المدوّنة نصوص جوزيه ساراماغو الألكترونية في كتاب: هل صار العالم أفضل من ذي قبل بفضل نصوصي؟
خط اليد ثابت على نحو يستلهم العجب. ذلك ان الكاتب الذي يدوّن ها هنا، في الصفحة الرابعة، قد تجاوز منتصف الثمانينات. يفرد البرتغالي جوزيه ساراماغو المساحة البيضاء لطرفه الذي لم ينهك تماما على رغم الاعوام، ليسجل في حروف منخفضة الارتفاع تكاد تكون مسطحة، قولا افتتاحيا يفيد ان “المدوّنة تنير طريق الكاتب”، ويزيد: “هنا تكمن فضيلتها”. انها النظرية التي يريدها الكاتب مسلّمة لأحدث مؤلفاته الذي نشرت دار “الفاغوارا” ترجمته الاسبانية وحمل عنوان “المدوّنة”. تأتي تلك الصرخة البدئية بما يستفز المناقشة نظريا، بيد انها تمتزج في المحصلة بنمط الخلاصات والتبريرات والمحاججات ايضا. تفسر بنبرة مستكينة وعالمة ومن دون اطالة، لماذا يمكن كاتبا كساراماغو، نال ارفع الجوائز الأدبية، اي نوبل الآداب، ان يترك لغواية المدوّنات الالكترونية والعالم المعلوماتي الافتراضي ان تستحوذ عليه. ساراماغو صاحب الذهن، ممانع لشتى نظريات الانصياع، غير انه استسلم لإلحاح مجاراة الدارج. لم يلفظ الدعوات الى اللحاق بركاب التكنولوجيا. على نقيض ذلك، تمهّل وسأل وتعلّم، وصار احد المدوّنين، ليحلو له بعد تمرس ان يرتقي بنصوصه الآنية ويجعلها جديرة بالإقامة بين دفتي كتاب شرعي.
بدءا من ايلول 2008، اخرج ساراماغو الى شبكة الانترنت آراءه في مجمل الموضوعات، في حين تبدّى انه قصّر في مطرح محوري يتجذر في عمق مفهوم “البلوغوسفير”. لم يفسح لتقاسم ردود الفعل مع المتلقي، وانما آثر عليه تشييد البعد بين فكرة كاتب واحتمال قارئ. رفع سورا فصل الفاعل عن المفعول في عقولهم. غيّب الصلات الالكترونية واحجم عن تبادل الآراء، فيما احضر الخبر والرأي. على الراجح، فضحت فسحة ساراموغو الشخصية مدوّنا زائفاً، لكأنه جزيرة معزولة في محيط كوني. اعلن استقلاله واكتفاءه الذاتيين، وإن سمح للفضوليين بالتلصص على ما ينغل بين جدران مكانه.
من طريق المدوّنات، صار ساراماغو يكتب على نحو اوفر من ذي قبل، ولكن على نحو اسوأ. انهما المعياران اللذان قوّم من خلالهما نزوته المستجدة في السادسة والثمانين. تأمل في إلحاح البرهة التي جعلته يستسلم لسلطة التقنيات الجديدة الطافقة، ونفذ منها ليدور في فلك السياسة والحوادث الراهنة والثقافة والحياة على وجهها الاطلاقي. اقتحم الكاتب حجرة الانترنت ليستفهم انماط التعبير الاجتماعية المستحدثة، بيد انه وعلى الرغم من ادعاءاته الترفعية، رأف بنصوصه الالكترونية وحنا على معظمها، كما لو انها جزء من رواية. يظهر التدقيق في جنس النصوص ان “المدوّنة” قسط من تلك التمارين المتأخرة التي يوقّعها كاتب طامع بالتقدم على زمنه، وبغية انجاز ذلك لا يمكنه سوى ان يتبدى رائيا من جهة، ومفطوما على السابق من جهة ثانية. أليس هو الذي جعل في روايته “النظير” استاذاً للتاريخ يسعى الى تدريس مادته في الاتجاه المعكوس، اي بدءا من الحاضر وصولا الى الماضي؟ يجرّب ساراماغو اذاً، عكس وجهة الواقع، بغية ان ينيره. على هذا المنوال، تشرع “المدوّنة” التي تقتصر على المرحلة بين ايلول 2008 وآذار 2009، في محاباة البرهة الآنية، في رغبة للتوقف عند ما فات.
