مأزق الإصلاح
عبدالحسين شعبان
تراجعت دعوات الإصلاح في العالم العربي- الإسلامي، فبعد أن شعرت بعض الحكومات العربية والإسلامية بالضيق جرّاء الضغوط التي تعرّضت لها لإنجاز إصلاحات قانونية وسياسية داخلية جاءها “الفرج”، لاسيما بعد أن تخلّت القوى الدولية الكبرى عن مشروعها الداعي للإصلاح، حتى وإن لم يكن إصلاحاً لما تريده شعوب المنطقة، وإنما “إصلاح” يضمن بعض مصالحها و”يلبي” بعض أطماعها، ويضمن نفوذها الحاضر والمستقبلي، لكنه مع ذلك فقد كان لتلك الضغوط انعكاسات داخلية لقوى الإصلاح الحقيقية في المجتمعات العربية.
ولعل تراجع دعوات الإصلاح والاستعاضة عنها بدعوات تحقيق الاستقرار، كانت بسبب فشل المشروع الأمريكي في العراق بعد احتلاله العام ،2003 فلم تستطع التجربة العراقية أن تقدم نموذجاً يُحتذى به، كما وعدت إدارة الرئيس بوش الابن، وصارت بالتدريج همّاً ومأزقاً حتى غدت كابوساً، الأمر الذي جعل حظوظ الإصلاح المنتظرة أقرب الى “الوهم” منها الى الحقيقة، حتى وإن كانت بعض التطورات الجنينية قد حصلت في بعض البلدان العربية، لكنها واجهت عقبات جدّية.
المأزق داخلياً يتعلق بالوعي بأهمية وضرورة الإصلاح والحاجة الماسة اليه، قبل أن يعصف الإرهاب والعنف بالمجتمعات العربية والإسلامية في حين أنه يتعلق خارجياً، بقراءة خاطئة لتاريخ المنطقة وحضارتها وثقافتها، وطبيعة القوى المكوّنة لمجتمعاتها، ولهذا فقد ساد انطباع لدى أوساط واسعة أن “الإصلاح” نبتة غير قابلة للحياة، خصوصاً عندما تنتقل من بيئة وتزرع في بيئة أخرى، قد لا تكون صالحة لنموّها، فما بالك عندما تأتي من الخارج وبالقوة المسلحة ومحمولة على ظهر دبابات وحاملات طائرات، وترفع شعارات أقل ما يقال عنها، أنها تعتبر الإسلام “عدواً”، وهو دين يحض على الارهاب، ولا بدّ من شن “حرب صليبية” ضده للقضاء على “الفاشية الإسلامية”، كما صرّح الرئيس الأمريكي السابق بوش بعد أن اعتذر عن مصطلح الحرب الصليبية، باعتباره زلة لسان، في حين أن شعارات الحرية والديمقراطية ظلت في الخط الخلفي.
وحتى نظام طالبان أو الأنظمة الاستبدادية العربية، كان لديها مبررات أحياناً رغم “استعصاء” التبرير في التصدي “للمحتل”، لاسيما عدم وجود مبرر لها على الإطلاق في حكم شعوبها بالحديد والنار والواحدية والإطلاقية وادعاء احتكار الحقيقة، بالاستناد الى أفضليات آيديولوجية أو عقائدية، دينية أو عرقية أو اجتماعية.
وفي كل مرة يتم فيها الحديث عن الإصلاح نصطدم بعدد من المفاهيم، هل يمكن استخدام القوة لتحقيق الإصلاح الديمقراطي، بما فيه احتلال بلدان؟ وهل الإصلاح العنفي أو بالعنف سيقود الى السلام، أم أنه سيفرض عنفاً مقابلاً؟ وكيف السبيل ليكون الإصلاح تحتياً، أي من القاعدة، يبدأ منها ويعود اليها، أي إصلاحاً شعبياً، عبر إقناع الناس، وإصلاحاً سلمياً تراكمياً وتدرجياً وليس فوقياً انقلابياً، وإصلاحاً جذرياً، وليس موديلاً كوزماتيكياً تجميلياً وترقيعياً، وإصلاحاً تتحدد أهدافه بالمطالب الشعبية وليس منفلتاً بحيث يؤدي الى نتائج عكسية أحياناً تضر بالعملية الإصلاحية، ولا بدّ للإصلاح الحقيقي أن يكون شاملاً سياسياً وقانونياً واقتصادياً واجتماعياً ودينيا، وإصلاحاً لنظم الإدارة من خلال الشفافية والرقابة والمحاسبة، إصلاحاً مضموناً من الناحية القانونية، بحيث يؤدي الى سيادة القانون ومبادئ المساواة والعدالة.
