واقع ومستقبل حركة حقوق الإنسان المعاصرة في سوريا واشكالياتها
المحامي مصطفى أوسو
كلمة لا بد منها:
بداية، لا يستطيع أي باحث أن يدعي الإحاطة بجميع جوانب حركة حقوق الإنسان المعاصرة في سوريا وإشكالاتها، نظراً لأن جميع منظمات حقوق الإنسان المكونة لها، هي منظمات غير مرخصة قانوناً وبالتالي فإن دراستها تصطدم بعقبة عدم وجود البيانات الكافية للإطلاع على حركتها الداخلية وبنيتها ونشاطها وآليات عملها وعلاقاتها… من هنا فإن أي بحث في هذه الحركة سوف لن يأتي متكاملاً ومنجزاً ويبقى مجرد وجهة نظر ومساهمة في أغناء هذا الموضوع ليس إلا.
ومن جهتي وكمتابع لحركة حقوق الإنسان المعاصرة في سوريا ومنخرط في صفوفها منذ بداية ولادتها وظهورها وحتى الآن، سأحاول من خلال هذه الدراسة الموجزة أن أقدم وجهة نظري المتواضعة وتجربتي الخاصة حول هذا الموضوع الحيوي وإشكالاته، علني أنجح في تسليط بعض الضوء على واقع هذه الحركة ومستقبلها والإحاطة ببعض جوانبها.
تمهيد:
جاء ظهور منظمات حقوق الإنسان المعاصرة في سوريا، استجابة طبيعية لواقع القمع والاستبداد والاضطهاد وهدر الحقوق ومصادرة الحريات الأساسية… في المجتمع السوري، وانسجاماً (كغيرها من الحركات السياسية والاجتماعية والمدنية… في المنطقة والعالم) مع التغييرات والتطورات الهائلة التي عصفت بالعالم في نهاية العقد الأخير من القرن العشرين أثر انهيار المعسكر الاشتراكي وبروز مفاهيم وأفكار ورؤى جديدة، مثل: سيادة الديمقراطية والعدالة… واحترام مبادئ التعددية والمساواة… وصيانة حقوق الإنسان… وإنهاء جميع مظاهر القمع والاستعلاء والتمييز… في العالم.
ومن هنا نستطيع أن نقول: أن ولادة حركة حقوق الإنسان المعاصرة في سوريا كانت ظاهرة طبيعية للأسباب التي ذكرناها أنفاً وأيضاً بسبب فشل المشاريع والآمال التي كانت قائمة قبل ذلك سواء كانت: (سياسية أو قومية أو إيديولوجية)، وكذلك بسبب ما استحوذته قضية / مسألة، حقوق الإنسان في المرحلة الجديدة من اهتمام كبير على الصعيد الدولي، وللمساهمة وفق إمكانياتها وعبر الوسائل الديمقراطية السلمية بالاستناد إلى المرجعيات الفكرية لحقوق الإنسان ضد أي اعتداء من أي نوع كان على حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بغض النظر عن مصدرها.
ونتيجة لغياب الحريات الديمقراطية في سوريا، كان من الطبيعي جداً أن يكون الرواد الأوائل لهذه الحركة من الناشطين في الشأن العام والمعارضين السياسيين…، ومن الطبيعي أن لا تمر هذه الحالة دون أن تترك تأثيرات ومضاعفات وتداعيات كثيرة وخطيرة على حركة حقوق الإنسان ومستقبلها، سواء فيما يتعلق بنسق الخطاب أو أولوية السياسي على الحقوقي من حيث التفرغ وإعطاء الوقت أو ازدواجية المرجعيات الفكرية… الخ.
وانطلاقا من المرحلة الدقيقة والحساسة التي تمر بها سوريا، والتي تتميز باشتداد وتيرة القمع والاستعلاء والإقصاء والتمييز… بحق المواطن السوري وغياب الحريات الديمقراطية والعامة في المجتمع السوري وازدياد مظاهر الدولة الأمنية القائمة على أسس نفي التعددية وسريان وتفعيل دور القوانين والمحاكم الاستثنائية وتعميق سياسات الاضطهاد القومي والسياسي والديني… كبديل لسياسة التسامح والحوار… وسيادة القانون وإزالة الاضطهاد، وتعزيز مفهوم دولة المؤسسات والقانون المبنية على مبادئ الحرية وحكم الشعب والتداول السلمي للسلطة يحمي الحقوق ويضمن المساواة التامة بين جميع مكونات المجتمع السوري ويقر بالتعددية السياسية والقومية والدينية… اعتقد أن هذه الحركة تعكس إلى حد ما وبهذا الشكل أو ذاك رغبة حقيقية وجادة وصادقة في تحمل المسؤولية والمشاركة في مواجهة التحديات والاستحقاقات التي تواجه البلاد.