تنطلق المدوّنات مع نص “كلمات من اجل مدينة”، رسالة حب الى لشبونة كتبها ساراماغو قبل سنوات عدة ليعيد اكتشافها ويتأثر بوقعها ويعتزم تقاسمها مع قراء مدوّنته كحركة استهلالية. ينطلق النص بالبيانات التاريخية، ويستتبعها بشذرات ذاتية. هناك “حواديت” تحيي التاريخ وتترك للآراء الذاتية ان تنفلش، قبل ان يعيد ساراماغو التزام التجريد ازاء الفكرة العملية، لينأى عن الثيمة اليومية على اثر تعريتها من البعد التفصيلي.
يجعل ساراماغو المدوّنة استتباعا للسيرة الذاتية، حيث يعوض عن النزعة الى النظر في التجربة الذاتية بعين نقدية. يفضل عليها المنبر حيث يسهل القول وحيث يطيب الواقع بنبرة لاذعة تجعله أخفّ وطأة لأنه اكثر بعدا. نقرأ في مقدمة نص مدينته: “كان ثمة اوقات لم تحمل فيها ليشبونة هذا الاسم. سمِّيت اوليسيبو، عندما وصلها الرومان، واوليسيبونا عندما اخذها المسلمون، بيد انها صارت اسبونا على شفاههم، ربما لأنهم عجزوا عن لفظ الكلمة الهمجية”. يميل ساراماغو الى استيقاف العام في الخاص والنظري في المنظور، ويبرز هذا الجانب في نصه الافتتاحي حيث ينصرف الى مقاربة الزمن – المكان، والمكان – الشخص، بوصفهما امتدادات لصيغ حسابية فيزيائية تعيد انتظام الواحدة في مواجهتها للاخرى. يكتب: “المكان هناك، يبين الشخص وبعد حين يذهب الشخص، ليستمر المكان، يصنع المكان الشخص فيما الشخص يحوّل المكان”. يمد ساراماغو الكلام المديد المغرق في منطق فلسفي، الى متن ادبه. يستعيد كيف اضطر الى اعادة خلق المكان والزمان اللذين عاش فيهما ريكاردو رييس (في مؤلفه “عام وفاة ريكاردو رييس”) سنته الاخيرة، وكيف ادرك استباقيا ان مفهومي المكان والزمان لن يتجادلا.
في “كلمات من اجل مدينة”، والى صورة المراهق الخفر الذي كانه ساراماغو والمعتقل في واقعه الاجتماعي، راكم صورة اخرى لشاعر متبصر ومبدع ارتاد مناطق الفكر الاعلى. كانت لشبونة التي في رأسه، مدينة الاحياء الفقيرة، وعندما دفعت به الظروف بعد فترة طويلة الى بيئات اخرى، كانت الذكرى التي فضّل الاحتفاظ بها تستريح في حظيرة لشبونة – سنواته الاولى، لشبونة ناس المقتنيات اليسيرة والاحساس الوافر، تلك التي مكثت ريفية العادات ومدركة العالم.
في حين ينزع بعض الشعراء الى تكديس مختارات في فترات الجفاف التأليفي، يأتي ساراماغو بمقاربته الفردية للانطولوجيا، تلك التي تمكّنه من نفث سخطه، كما تنفث الغازات السامة. من الشائع في رأي ساراماغو ان ننصت الى سياسيين حديثي المناصب. ربما كان الامر كذلك، غير انه يعجبه ان يفكر ان ثورات كثيرة ضاعت ايضا بسبب طفرة من الصبر. وفيما لا يحسم موقفه من الامل، يفضّل عليه التلهف.