والمهم ليس التنظير للإصلاح، أو إكثار الحديث عنه، فحتى القوى غير الإصلاحية، الكابحة، أخذت تتحدث عن الإصلاح، ولكن المهم البدء بالإصلاح، خصوصاً أن أكثر من ثلاثة أجيال من الإصلاحيين في مرحلة ما بعد الاستقلالات قد انتهت الى نتائج غير مرضية رغم تضحياتها الجسام، لكن اختلالاً مفاهيمياً إزاء زاوية النظر رافق دعواتها، وبخاصة في ظل سيادة الفكر الشمولي، وهذا بحاجة الى وقفة جدية للنقد والنقد الذاتي لجميع التيارات الاشتراكية- الماركسية والقومية – العربية والإسلامية- المذهبية والطائفية في الكثير من الأحيان، وحتى بعض التيارات الليبرالية الجديدة وهي تدعو للإصلاح، فقد وضعت عينها على الخارج بتعويلية كاملة أحياناً، بسبب عدم ثقتها بإمكان تحقيق الإصلاح حالياً أو عدم قدرتها على تحمل مسؤولية صراع طويل الأمد لإنجاز ذلك داخلياً!
لقد انكسرت الموجة الأولى التي حملت تباشير الإصلاح عند شواطئ البحر المتوسط قبيل انتهاء عهد الحرب الباردة، وهي الموجة التي شملت أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينات، لاسيما بالإعلاء من قيم التعددية وإجراء الانتخابات وتداولية السلطة واحترام حقوق الإنسان، وإنهاء نموذج الاستبداد.
ولعل سبب فشل مشروع التغيير والتحوّل الديمقراطي آنذاك قد يعود الى عدم رغبات القوى الكبرى وحفاظاً على مصالحها من تحقيق ذلك، الأمر الذي عطّل الدمقرطة والتنمية، وقاد لاحقاً لمواصلة عدوان “إسرائيل” على الأمة العربية والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فضلاً عن الاحتلال الأمريكي للعراق وقبله أفغانستان وانتشار ظاهرة العنف والإرهاب على المستوى الدولي.
ولعل هذا الوضع فاقم الحاجة الى الإصلاح، الذي ارتفع رصيده بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية، وفي الوقت نفسه كشف ضعف القوى الإصلاحية بما فيها المجتمع المدني وعدم وجود إرادة دولية حقيقية لتحقيق إصلاح يستجيب لمطلب شعوب البلدان العربية والإسلامية. وهكذا فقد وُضعت المشاريع الدولية للإصلاح على الرف، مثل مشروع الشرق الاوسط الكبير ومشروع الشرق الأوسط الجديد والمشروع البريطاني والمشروع الالماني – الفرنسي وغيرها، رغم أنها مشاريع لا تستجيب لمصالح شعوب المنطقة من حيث جوهرها الحقيقي وأهدافها الخاصة، لكنها من جهة أخرى أسهمت بتهيئة ظروف موضوعية دولية، استفادت منها قوى الإصلاح الداخلي بتعزيز قدراتها الذاتية.
وإذا كان الإصلاح مساراً كونياً فهو مسار متواصل وليس مجموعة إجراءات تتخذ سريعاً وكفى الله المؤمنين شر القتال، كما يقال، وذلك لأن منطقتنا ظلّت الأقل تأثراً بهذا المسار عالمياً، لاسيما عدم توفر إرادة سياسية لدى النخب الحاكمة وغير الحاكمة، واستمرار القوانين والأنظمة المقيّدة للحريات، وضعف المشاركة السياسية وشحة الثقافة الديمقراطية وتهميش دور المجتمع المدني، والنقص الفادح في الموقف من حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، وكذلك الموقف السلبي من حقوق الأقليات والتكوينات القومية والدينية والمجموعات الثقافية.
هكذا إذاً وصل الإصلاح الى مأزق حقيقي، وإن لم تستطع القوى الحية في المجتمعات العربية وبمشاركة فاعلة من المجتمع المدني ومن خلال تضامن دولي فعّال للقوى المؤمنة بالديمقراطية، فإن أنظمة الاستبداد والأنظمة الثيوقراطية ستكون قادرة على إدامة تسلّطها وفرض هيمنتها، بل والقدرة في “تجديد” إدارتها ونزع فتيل أزمتها بما يضمن استمرارها وتخفيف عبء الضغوط عليها. وأعتقد أن النموذج الإيراني سيكون بإيجابياته وسلبياته، مؤشراً أو مجسّاً، لمدى قدرة قوى الإصلاح أو القوى المحافظة في حسم الصراع لصالحها، رغم الحراك الاجتماعي والسياسي الذي أحدثه.