أولويات حركة حقوق الإنسان في سوريا، راهناً:
أن من أولى أولويات حركة حقوق الإنسان المعاصرة في سوريا من أجل تعزيز دورها في الدفاع عن حقوق الإنسان ونشر الوعي الديمقراطي وتنميتهما، هي:
– العمل لإيجاد آليات للتنسيق والتعاون والتشبيك… بين المنظمات الحقوقية في سوريا.
– العمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع السوري وتعزيز روابط التضامن الوطني والدولي في إطار حقوق الإنسان لتصبح هذه الثقافة، جزءاً من مكونات الثقافة السورية المعاصرة، وتعميق وعي المواطن السوري بحقوقه الأساسية وتمسكه بها.
– العمل على مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، والعمل على إزالة آثارها بالطرق القانونية.
– العمل من أجل إغلاق ملف الاعتقال السياسي وإطلاق سراح كافة المعتقلين في سوريا لأسباب تتعلق بآرائهم ومعتقداتهم، وإحالة المتهمين بجرائم تمس أمن الدولة إلى محاكم عادية علنية وعادلة تتاح لهم فيها حرية الدفاع القانوني الكامل، وحرية اختيار المحامين دون ضغوط، وإلغاء المحاكم الاستثنائية كافة وضمان عودة جميع المنفيين.
– العمل من أجل إلغاء حالة الطوارئ المطبقة في البلاد منذ أكثر من أربعة عقود ونيف.
– العمل من أجل إلغاء كافة التعليمات والقوانين التي تقيد وتحد حرية الرأي والتعبير والنشر، وإصدار قانون عصري للأحزاب والجمعيات يراعي خصوصيات المجتمع السوري القومية والدينية والثقافية…، وإلغاء القوانين التي تحد من نشاطها أو تقيدها.
– العمل من أجل تعديل الدستور السوري، ليتوافق مع القوانين الدولية وتطورات العصر وبما يضمن الإقرار بالتعددية القومية.
– العمل من أجل احترام سيادة القانون، وتعزيز سلطة القضاء واستقلاليته الكاملة عن جميع أشكال الضغوط، والسعي لضمان الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية).
– العمل من أجل تكريس مبدأ استقلالية القضاء والنقابات المهنية ومبدأ تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين وإلغاء جميع التشريعات والأنظمة الماسة بحقوق الإنسان والمناهضة للحريات العامة والمنافية للمواثيق الدولية الواجبة الاحترام.
– العمل من أجل إزالة جميع أشكال الاضطهاد القومي والسياسي والديني وإلغاء السياسات والمشاريع العنصرية المطبقة بحق الشعب الكردي في سوريا، والعمل من أجل الإقرار بالحقوق القومية والديمقراطية للشعب الكردي في سوريا وباقي مكونات الشعب السوري في إطار وحدة المجتمع السوري.
– العمل من أجل اعتراف السلطات الرسمية بشرعية منظمات حقوق الإنسان في سوريا وحقها في الوجود والعمل العلني الرسمي، والحصول على الترخيص القانوني الضامن لذلك.
أساليب عمل حركة حقوق الإنسان:
وأما فيما يتعلق بأساليب العمل المناسبة لقيام الحركة بمهامها، فهي:
– إصدار البيانات والتصريحات والبلاغات والنداءات… التي ترصد انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.
– إصدار تقارير ودراسات… حول وضع حقوق الإنسان في سوريا.
– إصدار التقارير السنوية عن حال حقوق الإنسان في سوريا في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والمدنية والاقتصادية والقانونية.
– إيجاد مواقع الكترونية على شبكة النت ينشر أخبار ونشاطات المنظمات والهيئات والمنظمات الحقوقية والمدنية في سوريا وخارجها، والانتهاكات الواقعة على حقوق الإنسان، ومواد قانونية تتعلق بثقافة حقوق الإنسان.
– إقامة الدورات التدريبية وورشات العمل والمؤتمرات المتعلقة بحقوق الإنسان.
– التعاون والتنسيق مع المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية.
– إقامة علاقات حوارية وفاعلة مع الهيئات الحكومية من جهة ومع النقابات والجمعيات الأهلية المحلية من جهة أخرى، إذ لا يمكن لثقافة حقوق الإنسان أن تتعافى إذا سادت بين هذه الأطراف القطيعة والخصومة، لذلك فإن وجود علاقات التفاعل والحوار الدائم مع الهيئات التنفيذية والحكومية.. هي الطريق الصحيح لتفعيل سبل حماية حقوق الإنسان في سوريا ونشرها.