لا يتوقف ساراماغو طويلا عند شبهة التسييس التي تتردد في شأن “المدونة”، ذلك ان كتابه “بحث في شأن التبصر” هو في رأيه كتاب سياسي اصرح من محصلة مدوناته، وإن جنح في كنفها صوب اهتمامات ذات نكهة عامة، كمثل “ازمة العالم” و”غياب مقاربات الخروج”. بيد ان نصوصه الحادة والمباشرة، تزيد على اصابع اليد الواحدة. رأيه في الرئيس الاميركي السابق جورج بوش مثلا فج ولا يبعث على الممالأة. يكتب في خصوصه: “انه اصغر الرؤساء الاميركيين الصغار. ذكاء عادي، وجهالة صميمية، تعبير شفوي مرتبك ومأخوذ دوما الى تجربة لا تقاوم هي تجربة الهراء الخالص. يقدم الرجل نفسه امام الانسانية في منطق هرجي لراعي بقر ورث العالم وبات يحيّره الى درجة ظنّه قطيع ماشية. لا نعرف تماما ما الذي يفكر فيه فعلا، ولا نعرف ايضا اذا كان يفكر (في المعنى النبيل للكلمة). لا نعرف اذا كان رجلا آليا مبرمجا على نحو سيئ فحسب، يقوم دائماً بخلط الرسائل المحفوظة داخله وتبديلها. غير انه تميز مرةً في حياته، ذلك ان هناك في الرجل الآلي رئيس الولايات المتحدة جورج بوش برنامجاً يعمل على نحو استثنائي: انه برنامج الكذب”. النبرة في هذا المكان صريحة، لكأن الكاتب المشكك الملتصق بالنوع البشري، الملتزم وضعية الجمال والاخلاقيات والمتجاوز التحزب السياسي، تخلى عن الاستعارة لمصلحة السهام المحددة الوجهة، تلك التي لا تسمح لتأويل من نوع تخفيفي. غير ان فرادة ساراماغو تكمن دائماً في النهل من منظور نقاشي للتاريخ والثقافة.
يقول اليساري الهورموني، كما يصف نفسه، ان جسمه يحوي هورمونات تجعل لحيته تنمو وهرمونات اخرى تجعله شيوعيا. الموضوع محسوم تاليا. لا داعي للتغيير تاليا، ولا إمكان لذلك. في حين يحتمل بروز تفسيرات لسماته التأليفية، يبقى اعتداده بالآراء اليسارية خارج المناقشة، وهي التي تجعله يواجه زعيم اليمينيين في ايطاليا سيلفيو برلوسكوني ويسمّيه “القيء” في احد نصوص “المدونة”. يكتب ايضا عن رئيس الوزراء الاسباني الاسبق خوسيه ماريا اثنار، ويكتب في القارب عينه عن كل اليسار. يتوقف ايضا عند الأدب من طريق بسّوا وخورخي امادو وكارلوس فوينتيس، وعند الله وراتسينغر وغوانتانامو واوباما، واللائحة بلا قعر لفرط ما تتشعب.
