المعارض الديمقراطي والاغتراب
موفق نيربية
ربّما ليست المرة الأولى التي أتذكر فيها إلياس مرقص، في حديثه عن الهدف الذي أخذ من القوى القومية والاشتراكية اهتماماً كبيراً في السابق، وهو إقامة «المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد». قال بنزق- أو ربما بابتسامة-: أعطوني «المجتمع» وخذوا «الاشتراكي».
ينطبق جوهر هذا المنطق على الممارسة السياسية المعارِضة، خصوصاً تلك التي تتوهّم وتشتهي كونها ديمقراطية. هي معارضة تنسى أحياناً المجتمع من أجل الطبقة أو بدائلها، والطبقة من أجل الحزب، والحزب من أجل زعيمه.. ويندر أن تعود النخبة أو أشلاؤها إلى المجتمع المظلوم وحده في النهاية.
هنالك في سورية؛ ومصر بطريقة متفاوتة؛ معارضة ديمقراطية تتألّف في نواتها من أحزاب، أغلبها قديم التأسيس. ونعتمد هنا على الواقع السوري في الحديث لاعتبارات مختلفة، على الرغم من أن ملاحظة ضعف التواصل مع المجتمع تجمع البلدين. وليس ما يهمنا هنا تأثير احتكار السلطة وحالة الطوارئ الطويلة، فهو معروف، لكنه لا يكفي وحده لتفسير الظاهرة.
جرت محاولات مختلفة للبحث في هذه الأزمة، لكنها لا تقنع أحداً إلاّ مؤقتاً وجزئياً، أو للتبرّؤ منها واستسهال رميها بكاملها على الآخرين: النظام الشمولي والأمني وغياب الحدّ الأدنى من الحريات. ينفع هذا في الدعاية والإعلام.
قد يكون صحيحاً أو غير صحيح ما يفعله- أو يقوله بالأحرى- يساريون يتهمون المعارضة بالليبرالية أو الليبرالية الجديدة، وإدارة الظهر لمطالب وطموحات الفئات الشعبية في معيشتها وأمنها الاجتماعي. وقد يكون كذلك ما يفعله- أو يقوله- ليبراليون يرون أن غياب الحريات وحالة القمع المزمنة يجعل من التركيز على شمولية النظام أو تسلطه أمراً شعبياً وقادراً على «حشد» الجمهور واستنهاضه. وأيضاً ما يراه قوميون وإسلاميون من أن روح الشعب متعلقة بالأمة- غير المحددة- فالأجدر تحويل السياسة من حقلها الداخلي- التي ترتبط به تعريفاً- وتصديرها إلى الخارج القومي أو الديني.. لكن هنالك أشياء أخرى.
فليس هنالك اهتمام كافٍ بالمواضيع الكبيرة: التعليم والعمل والأسعار والأجور والقضاء والقانون ونظام السير والبناء والبلديات والصحة والبيئة والضرائب والفساد والزراعة والصناعة والتجارة والاستثمار وأوقات الفراغ (يضحك البعض لهذا المفهوم) والثقافة والفنون والشباب والنساء.. ليس هنالك «حكومة ظل» ولا «مشروع». أيّ اختصاصي يأنف من تكريس وقته لاختصاصه، ومن أيّ انشغال خارج «السياسة»، فيَصفَرّ النقد في ثقافته،لتصفرّ بدورها.
الوجوه الرضيّة المضيئة العصرية نادرة أو متنحيّة يكاد يأكلها الشحوب والتقادم. وليس هناك لا علم ولا فن ولا رغبة- ربما- في التواصل مع الناس، ولا بحثّ في مَن يَقدر على ذلك.
هنالك نقص في الاستعداد للتضحية، ونقص في التروية.. أو فقر في معدّلات الحب والحرية في الدم، وكلها لا تتعلّق بمفعول القمع الرهيب وهوى المعارضة المجرّد وحدهما، بل بمخزون الإنسانية والأنسنة، وقيمة القيم الأوليّة.
في ذهني؛ بل لعلّها مخيّلتي؛ خمسة نماذج:
أولّها معارض يعاني التعسف والسجن والملاحقة طويلاً، فلا يخشى في مواقفه لومة لائم، حتى لو أدّى ذلك إلى ابتعاد الناس، باجتماع خوفهم مع إعجابهم. يرى في نفسه فارس القدر الوحيد، والبقية مهادنون، فتأبى طهارته قبولَ ما يتعلّق بالأرض، المغبرّ دائماً.
وثانيها قومي من تيار مَزج القومية على الديمقراطية. يلتزم فنّ «تجنّب الاصطدام بالسلطة» مهما حدث، فينتج من ذلك تجنّب للناس، ويصبح الأمران سمة في السياسة لديه، تنعكس على الخطّ والممارسة مناورةً مرهقة.
(هذا النموذجان، لو كانا قادرين على الاتفاق- من دون خصومة مستحكمة- على المصالح المرسلة الراهنة، لنفعا أهلهما).
ثالثها برجوازي ليبرالي ينحاز إلى العمل السياسي بإخلاص واندفاع، وهو مَن تحتاج إليه أي معارضة ديمقراطية أصيلة، لكنه لا يستطيع تلمّس طريقه من دون بقية الطبقة المأخوذة بمكاسب الاستبداد السهلة، أو بقية السياسيين على خطّه، فيفتقد إلى الأداة والبرنامج، ويبقى هدفاً لآليات القمع واستفرادها.
ورابعها مثقف نقديّ موهوب في المزج بين المثقفين والسياسيين. لكن السياسة- كفنّ- تستحوذ عليه؛ وحلم صناعة التاريخ وآليات التغيير يتملّكه، فيستغرقه التكتيك ويتراجع دوره، مع استمرار الحصار المفروض عليه.
خامسها كان شاباً أيام هزيمة 1967 وثورة 1968العالمية، فاستهواه نمط اليسار الجديد كأداة لتغيير العالم. ثمّ أصبح كهلاً الآن، يتمسّك بقوة بجذوره، ويجهد للتوفيق بينها وبين متطلبات المعاصَرَة الملّحة، فلا يقدر.
وفي كلٍّ منّا شيء من أكثر من نموذج، فتكون النتيجة معارضةً ديمقراطيةً أقرب إلى انشقاقٍ أشيبَ باديَ العروق. ليست معارضة صافية ولا ديمقراطية صافية.. تحترف الانتظار والمراوحة، وتألف الاغتراب وتستغربه في الوقت نفسه..
لكنها تظل تحظى بالاحترام والتقدير لتضحياتها وريادتها، طالما هنالك أمل بأن تنقد ذاتها وتتحوّل إلى ما يعنيه اسمها.
* كاتب سوري