القمني وجريمة التنوير
كمال غبريال
كي تعرف – في زمانها – أننا قد أحدثنا الثقب في جدار الظلمة.. كي تعرف أننا أعطينا العمر لنمرر إلى جيلها خيط النور.. كي لا تشك أنه لم يكن في زماننارجال! لها أهدي هذا الكتاب.. ابنتي الرضيعة… نفرتي سيد القمني
تصدرت هذه الكلمات كإهداء كتاب سيد القمني “النبي إبراهيم والتاريخ المجهول”، وننوه بداية إلى أننا نكتب اسم سيد القمني دون أن تسبقه تلك “الدال نقطة”، لأن الرجل يسبقها ولا تسبقه، يشرفها ولا تزيده شرفاً، يرفع من قدرها وقيمتها العلمية، ولا ترفع هي من قدره، ذلك القدر الذي نعرفه ونعترف به جميعاً، عبر عقود من عطائه العلمي المخلص والمدقق والشجاع.. ليس هذا دفاعاً عن القمني، وإنما من قبيل التنفيس عما بالنفس من هم وغم، مما يجلبه لنا المئات، وربما الآلاف من حاملي مسمى الدكتوراة، ولا يألون جهداً في إغراقنا بالظلمة، وإهالة أسوأ ما في ركام نفايات الماضي من خرافة وتخلف فوق رؤوسنا.
“التنوير” هو مفتاح شخصية سيد القمني، وخيط العقد الذي يجمع حبات مؤلفاته المتلألأة، وسط غثاء السيل الذي يداهمنا من كل حدب وصوب.. التنوير بالنسبة لي، وبالتأكيد هو ما ينتهجه سيد القمني، لا يعدو أن يكون خلق مجال أو صنع ثقب في جدار التجهيل المفروض علينا، لكي يتسلل منه نور المعرفة.. ذلك أن رائد التنوير لا يكاد يتميز عن أي فرد عادي ممن يعمل على تنويرهم.. هو في الأغلب لا يأتي لهم من بنات أفكاره بشيء، أو يتفضل عليهم بأفكار عبقرية، يتصور أنهم عاجزون من تلقاء أنفسهم عن الإتيان بمثلها، بالطبع إذا ما توافرت الظروف التي تساعدهم على التفكير الحر المستقل.
الأداة الأساسية لكهنة وسدنة التخلف والهيمنة، ليس بالدرجة الأولى تحريم التفكير على الناس، رغم أن هذا هو هدفهم النهائي، بل يعتمدون على التعتيم، الذي يستحيل التفكير في ظله.. فالتفكير لن يتأتى من فراغ، فلكي يصل الإنسان إلى ما نسميه المعرفة knowledge، يحتاج إلى مادة خام يعمل عليها، هي ما نسميه معلومات information، تلك التي يتوصل إليها الباحث (مثل سيد القمني)، عن طريق تجميعه للبيانات data، وتحويلها إلى معلومات information، والباحث الأمين لا يفعل أكثر من الانتقال من مرحلة لأخرى بدءأً من البيانات، ليحولها إلى معلومات، قد يتوقف عندها، وقد يتعامل معها، مستنتجاً منها معارف، دون أن يضيف في كل تلك المراحل شيئاً من عنده.. لكني من واقع دراستي لمؤلفات سيد القمني، أستطيع أن أقول أنه كان في أحيان كثيرة يتوقف قبل مرحلة التوصل إلى النتائج التي نطلق عليها “معرفة knowledge”، ويتركها مساحة شاغرة يتوصل إليها القارئ بنفسه، وربما إذا شاء يتوصل إلى عكسها.
يعتمد سدنة الجهل والتجهيل على عدم قدرة الفرد العادي، على الاضطلاع أو قراءة ما يقولون أنه التراث المقدس، رغم أنهم يصرون ويجاهدون ويفجرون ويقتلون، لكي يجبروننا على توفيق حياتنا حرفياً، مع ما ينتقون لنا تعسفياً من هذا التراث، الذي يغوصون فيه وحدهم، ليستخرجوا منه ما شاءوا، ويتجاهلون ما شاءوا، ويتسترون على ما شاءوا، تحت مسمى “المسكوت عنه”، أو ما يحلوا لهم أن يطلقوا عليه “المضنون به على غير أهله”!!
