صفحات مختارةميشيل كيلو

يمين الكدح والفلح

null
ميشال كيلو
ليس هناك اليوم ما هو أكثر سهولة من نقد اليسار العربي بفصائله المختلفة وألوانه المتنوعة، ذلك أن هذا اليسار لم يترك خطأ إلا واقترفه، ولم يقطع على نفسه وعداً أو عهداً إلا تنكر له، ولم يسر خطوة إلى الأمام إلا واتبعها بخطوات عشر إلى الوراء، حتى أنه حقق عكس ما كان يقوله في القضايا العربية جميعها، وجعل المواطن العربي يكره حاضره ويفتتن بماض موهوم يظن أنه كان جنة الله على الأرض، ويقطع الأمل في المستقبل، لاعتقاده أنه سيكون حتماً أسوأ من الحاضر. وإذا كان هناك ما يسم حياة هذا المواطن، فهو الشعور بالخيبة واليأس من كل شيء، وخاصة الوعود البراقة النازلة من فوق، التي جعله تناقضها مع ما أنتجته فعلياً يشعر بالخجل من نفسه، لسذاجته وسهولة وقوعه في فخ الكلمات المعسولة، وتسرعه في تصديقها، وإحساسه بالندم، ولكن بعد فوات الأوان.
ليس من الشطارة الانقضاض على الأموات، واليسار العربي، في نمطيه القومي والشيوعي، مات وشبع موتاً، أقله كما أورثتنا إياه عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وقد عبر كل منهما عن تيار سياسي / أيديولوجي داخل طبقة وسطى واسعة جدا ومفككة اجتماعيا، أنجبها مجتمع عاجز عن القيام بثورة برجوازية أو بروليتارية، تحتل طبقاته الوسطى غير البينية موقعاً يتسم بثبات كبير، وتمتلك ميلاً سياسياً قوياً نحو العنف، جعلها تحلم بتدمير “المجتمع القديم”، على لسان الشيوعيين، وتعتبر حراكها “انقلابيا”، على لسان مؤسس حزب البعث الأستاذ ميشيل عفلق.
ليس من الشطارة نقد هذا اليسار بعد موته، الذي أعلن أول ما أعلن على لسان كثير من قادته ومؤسسيه. وإذا كان هناك من ينتقد ما يسميه “يسار الكافيار والسيجار”، فإنه ينسى أنه كان دوماً، وفي ما يتجاوز لغته الثورجية وخطابيته الانقلابية، ضرباً من يمين جديد، رصده ياسين الحافظ قبل نيف وثلث قرن، ونقده بجذرية، وأسماه “التأخراكية” ـ التأخرية الاشتراكية ـ واعتبره الوجه الآخر لما في الواقع العربي من نظم “تأخرالية” ـ التأخرية الرأسمالية ـ. هذا اليمين، الذي يقود منذ نيف وثلث قرن سلطات مطلقة همها الوحيد الاستمرار، تحت أي ظرف ومقابل أي ثمن، لعب دوراً حاسماً في تدمير السياسة، وأوصل المواطن إلى الحال السابق وصفها، وقوض ما كان في حياته من إيجابيات ومكتسبات اعتبرها “برجوازية”، كالحق في التعبير والتنظيم والاحتجاج، والعدالة والمساواة وحكم القانون والانتخابات الحرة… الخ. هنا أيضا، ليس من الشطارة تنسيب هذا اليمين إلى اليسار والانقضاض عليه بحجة أنه اليسار العربي، كأنما اليسار من صنف واحد، وجيل واحد، وكأن من تمردوا على السوفييت والأحزاب القومية والشيوعية وانتقدوها، وشنوا نضالا لا هوادة فيه ضد ماضيهم وأيديولوجيته، وفي سبيل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية والمجتمع المدني، وتعرضوا لاضطهاد دائم على يد اليمين الجديد ونظمه، ليسوا أهل يسار، أو كأنهم “يسار كافيار وسيجار”!.
لا أدافع عن اليسار، ولا أهجو اليمين، البرجوازي منه والكدحاوي. إنني أرصد وقائع لا تخطئها عين منصفة، واعتقد أن من المهم التمييز بين يسار أفلس، قتلته الأيديولوجية وقلة العقل الحزبية، تحول إلى يمين بالغ الشراسة والمحافظة، وبين يسار تعلم دروس نصف القرن الماضي، يحاول ربط أحسن ما في التيار الاستقلالي الوطني والقومي مع الديموقرطية بما هي حرية فردية وعدالة اجتماعية، دون أن يلقي بالفكر التنويري والنهضوي وراء ظهره بحجة أن فكرية ثورية ما قد تخطته أو جبّته.
في الماضي، كان اليمين يستخدم لغة يسارية للتمسح بالكادحين، وكان يمرغ نفسه بترابهم، ليوهمهم أنه منحاز إليهم ويناضل من أجلهم. واليوم، يتسابق ممثلوه للتنصل من الفقراء والبؤساء، ويدعي من كان منهم شحاذا بالأمس أنه من صلب باشاوات زال عزهم، فاستعاده هو ـ بعد استيلائه على السلطة وبفضلها ـ. والعجيب أن من فشل من التقليديين العرب في رهاناته، ومن كانت وطأة فشله لا تقل عن وطأة فشل اليسار المزعوم، يرش اليوم على نفسه التراب ويعفر رأسه بالغبار، ويدعي أنه في السلطة باعتباره من أهل الكدح والفلح والشحار، وأنه ينصف الفقراء والمظلومين، الذين خانهم اليسار وغرر بهم، وصار ثريا من تعبهم وعرق جبينهم.
واليوم، يتساوى “يسار الكافيار والسيجار”، و”أهل الكدح والفلح والشحار” في مواقفهم من مواطنيهم، ويصح القول: إن أحدا من أهل الحكم لا يمثل فقراء العالم العربي ومظاليمه ومواطنيه العاديين، الغارقين في بؤس مقيم من مظاهره تهاونهم في حقوقهم، وفقدان لقمة العيش الشريف وشجاعة النضال من أجلها.
إذا كان الحديث عن يسار “الكافيار والسيجار” تعبيراً صحيحاً عن مأساة العرب الحديثة، فإن السكوت عن “يمين الكدح والفلح والشحار” هو مهزلة من أعظم مهازل تاريخهم المعاصر!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى