عالياً يفصل جمهوراً عربياً، متعاطفاً من دون شك، عن القضية التي لطالما اعتبرت عربية، أو «قضية العرب الأولى».
التعقيد يناسب الطرف الإسرائيلي لأنه يمكنه من كسب مزيد من الوقت، يستغله لصنع وقائع على الأرض، إما يصعب الرجوع عنها أو يتقاضى مقابلها ثمناً باهظاً. هذا فوق أن نخبه أبرع سياسياً وأقدر على إدارة التعقيدات وعلى توسلها للعب بالخصم، ولأنه لا يناسبه البديل الوحيد عن التعقيد، أي التوقف عند الجوهر السياسي والأخلاقي للقضية كمسألة عدالة وتحقق سياسي لشعب آخر. الطرف الذي يتضرر من إحلال الإجراءات والتفاصيل والجداول محل الجوهر التحرري للقضية هو الطرف الفلسطيني، الأكثرية الفلسطينية التي يُغرِّبها التلاعب بقضيتها ورفعها فوق مستوى إدراكها الفعال. ولعل هذا الرفع يوافق مصلحة نخب فلسطينية، تجد فيه ما يمكنها من تشويش إدراك الجمهور المعني وتعطيل قدرته على مراقبتها، ومن جعل السياسة علماً معقداً شاقاً، تتمكن وحدها من تملك فنونه وأسراره. بهذا تصون النخب تلك مواقعها الامتيازية ونفوذها. السياسة علم صعب لا يتاح لأي كان التكلم في قضاياه أو التدخل في عملياته. دعونا وشأننا، إذاً، أيها الجهلة الذين نتعب من أجلكم وأنتم لا تقدرون تعبنا وتضحياتنا!
قد يكون علم السياسة ولد من رغبة سياسيين طموحين في تسييج عملهم بأسيجة عالية تمنع اقتراب عموم الناس منه، وتالياً تقيم فرزاً بين مرتبتين، مرتبة السياسيين الحاكمين (وأعوانهم المحتملين) ومرتبة الجمهور العام، الدهماء أو القطيع أو الرعاع… لا يبدو أن الأسيجة هذه تكفي مع ذلك. ألا نرى السياسيين، الحكام منهم بخاصة، والأشد طغياناً على الأخص، يقيمون في قصور معزولة، محمية بأسوار عالية، بعيداً عن «شعبهم»؟
إحاطة السياسة بالخطر والصعوبة والأسرار حيلة مجربة يلجأ إليها السياسيون جميعاً في العالم كله. جعل السياسة اختصاصاً دقيقاً ضمان لسلطة نخبوية. في البلدان العربية، وبدرجة تتناسب مع طغيان حكامها، يجري الكلام على صعوبة التحديات وخطورة المشكلات التي تواجه البلاد، وعلى أن المرحلة حرجة ودقيقة والظروف صعبة… وتالياً على الحاجة إلى ربّان سياسي عبقري يقود الجماهير القلقة عبر هذه الأمواج المتلاطمة. ثمة تناسب طردي بين الإلحاح على عسر الأوضاع وصعوبة السياسية وبين الحكم الاستبدادي النخبوي. الغرض من تصعيب السياسة تقليل فرص الجمهور في النفاذ إليها ومساءلة السياسيين في شأنها. وللحرص على أمية السكان وتغذية الجهل العام المفعول نفسه.
بالعكس، يشارك جمهور أوسع في السياسة بقدر ما يجري الربط بين عملياتها وإجراءاتها وبين قضاياها الرئيسة. لا يسعنا الجمع بين سياسة ديموقراطية وبين اعتبار السياسة علماً معقداً واختصاصاً دقيقاً يحتاج إلى عبقريات فذة. يمكن تصور سياسة ديموقراطية وغير شعبوية تنكب على الربط بين أسس القضايا العامة وبين تفصيلات تقنية وإجرائية خاصة بها، قد تكون أكثر تعقيداً. وقد تكون مهمة السياسي الديموقراطي هي الشرح الدائم لـ «القضايا الجوهرية»، أي التضمينات الاجتماعية والأخلاقية للسياسات المعتمدة. في المقابل، يرجح للسياسي النخبوي أن يغلف تلك التضمينات بلغة غامضة لا تُسبر معانيها.
السياسة الديموقراطية مطلوبة عربياً وفلسطينياً. هي ليست سياسة تحب الشعب أو تطلب حب الشعب لها، بل هي سياسة تشرح. توضح. تبقي أقنية مفتوحة بين المضمون الأساسي للقضايا وبين صيغ إجرائية وتنفيذية قد تقتضيها، فتعدل هذه بتلك، وتزود الجمهور بحس واقعي حول الصعوبات الواقعية. تهتم أيضاً بتعليم السكان وترقية مستواهم الفكري. السياسة الديموقراطية لا تبسط العمليات السياسية، لكنها تشرح للجمهور تعقيداتها المحتملة وصعوباتها. في هذا تختلف عن الشعبوية التي يضمر تشككها بالسياسة والسياسيين (وبالثقافة والمثقفين) احتقاراً للجمهور وتسليماً بأنه، بالفعل، جاهل ينبغي «النزول» إليه وتوضيح السياسة له بلغة لا سياسية، بلغة الأخلاق أو المنفعة المباشرة. لا. السياسة الديموقراطية توضح من دون أن تكف عن كونها سياسة. من دون تنازلات شعبوية.
الغرض من هذه الدورة الطويلة نسبياً القول إن الصعوبات والتعقيدات التي أخذت تلف القضية الفلسطينية تتصل أكثر بتكوين النخب الفلسطينية وبنوعية رهاناتها وتطلعاتها مما بتعقيد ذاتي للقضية الفلسطينية. لم يرتض سياسيون فلسطينيون الانجرار إلى تفتيت قضيتهم وفصلها عن أسسها العدالية فقط، ولكنهم امتنعوا عن القيام بالشرح الواجب لشعبهم، وللعرب من حولهم، لما يجري في شأن القضية. بهذا فصلوا فلسطين عن أهلها، فسهلوا لإسرائيل مصادرتها. والواقع أنهم بينما كانوا يوغلون في إغراقها في تفاصيل ودقائق تقنية، كان الشرح الوحيد الذي يقدمونه لشعبهم وللجمهور العربي شرحاً شعبوياً، أخلاقوياً ودينوياً، يتكلم على القدس الشريف والأقصى، وعلى المقدسات والثوابت…، شرحاً يفترض سذاجة الجمهور وانفعاليته، ويسهم في المحصلة في إبقائه أسير الانفعال والسذاجة. لكن من دون أن يكون الجمهور العام مطلعاً على أسرار السياسة وعلومها، فإنه ليس غراً ولا جاهلاً. وهو ينتقم بالسلبية والتشكك على محاولات كهذه لاستغفاله.
هذه حال فلسطينية وعربية عامة. قطعها والانفصال عنها، مهما يكن صعباً، أجدى وأكرم من البقاء عليها. وجهة نظر النخبة عكس ذلك. لكن وجهة النظر هذه عريقة في الفساد والسوء.
خاص – صفحات سورية –