– الدعوة والمشاركة مع مختلف الفعاليات السياسية والمدنية… بالاحتجاجات السلمية التي تجري داخل سوريا وخارجها.
الإشكالات والعقبات التي تواجه حركة حقوق الإنسان في سوريا:
وفي إطار قيامها بعملها في سبيل إنجاز المهام الملقاة على عاتقها، تواجه حركة حقوق الإنسان المعاصرة في سوريا، العديد من المعوقات، الذاتية منها والموضوعية والتي تعرقل عملها وتجعلها قاصرة على تحقيق أهدافها، وهي:
– المعوقات الذاتية (الداخلية):
– بسبب حداثة منظمات حقوق الإنسان وغياب الحريات الديمقراطية والعامة في سوريا، فإن حركة حقوق الإنسان المعاصرة فيها تفتقر إلى الكوادر المهنية الحقوقية المدربة والقادرة على مواجهة التحديات ووضع الخطط اللازمة، سواء الداخلية منها أو الخارجية، إضافة إلى أنه وبسبب سياسة القمع وغياب ثقافة المشاركة التي تمارسها السلطة في المجتمع السوري، هناك ابتعاد عن العمل الجماعي / المؤسساتي وبروز ظاهرة الفردانية في إدارة هذه المنظمات.
– تواجه حركة حقوق الإنسان المعاصرة في سوريا إشكالية عويصة أخرى تتعلق بالهيكلية / البنية التنظيمية لمنظماتها، وهل يجب أن تكون مغلقة أو مفتوحة وما يثير ذلك من حالات شد وجذب بين كوادرها، أدى وتؤدي إلى العديد من حالات الانقسام والتشتت في صفوفها وأوصالها، في ظل عدم الإيمان بالاحتكام إلى المرجعيات / المحطات الشرعية لمنظمات حقوق الإنسان، وهي الثقافة التي غذتها وكرستها السلطة الحاكمة من خلال ممارستها اليومية، والمؤسسة / القائمة على امتلاك الحقيقة المطلقة.
– كما أن ضعف الإمكانات المادية لمنظمات حقوق الإنسان في سوريا، يؤثر سلباً على أدائها وعملها ويعرقل تنفيذ برامجها وخططها، واشتراكات الأعضاء وتبرعاتهم لا تفي في أغلب الأحيان بالغرض المطلوب والتمويل الخارجي جريمة يعاقب عليه القانون السوري.
– وهناك إشكالية أخرى لا تقل عن الإشكاليات المذكورة أنفاً تواجه حركة حقوق الإنسان في سوريا، وهذه الإشكالية، هي إشكالية فكرية / سياسية بالدرجة الأولى والمتعلقة بالتداخل الكبير بين السياسي والحقوقي ونسق الخطاب في هذه الحركة والتي تؤدي في الكثير من الأحيان بالعديد من منظمات حقوق الإنسان إلى الابتعاد عن المرجعية الفكرية الدولية لحقوق الإنسان وتتجه بها إلى مسارات أخرى (دينية أو قومية أو إيديولوجية أو…)، مما يؤثر سلباً على حركة حقوق الإنسان.
– إن عدم وجود حماية قانونية دولية لنشطاء حقوق الإنسان في العالم وتعرضهم المستمر لحملات المضايقة والاعتقال، إشكالية إضافية أخرى تواجه حركة حقوق الإنسان المعاصرة في سوريا، ويؤثر سلباً على أدائها وعملها وتنفيذ خططها وبرامجها، وذلك لكون هذه الحركة حديثة الولادة نسبياً وتفتقد للكوادر المؤهلة لقيادة العمل وبسبب ضعف وجود الإمكانيات الموارد المالية اللازمة لرعاية المعتقلين وعائلاتهم.
– المعوقات الموضوعية (الخارجية):
– عدم توفر البيئة الدستورية والقانونية والتشريعية، الملائمة لعمل منظمات حقوق الإنسان في ظل سريان حالة الطوارئ المفروضة على البلاد منذ أربعة عقود ونيف وتفعيل القوانين والمحاكم الاستثنائية والمراسيم التي تحمي أجهزة الأمن من العقاب في حالات تعذيب وقتل الناشطين، إضافة إلى غياب قانون ينظم الحياة السياسية والقيود المفروضة على ترخيص منظمات المجتمع المدني بموجب قانون الجمعيات الصادر بالمرسوم رقم (97) في عام1958 وتعديلاته، والذي أعطى وزير الشؤون الاجتماعية والعمل صلاحية رفض أو منح ترخيص الجمعيات، دون بيان أسباب الرفض أو المنح، مع عدم إمكانية اللجوء إلى القضاء للتظلم، إضافة إلى صلاحيات التدخل والرقابة و… الخ.
– اللجوء إلى سياسة القمع في تعاطي السلطة السورية الحاكمة مع نشطاء حقوق الإنسان وغياب الحريات الديمقراطية، حرية الصحافة والرأي والتعبير والنشر، وحرية التظاهر والاعتصام والاحتجاج والإضراب… وغياب حرية التنظيم النقابي والمهني وكذلك غياب قانون عصري للإعلام والمطبوعات السياسية والحقوقية والثقافية.
– غياب التعددية السياسية والمشاركة في الحياة العامة للبلاد وهيمنة الحزب الواحد المطلقة وتفرده في الحكم وغياب المؤسسات المبنية على أسس الديمقراطية ومبادئ الحرية والعدالة وسيادة الشعب وضمان التداول السلمي للسلطة.
– أن الوضع الاقتصادي المتدهور في سوريا والمتمثل في انخفاض معدلات النمو وارتفاع معدلات التضخم الذي أدى إلى استمرار انخفاض مستوى المعيشة وتزايد البطالة وانتشار الرشوة والمحسوبية والفساد على أوسع نطاق… دفع الجماهير الشعبية إلى البحث عن لقمة عيشها والعزوف عن الاهتمام بالشأن العام والانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والمدنية.
– المحاولات الحثيثة (داخلياً وخارجياً)، والرامية إلى الهيمنة على منظمات حقوق الإنسان ومصادرة قرارها وفرض نوع من التبعية عليها، في ظل عدم وجود القدر الكافي من الثقافة الحقوقية الاحترافية لدى جميع الجهات والأطراف المعنية، مما يؤدي إلى انشغالها بأمور وجزئيات لا تقع أصلاً في نطاق عملها وأجندتها.
– إن انتشار الأعمال الإرهابية على نطاق واسع وبشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 ضد برجي التجارة العالمي ومبنى البنتاغون في نيويورك وواشنطن، دفع بالعديد من الدول، التي تغيب فيها الحريات الديمقراطية وتهان كرامة المواطن وتهدر حريته وآدميته.. ومنها، سوريا، إلى إطلاق القبضة الأمنية بحجة مكافحة الإرهاب، وهذا ما أدى بالنتيجة إلى أن توجه الأجهزة الأمنية سهامها صوب المعارضين السياسيين والناشطين الحقوقيين والمدنيين… وكل من يهتم بالشأن العام.
خلاصة القول:
من خلال هذا البحث الموجز في واقع ومستقبل حركة حقوق الإنسان المعاصرة في سوريا وإشكالاتها، لا نريد رسم صورة وردية أو قاتمة لها، بقدر ما نسعى إلى وضع النقاط على الحروف وتشخيص مكامن الضعف والخلل في بنيتها / هيكليتها، والمخاطر الكثيرة التي يمكن أن تتعرض لها من الوسط المحيط بها وبشكل خاص من السلطة الحاكمة وقبضتها الأمنية التي لا تأبه بالقانون وحق المشاركة في إدارة البلاد، هذا الحق الذي يكفله الدستور السوري في الفقرة (2) من المادة الثانية، والتي تنص على أن: (السيادة للشعب ويمارسها على الوجه المبين في الدستور).
أقول: مرة أخرى إن هذه الدراسة الموجزة صورة لواقع موجود ومستقبل قد لا يلبي طموحنا. وقد لا تكفي النوايا الطيبة والإرادة الصادقة والطموحات المشروعة، لتجاوزه أو تحقيق ما نصبوا إليه، من إشاعة قيم: الديمقراطية والعدالة والمساواة وسيادة القانون… واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
أن ما نحتاج إليه حقاً في هذه المرحلة الهامة من تاريخ حركة حقوق الإنسان في سوريا، هو العمل معاً بإرادة واحدة وموحدة، من أجل تأطير كافة الجهود وتوحيد جميع الطاقات والإمكانيات وإعداد الكوادر الكفوءة والمدربة والمؤمنة بالمرجعية الفكرية لحقوق الإنسان وبأهمية الإنسان وقيمه وكرامته وحقوقه وحرياته والقادرة على مجابهة التطورات ورسم الخطط والاستراتيجيات للعب دور حيوي في عملية الإصلاح والتغيير الديمقراطي المرتقبة.
رئيس مجلس أمناء المنظمة الكردية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة في سوريا (DAD)