في عرف ساراماغو فإن “المدونة” تضيء طريق الكاتب. عندما تنزع تأملاته صوب داروين في نص “اعتذار موجه الى داروين؟”، يعلّق على خبر اجراء الكنسية الانغليكانية “ميا كولبا” ذاتية لأنها ادانت عالم الاحياء الانكليزي داروين الذي فنّد نشوءنا وارتقاءنا، وذلك لمناسبة المئوية الثانية لولادته. يكتب ساراماغو في وقفة مقتضبة: “انه خبر جيد، ربما يقول القراء السذج”، ليضيف ان المبادرة اسلوب عملي يستعيد من خلاله الانغليكانيون بكارة ضائعة، على مثال الكاثوليك في شأن نهاية غاليليو المأسوية في زنزانة والتهام نيران المحرقة للفيلسوف واللاهوتي جيوردانو برنو. يمدد ساراماغو لهجته التهكمية: “لا اعترض على عرائض الاعتذار التي تتلاحق يوميا لسبب او لآخر ولن اشكك في فائدتها. ولا سيما إذا كان داروين لا يزال حيا يُرزق ومستعدا للتطوع قائلاً “اجل اني اسامح”. يذهب ساراماغو بعدذاك الى اعتبار انه لن يكون في وسع الكلمة السخية حذف شتيمة واحدة او افتراء واحد او اهانة واحدة من تلك التي تدحرجت فوق رأس داروين. فيما يستبقي الكاتب حسنة واحدة من موقف كنيسة انكلترا، هي ازعاج الجمهوريين الاميركيين واولئك الذين، كمثل المرشحة السابقة الى منصب نائبة الرئيس سارة بايلين، يحملون لافتة الانحرافات العلمية المغشوشة.
تتسم مؤلفات ساراماغو بنزعة تلقينية وغواية تخريبية. تتلاشى نقاط الوقف في طبقة البناء السردي، في مقابل كتابة ارتجالية تُقرأ كما الخطب. يسترسل ساراماغو في جمله التي تستعمر صفحات عدة، يتفادى التقاط النفس ليمتزج حوار شخوصه مع اقوال رواته، بغية صوغ خليط من اصوات غير متساوقة. يكتب كأنه جالس الى جوار مدفأة. حكواتي يقص أخبار الجن والعفاريت على احفاد ملؤهم الذهول. يغيب هذا النمط عن “المدوّنة” من دون شك، غير انه يستبدل بلقية اخرى. تكمن جمالية النصوص في تضمّنها تأملا للنفس عوضا من تأملها نفوس الآخرين، ويحثّه هذا المسح على سؤال نصوصه: “هل استحقت العناء؟ هل استحقت هذه التعليقات والآراء والمقالات النقدية العناء؟ هل صار العالم افضل من ذي قبل؟ وانا كيف ابدو؟ هل هذا ما ترقبته؟ هل ارضى عن النتيجة؟ الاجابة بـ “نعم” عن الاسئلة السالفة او عن احدها، يغدو برهانا جليا على عمى فكري لا يحتمل الاعذار. اما الاجابة بـ”كلا” من دون استثناءات، فما هو؟ إفراط في التواضع في الاذعان او ربما في الوعي، بأن اي عمل انساني ليس سوى طيف شاحب لعمل تمّ الهذيان به سابقا؟”.
في “ارجاع عقارب الساعة”، يفترض امبرتو ايكو ان افضل اسلوب يمكّن المثقف من ان يواجه قابليته للموت، يمر من خلال الاقرار بغباء العالم الذي يتركه خلفه. انه تبرير مقنع لكي يرخي ساراماغو عنان “المدونة” للؤم، من دون مخاصمة اللهو والحكمة. في السنوات الاخيرة قابل ساراماغو الموت بشيطنة المراهقين، غير انه استسلم ايضا لحتميته حين رصده الراوي في “استقطاعات الموت”، معلنا:”نحن الآدميين لا يسعنا فعل الكثير باستثناء اخراج ألسنتنا في وجه السفّاح الذي يوشك على قطع رؤوسنا”.
في جوار اليوتوبيات، يعتبر ساراماغو ان نصح احدهم بالتحلي بالأمل لا يختلف كثيرا عن نصحه بالتمسك بالصبر. بالنسبة الى الكاتب، تكمن الأزمة الانسانية في ظاهرة الفوضى التي نقيم فيها من دون ادراك منا. اندثر الآن القصر الورقي، يقول البرتغالي، ودقّت ساعة ايجاد اسلوب لإعادة البناء، علّنا نبقى احياء. ربما تكون “المدوّنة” احد تلك الاساليب للانتفاضة على حتمية الغياب، فناً مدوّيا ودامياً.
رلى راشد
roula.rached@annhar.co
النهار