الأقليــات ومبدأ سيــادة القانـون
لؤي اسماعيل
يفترض مبدأ المواطنة مساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وهذا يستتبع من حيث الضرورة المساواة في تكافؤ الفرص ولا سيما الحق في تولي المناصب الإدارية والسياسية على اختلاف أهميتها ومبدأ المساوة في الحقوق والواجبات يعتبر الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الدساتير العربية حيث أفردت موادا دستورية تكرس فيها المساواة بين المواطنين بعبارات منمقة زاهية المعنى ! إن مبدأ المساواة هو الركيزة الأساسية لمبدأ سيادة القانون فهو بإقراره هذه المساواة يكون قد أقر مبدأ المواطنة باعتبارها الأساس الذي تبنى عليه الدولة بعيدا عن أي اعتبارات أخرى سواء العرقية أو الدينية حيث يقف جميع الناس أما القانون متساوون يمارسون حقوقهم وواجباتهم ضمن هذا الإطار .
إن موضوع حقوق الأقليات هي من أبرز التحديات التي تواجهها العديد من الدول العربية فمشكلة الأقليات مشكلة متشعبة ومعقدة ولها جذورها التاريخية وأبعادها السياسية والإنسانية وأهم نواحي هذه المشكلة تكمن في عدم اعتراف الأنظمة العربية بهذه المشكلة في محاولة جاهدة منها للتعتيم عليها وطمس معالمها ظنا منها أن هذا التعتيم يلغي المشكلة ! كما دخلت مشكلة الأقليات ضمن دائرة التوازنات الإقليمية كورقة رابحة تمسك بعض الدول بطرف خيطها للتأثير على الدول الأخرى التي تعاني من هذه المشكلة عن طريق القيام بدعم الحركات السياسية وحتى العسكرية التي تقوم في مناطق الأقليات مما يخضع هذه الحركات لحركة البازار الإقليمي ولعبة التوازن بين الدول والتي غالبا ما تخضع مصير هذه الحركات للعبة الصفقات السياسية حيث تترك وحيدة لتلاقي مصيرها المحتوم عند أول صفقة ، وما يزيد الأزمة تعقيدا هو تلك النظرة المريبة التي السلطات المركزية لهذه الأقليات كون هذه الأقليات غالبا ما تتجمع في مناطق بعيدة عن جغرافيا عن السلطة المركزية لذلك كانت نظرة الحذر والريبة وعدم الثقة بل والخوف من تحول هذه الأقليات إلى خنجر مسموم يدق في صدر الوحدة الجغرافية للبلاد هي السمة الغالبة لنظرة السلطات المركزية لأي مطالب أقلية بنوع من الحقوق السياسية والثقافية لذلك تعمد هذه الدول إلى محاولة تغيير المعادلة الديمغرافية لمناطق الأقليات بزرع جزر سكانية من ” العرب ” تحيط بهذه المناطق إضافة إلى محاولة التضييق اقتصاديا وسياسيا على الأقليات بهدف دفعهم للهجرة عن مناطقهم وبالتالي ذوبانهم في المناطق التي يعيشون فيها .
منذ القدم عرف العرب العصبية القبلية فكانت المشاحنات والمعارك بين القبائل العربية تكاد لا تنتهي ولعب الشعراء دورا هاما في إذكاء حدة العصبيات عن طريق هجائهم اللاذع للقبائل الأخرى أما ما نظرتهم إلى الشعوب الأخرى فكانت نظرة متعالية نوعا ما حيث أطلقوا عليه اسم العلوج – وهو المصطلح الذي عاد إلى الظهور بقوة إبان غزو العراق – وتعززت هذه النظرة الفوقية في صدر الإسلام عندما منع غير العرب من دخول المدينة ليتحول الأمر في الدولة الأموية إلى الاعتماد على العنصر العربي فقط في الحكم والإدارة ومحاولة تعريب كل شيء في الدولة كما تعرض أتباع الديانات الأخرى إلى الظلم والاضطهاد بدرجات متفاوتة ووصل الأمر في أحيان كثيرة إلى إبقاء الجزية على من أسلم منهم ، وتم فرض إجراءات صارمة تتعلق بالملابس وحلق الرؤوس وارتداء أحزمة من الجلد وركوب الحيوانات بلا سرج، بهدف تمييزهم عن المسلمين. ، وتراجعت هذه النظرة في العصر العباسي حيث نعمت الأقليات بدور سياسي فاق دور العرب بكثير من الأحيان ولا سيما دور الأتراك لدرجة باتوا يتحكمون بالخلفاء وباتوا القيمين على الدولة بأسرها . وفي الدولة العثمانية عمل السلطان العثماني على تشديد قبضته الحديدية على الشعوب التي وقعت تحت سلطته مستعينا بفتاوى حسب الطلب فارتكبت المجازر بحق بعض الشعوب التي وقعت سيطرة السلطنة وما أن بدأ النخر يدب في أوصال الرجل المريض حتى بدأ التدخلات الأجنبية في شؤونه بحجة حماية الأقليات الدينية حيث وقعت اتفاقية معاهدة (كوجوك كايناريا) العام 1774 بين روسيا والدولة العثمانية وأعطت حقاً للروس يسمح ببناء كنيسة أرثوذكسية في حي بكيلو الذي