كل “جريمة” سيد القمني (إن كان ما ارتكبه بالفعل جريمة)، هو أنه مارس حقه كإنسان عاقل وحر، وقام برحلة إلى أعماق التراث الإنساني منفرداً، ولم يسلم يده كضرير، ليسحبه أصحاب الفضيلة والقداسة، من يقدمون أنفسهم لنا على أنهم وكلاء الله على الأرض.. أنفق الرجل (ومازال ينفق) سنوات عمره وصحته في رحلاته الشجاعة والمضنية، وكان يعود بعد كل رحلة، ليضع بين أيدينا وأمام عيوننا كل أو بعض ما اضطلع عليه، وأحجم أو لم يمتلك الشجاعة في الأغلب، عن أن يقدم لنا أي نتائج، ملتزماً حرفياً بدور الباحث الأمين، الذي لا يقدم لنا أيديولوجية أو دوجما جاهزة على طبق من ذهب، لكي نبتلعها ونحن في حالة استرخاء، فمن يتحفوننا بتلك النتائج الجاهزة هم أصحاب الفضيلة والقداسة، من ينسبون إلى الله كل ما يقولونه أو يرتأونه، ويردفون به التهديدات بالويل والثبور، إذا ما حدنا قيد أنملة عما يشيرون علينا به.
في كل تلك الحملة الضارية والمسعورة على سيد القمني، لم يقدم لنا المحرضون والمهيجون جملة واحدة من عنديات الرجل، وإنما قدموا لنا ما هو مسطور ومحفوظ ومكنون لديهم، في أمهات كتب التراث، المرصوصة في مكتباتهم، وقد يفقهون أو لا يفقهون بعض أو كل ما بها، ناسبين إياها للرجل وكأنه صبأ وكفر، رغم أن من أثبتها ووثقها ثقاة الرواة والمسطرين من الأقدمين، الذين يضفي المهيجون عليهم وعلى ما كتبوا قداسة، لا ينبغي بأي حال أن تضفى على أعمال وأقوال بشر.. لكن لسوء حظهم فإن العصر لم يعد عصر التكتم والتعتيم، بعد أن أتاحت الإنترنت كل ما كانوا يتحفظون عليه داخل الكهوف المغلقة.. صارت نقرة واحدة على المواقع التي صنعها هؤلاء المتزمتين أنفسهم، وتتصدرها شعاراتهم وراياتهم وسيوفهم الشهيرة.. نقرة واحدة كافية لأن تأتي بما ينسبونه من كفر وإلحاد لسيد القمني، لينكشف المستور، فإذا ما يحرضون على أساسه البسطاء والغوغاء، هو ما قاله الثقاة، المنزهون في حسبانهم من كل نقد أو تشكيك، وهم ذاتهم من يجلدوننا لكي نسير على هداهم، فيا للعجب ويا للمهزلة!!
ليس أمامنا إزاء إصرارهم على التهييج والتكفير إلا أن نقرهم على ما يفعلون، على أن يتجهوا بتكفيرهم، ليس لسيد القمني، الذي لم يفعل غير أنه أطلعنا على بعض مما هو مسطور في كتب التراث التي يعدونها مقدسة، رغم أنها من وضع بشر، وليست نصوصاً دينية مقدسة كالقرآن والإنجيل والتوراة.. فليتجهوا بتكفيرهم وتحريضهم ضد هؤلاء الثقاة، وضد ما سطروا في سالف العصر والأوان.. ورغم أن معالجة التراث بطريقتهم هذه ستكون لو حدثت حماقة ما بعدها حماقة، إلا أنه والحالة هذه، فإنه ليس أمامنا نحن دعاة التنوير، إلا أن نقف متفرجين، وهم يكذّبون ويأكلون ويفنون أنفسهم بأنفسهم.
تحية عرفان وإجلال لكل رواد التنوير، وفي وسطهم سيد القمني، وتحية وإجلالاً لمن فتح الأبواب على مصاريعها، فلم يعد للإظلام والتجهيل من مجال، بعد أن قدم لنا الإنترنت والفيسبوك ومحركات البحث جوجل وياهو وسواها، أبواباً واسعة، وليس فقط مجرد ثقب يتسلل منه إلينا نور المعرفة.. فمنذ الآن وصاعداً لن يتمكن أحد من حجب النور عن التسلل إلى الكهوف التي سجنونا فيها دهوراً.. فليتدفق النور بلا حدود ولا قيود، وليخسأ ولتعمى عيون البوم والخفافيش، التي لا تستطيع العيش إلا في الظلام.
إيلاف