يسكنه الأجانب في اسطنبول، ويضمن حمايتها وحق تعيين ممثلين فيها. واعتبرت روسيا ذلك الامتياز المحدود حقا ً يمنحها صلاحية حماية كل المسيحيين الأرثوذكسيين في إنحاء الإمبراطورية العثمانية، وحق التدخل إذا ما رأت ما يهدد أوضاعهم،وأعلنت فرنسا عن رغبتها في ممارسة حق مشابه تجاه الأقلية المسيحية الكاثوليكية في الإمبراطورية العثمانية (المارونيين في لبنان). وطالبت بريطانيا بادعاء مماثل في حقها بحماية الدروز في لبنان واليهود في فلسطين ، وفي عام 1839 اصدر السلطان عبد المجيد مرسوماً سلطانيا ً(خطي شريف) في قصر كلهان، تضمن إعلان المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، مما يعني إلغاء الوضع الشرعي التقليدي لغير المسلمين على اعتبار أنهم أهل ذمة ، وفي أوربا نفسها شهدت العديد من حالات الاضطهاد حيث لعبت محاكم التفتيش الدور الأكثر وحشية في قمع الأقليات الدينية المخالفة لرأي الكنيسة ، ورغم التطور الهائل الذي شهدته أوربا ما يزال التوتر يسود بعض البلاد الأوربية بسبب قيام بعض الحركات القومية بعمليات مسلحة نتيجة النزعات الانفصالية التي تنتهجها بعض هذه الحركات كحركة إيتا والجيش الجمهوري الإيرلندي ، بعكس الحال في ” ويلز” حيث رفض سكان ويلز عام 1997 إنشاء برلمان خاص بهم طالما أنهم يتمتعون بكامل حقوق المواطنة أسوة بجميع الانكليز .
وفي الوطن العربي عموما وبعد أن نالت الدول العربية استقلالها بدأت مشكلة الأقليات تلوح بالأفق نتيجة غياب المعالجة السليمة لهذه القضية حتى وصلت الأزمة في بعض الدول العربية كالعراق مثلا إلى درجة الصدام العسكري المباشر والأمر عينه في السودان الذي تطحنه رحى الحرب الأهلية . والأقليات على اختلاف مشاربها القومية والدينية ما تزال تعاني الاضطهاد بمختلف درجاته ففي الوقت الذي تتمتع به الأقليات الدينية في بعض الدول العربية بدرجة من الحرية تكفل لها حق المعتقد وممارسة شعائرها نجد أن المملكة العربية السعودية حتى اللحظة تمنع المسيحيين فيها من ممارسة شعائرهم الدينية بشكل علني كما يمنع على أبناء الطوائف الإسلامية الأخرى من الانخراط في بعض وظائف الدولة الحساسة أما الأقليات القومية الأخرى إذا نظرنا إليهم بحسب البلدان التي يتواجدون فيها كالأكراد مثلا فإننا نلحظ أثارا عميقة للأزمة وهي تتفاوت بحسب البلد الموجودين فيه .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل يتعارض مبدأ المواطنة مع حفظ حقوق الأقليات ؟
يكفل مبدأ المواطنة من حيث الأساس مساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات ويكفل لهم مبدأ تكافؤ الفرص لذلك فإن رفض مصطلح الأقليات على المستوى الرسمي يعود في قسم كبير منه إلى القول بأن مبدأ سيادة القانون يلغي أي معنى للقول بوجود أقلية في الدولة طالما أن جميع المواطنين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات لذلك يغدو الحديث عن ” الأقلية ” بمثابة إذكاء لنار الفتنة والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد بما يهدد وحدتها الوطنية وإذا عدنا إلى مبدأ سيادة القانون فإننا لا نجد تعارضا بين إعطاء الأقليات القومية والدينية حقوقا تكفل لها الحفاظ على هويتها الحضارية والثقافية طالما أن الإنتماء للوطن الواحد هو الذي يرخي بظلاله على مختلف أوجه الحياة لأبناء الوطن فتعدد الثقافات والأعراق هو عامل ثراء لا عامل شقاء كما لا يمكن أن يغيب عن نظرنا مسألة هامة وأساسية وهي أنه ليس بالضرورة الإعتبارت القومية هي التي تلعب الدور الأساسي في النظرة إلى وجود الأقليات وإعطائها حقوقها بل تلعب الديمقراطية الدور الأبرز في هذا الموضوع فغياب الديمقراطية في العديد من الدول يجعل من جميع المواطنين بمثابة أقليات في وطنهم ” الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن ” لذلك فإن قسم كبير من أبناء الوطن العربي يعيشون غربة حقيقة في أوطانهم حيث يغدو مفهوم المواطنة مجرد كلمة تطبع على البطاقة الشخصية في الوقت الذي يتجمهر الآلاف من أبناء الوطن العربي أمام أبواب السفارات بحثا عن فرصة للهجرة حيث لا فرق بين مسلم وقبطي وبين عربي أو كردي أو بربري إلا بالفيزا .
* محام سوري